الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تهيمن العاطفة على العقل

محمد صالح الطحيني

2016 / 5 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لماذا تظل المشاعر والعقل في صراع بينهما؟ لمعرفة هذا من الضروري دراسة تطور المخ البشري.
يزن مخ الانسان نحو 1350 جرام ويعادل ثلاثة اضعاف حجم مخ أقرب أبناء عمومتنا في التطور من الرئيسيات غير البشرية، نما المخ على مدى ملايين السنين من التطور من الجزء القاعدي الى المراكز العليا، حيث تطورت مراكزه الأرقى من الأجزاء الأقل تطوراً والأقدم، من المعروف أن نمو المخ عند الجنين البشري يستعيد هذا المسار التطوري تقريباً.
أكثر أجزاء المخ بدائية هو جذع الدماغ المحيط بقمة الحبل الشوكي، وهذا الجزء مشترك بين كافة الأنواع حتى تلك التي تمتلك الحد الأدنى من الجهاز العصبي هذا الجزء القاعدي من المخ ينظم وظائف الحياة الأساسية مثل التنفس والتمثيل الغذائي لأعضاء الجسم الأخرى كما يتحكم في ردود الفعل والحركات النمطية. هذا المخ البدائي لا يمكن أن يفكر أو يتعلم لأنه ليس أكثر من مجموعة أدوات تنظيم مبرمجة تحافظ على استمرارية قيام الجسم بوظائفه كما ينبغي، والاستجابة بطريقة تضمن البقاء. هذا المخ كان سائداً في عصر الزواحف حين كان الثعبان يصدر فحيحاً كإشارة لخطر هجوم قادم.
نشأت مراكز المشاعر من جذع الدماغ أصل المخ الأكثر بدائية ثم نشأ العقل المفكر أو القشرة الدماغية الجديدة Neocortex مع تطور هذه المراكز العاطفية بعد ملايين السنين من مسيرة التطور هذه القشرة الجديدة عبارة عن انتفاخ بصلي كبير مكون من لفائف نسيجية تشكل الطبقات العليا من الدماغ ونشوء العقل المفكر من العقل الانفعالي يكشف عن العلاقة بين الفكر والمشاعر ، فقد كان العقل الانفعالي موجودا في المخ قبل وجود العقل المنطقي بزمن طويل .
وأقدم أصل لحياتنا الانفعالية هو حاسة الشم أو إذا شئنا الدقة الخلايا التي تستقبل وتحلل الرائحة في الفص الشمي من المخ. فكل كائن حي سواء كان كائن مفيدا او ضاراً أ رفيقا جنسياً أو مفترساً أو فريسة، كل كائن من هذه الكائنات له بصمة جزيئية مميزة يمكن ان تنتشر في الهواء. لذا كان الشم في تلك الأزمنة البدائية هو أهم حاسة للبقاء على قيد الحياة.
وقد بدأت المراكز الانفعالية القديمة في التطور من الفص الشمي في الدماغ إلى أن كبر حجمها بالقدر الذي يكفي التحلق حول مقدمة جذع الدماغ. وكان مركز الