الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( لي سان كيلوت ) : نار الثورة الفرنسية و رمادها

حسين كركوش

2016 / 5 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


( لي سان كيلوت Les sans culottes) ، بصيغة الجمع ، تعبير فرنسي يعني حرفيا (الذين لا يرتدون سروايل داخلية). و كانت هذه التسمية تُطلَق قبل أكثر من قرنين ، وتحديدا منذ الثورة الفرنسية عام 1789 ، على فئات واسعة فقيرة معدمة من الشعب الفرنسي يزاول أفرادها الحرف اليدوية البسيطة : نجارون ، خدم في المقاهي والمطاعم ، باعة متجولون ، حدادون ، عمال تنظيف ، اسكافيون ، عمال زراعيون ، ، سباكون ، عمال بناء ، أصحاب حوانيت صغيرة ، عمال موسميون ، عاطلون عن العمل.

و أُطلقت عليهم التسمية بسبب نوع الملابس التي يرتدونها. فقد جرت العادة وقتذاك أن يلبس الأثرياء والأرستقراطيون والنبلاء وعلية القوم سراويل قصيرة وأخرى داخلية قصيرة من الحرير. أما ( لي سان كيلوت) فكانوا يلبسون فقط سراويل طويلة من قماش رديء مخطط طوليا بالأبيض والأزرق ، بسبب عوزهم و تمييزا لهم عن ملابس الأرستقراطيين والأثرياء. وكانوا يضعون على رؤوسهم (بيريات) حمراء لحماية شعر الرأس اثناء عملهم ، أولا ، و شارة منهم للتضامن مع العبيد ورغبة لتحريرهم ، و (يشحطون) في أرجلهم (قبقاب) ، تعبيرا عن بساطتهم وتميزهم أيضا. وكانوا لا يستخدمون أي واسطة نقل و يمشون سيرا على الأقدام.

وبعد قيام الثورة الفرنسية عام 1789 ، التي أطاحت بالنظام الملكي وأسست لاحقا لأول نظام جمهوري في فرنسا ، بل حتى قبل نجاحها تصدر ( لي سان كيلوت ) واجهة الأحداث ، وأضحوا حديث فرنسا كلها ، وخصوصا في العاصمة باريس. فقد كانوا من أشد المتحمسين للثورة. وكانوا يعتبرونها ثورتهم الخاصة التي ستقلب أحوالهم المعاشية رأسا على عقب.

وكانوا يفعلون ذلك بعفوية ، فهم لا ينتمون لحزب سياسي ولا لأي حركة سياسية ولا لأي تنظيم ، و ما كانت لهم قيادة توجههم ، ولا يمكن اعتبارهم حتى طبقة اجتماعية متجانسة يملكون وعيا طبقيا ، بالمعنى الحديث المتعارف عليه في أيامنا. الشيء الوحيد الذي يوحدهم هو ، ظروفهم الاجتماعية البائسة و أوضاعهم المعاشية المتدهورة ، و يقينهم أن الثورة ستنصفهم وتغير حياتهم.

وطوال تلك الأيام والأشهر ، والسنوات القليلة العاصفة ، التي سبقت ورافقت وأعقبت الثورة عندما كانت فرنسا ، وخصوصا العاصمة باريس تغلي كالمرجل ، و العنف يتنفسه الفرنسيون مع ذرات الهواء ، والساحات تغص بالمتظاهرين الغاضبين ، كان (لي سان كيلوت) يتواجدون في كل مكان ، ويتدخلون في كل شيء ، ويُحسب لهم ألف حساب. كانت تلك الأيام عرسهم الحقيقي.
كانوا في حركة دائبة وحراك سياسي ، لا يهدأ ولا يتوقف. وشاركوا بحماس شديد لا حد له في جميع الوقائع والمعارك السياسية التي كانت تجري. فقد شاركوا قبل الثورة في محاصرة البرلمانيين والضغط عليهم لتغيير قانون الانتخابات. وساهموا في تأجيج الشارع ضد مناورات الملك ورجال الكنيسة المتحمسين للدفاع عنه الذين كانوا يرفضون الاصلاحات الدستورية. و لشدة حماسهم واستعدادهم للمواجهة كانوا يرقصون فرحا وهم يسمعون بإعجاب الخطيب السياسي المفوه ، ميرابو ، يردد داخل البرلمان ( نحن هنا بإرادة الشعب ولن نخرج إلا على أَّسنة الحراب).

وعندما وقعت الواقعة في 14 تموز كانوا في مقدمة من هجموا على سجن الباستيل وأسقطوه.

و رغم أن الباستيل ما كان يضم لحظة الهجوم عليه سوى سبعة سجناء إلا أن سقوطه كرمز عظيم للطغيان أشعل حماس الفرنسيين ورفع معنويات المتحمسين للثورة.

و استمر نشاط ( لي سان كيلوت ) في تصاعد. فكانوا وسط الحشود الباريسية الغفيرة الغاضبة التي غصت بها ساحات وشوارع باريس في 5 اكتوبر 1789 ، أي بعد أربعة أشهر على سقوط الباستيل. و في اليوم التالي شاركوا بحماس في حماية المسيرة النسوية التي انطلقت من باريس باتجاه منطقة فرساي حيث يقيم الملك. وعندما وصلت المسيرة أمام أبواب القصر الملكي انطلق ( لي سان كيلوت) يحرضون النساء على الصراخ والهتافات ويشدون من أزرهن ، ونجحت التظاهرة النسوية في اجبار الملك على تعديل قانون الانتخابات ، ثم وجد الملك نفسه مضطرا لمغادرة قصره في فرساي والذهاب للقصر الملكي في باريس.
و ظل حماس ( لي سان كيلوت) يتصاعد ويتوهج حتى لحظات الهجوم على القصر الملكي في باريس في 10 آب 1792. ففي ذاك اليوم احتشد ( لي سان كيلوت ) أمام القصر الملكي ، وهم يرفعون الرماح التي كانوا يقولون إنهم سيرفعون على أسنتها رؤوس الخونة. وظلوا يحرضون الحشود الغاضبة التي تجمعت أمام القصر وطوقته من كل الجهات منذ ساعات الصباح الأولى. و بعد مواجهات دامية استمرت طوال ساعات اليوم بينهم وبين حراس القصر ، تمكنوا من إلقاء القبض على الملك وأفراد عائلته و وضعوهم في جناح داخل القصر تحت حراسة مشددة من قبلهم ، حيث تم الإعلان عن ولادة النظام الجمهوري لأول مرة في تاريخ فرنسا.
و طوال الأشهر اللاحقة التي اعقبت ذاك اليوم لم يتراجع نشاطهم الفوار وبلغ ذروته لحظة إعدام الملك لويس السادس عشر في ساحة الجمهورية في 1/1/1793.
وظل (لي سان كيلوت) في صدارة الأحداث ، يصولون ويجولون ، حتى اعدام روبسبير عام 1794 ، الذي كان يحظى بتقديرهم وبأعجابهم ، فشعروا باليتم بعده. ومنذ ذاك اليوم بدأوا يفقدون دورهم و نفوذهم السياسي.

ولشدة حماسهم للثورة كَّونوا ، ومنذ الأيام الأولى على قيامها ، لجانا عامة للدفاع عنها. ونشط البعض منهم كمخبرين متطوعين لدى مراكز الشرطة للإبلاغ عن أنصار النظام الملكي ، الذين هربوا وتخفى بعضهم داخل البيوت ، و شرعوا يلاحقونهم في كل مكان يعتقدون أنهم يتواجدون فيه.
ومثلما كانوا ثوريين حد النخاع في السياسة ومتمردين ، كانوا ، أيضا ، ثوريين ومتمردين ومختلفين ، في تصرفاتهم اليومية ومزاجهم وأخلاقهم.

وحتى لغة التخاطب اليومية التي كانوا يستخدمونها كانت صريحة ، خشنة ، مباشرة ، و خالية من المجاملات الدبلوماسية ، وبدون كلفة أو استخدام ألقاب ، و تحتوي على كلمات عامية وحتى (بذيئة) و تختلف كثيرا عن لغة التخاطب الأنيقة (المهذبة) المستخدمة من قبل الفئات البرجوازية والارستقراطية. فإذا أراد وأحد منهم التعريف بنفسه فأنه يكتفي بالقول : أنا المواطن فلان الفلاني ، وإذا خاطبوا الآخرين فأنهم يفعلون ذلك بدون القاب و كلمات تبجيلية ، مثل حضرتكم ، جنابكم ، سيادتكم.

وأكثر ما كان يتميز به (لي سان كيلوت) هو التواضع وروح التضحية والإيثار والبساطة في كل شيء ، ورفض التعصب الديني والطائفي ، والتعامل بأخوة و بمساواة مع الجميع ، بغض النظر عن الفوارق العرقية والأثنية ، و الفوارق المذهبية الطائفية ، بين الكاثوليك والبروتستانت ، مثلا ، ما دام الجميع فرنسيين ويقفون ضد النظام الملكي. وكانوا ضد التدخلات الإقليمية في الشؤون الفرنسية ، الممثلة بالأنظمة الملكية الأوربية التي وقفت ضد الثورة.

وفيما يتعلق بموقفهم إزاء الكنيسة و رجال الدين فأنهم لم يشذوا عن الموقف المعادي للكنيسة السائد بشدة وقتذاك ، وربما كانوا أكثر تطرفا من بقية الفرنسيين في عدائهم للكنيسة ورجالها. لكنهم ليسوا ضد الكنيسة كدار للعبادة وإنما كمؤسسة ظلت تستخدم الدين لأغراض سياسية وتدافع عن الملوك وتعتبرهم ظل الله على الأرض ، وتحمي كبار الأثرياء وتناهض أي إصلاحات لتغيير النظام القائم. وكان موقفهم المناهض للكنيسة يزداد تطرفا بفعل مواقف وتصريحات المثقفين والسياسيين الناشطين وقتذاك ، ميرابو مثلا ، المطالبين بإبعاد الجمهورية الوليدة من سطوة وتأثير وتدخل رجال الدين.

ورغم وداعتهم وبساطتهم وتواضعهم وأريحيتهم فأن ( لي سان كيلوت ) كانوا صداميين وشرسين لا يتورعون عن استخدام العنف إذا تعلق الأمر بالدفاع عن الثورة ، التي كانوا يعتبرونها ثورتهم الخاصة.
ولشدة حماسهم الثوري المتطرف و أوضاعهم الطبقية البائسة كانوا يستعجلون حدوث التغيير ، و يرفضون حتى الانتخابات البرلمانية ويعتبرونها تضييعا للوقت وضحكا على ذقون الفقراء ويرون أن البرلمان والبرلمانيين ترف سياسي ، ليس إلا.

وبالطبع ، كان (لي سان كيلوت) يحظون بازدراء ، ليس فقط ، من البرجوازيين والارستقراطيين والنبلاء ورجال العهد الملكي البائد ، وإنما حتى من بين مؤيدي الثورة ، بما في ذلك شرائح واسعة من الطبقة المتوسطة ، و بعض الأوساط المثقفة. وكل هولاء كانوا ينظرون إليهم كمثيري شغب وغوغاء ودعاة عنف وغير متحضرين ودهماء وجهلة. وكانوا يعبرون في مجالسهم الخاصة ، وأحيانا علانية ، عن أسفهم على فرنسا التي ضاعت بعد أن أصبحت تقاد من قبل هولاء الغوغاء و أشباه الأميين.
وردا على هذه الأقوال كتبت صحيفة مساندة للثورة كانت تصدر تلك الأيام أسمها ( Le Père Duchesne ) مقالا يسخر فيه صاحبه من هولاء (البطرانين) الذين يُّعيرون ( لي سان كيلوت) بالجهل وبالأمية وعدم التحضر ، وطالبهم أن يعرفوا أولا بأي ظروف بائسة يعيش هولاء التعساء قبل أن يصدروا أحكامهم. و قال الكاتب في المقال :

( أتعرفون مَن هو " سان كيلوت " ؟
هو المخلوق الذي يقطع الطرقات مشيا على الأقدام. هو الذي لا يملك الملايين كما تريدون كلكم أن تملكوا. هو الذي لا يملك قصرا منيفا ولا خدما وحشما ويسكن ، ببساطة ، في غرفة ضيقة باردة في عز الشتاء في الطوابق الأخيرة من البنايات السكنية محشورا مع زوجته و أطفاله ، هذا إذا كانت له زوجة وأطفال ، أصلا. طبعا أنتم تستفيدون من خدماته فهوا يتواجد دائما في خدمتكم ، يكدح في مزارعكم ، و يصلح أحذيتكم ويبني منازلكم ويصنع أثاث بيوتكم ، لكنه يهرق القطرة الأخيرة من دمه دفاعا عن الجمهورية. ولأن (سان كيلوت) يخصص كل ساعات يومه لتحصيل قوته اليومي ، فمن الطبيعي أن لا يتواجد معكم في الأماكن التي تتواجدون فيها ولا يلتقي بالشخصيات المعروفة في المجتمع ولا يرتاد المقاهي ولا دور اللهو ولا يرتاد المسارح. وحتى عندما يذهب في المساء ، وحال الانتهاء من عمله للالتحاق بلجان الدفاع عن الجمهورية ، فأنه لا يذهب مهندما ومتأنقا و معطرا ومتبخترا لكي يسرق أنظار الحاضرين ، إنه يذهب ليستخدم كل طاقته لرفع معنويات الحاضرين معه ودفعهم للانخراط أكثر وأكثر في الدفاع عن القضايا العادلة. أما ما تبقى فأن (سان كيلوت) يحتفظ دائما بخنجره لمواجهة أعداء النظام الجمهوري ، ويسير حاملا رمحه وهو على أهبة الاستعداد للذهاب لأي مكان دفاعا عن الجمهورية.)

هل يتقاطع ( لي سان كيلوت ) الفرنسيون أم يلتقون مع الزنج والقرامطة والعيارين والشطار ، و جماهير التيار الصدري حاليا ؟ هذا ما سنتطرق إليه في مناسبة قادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات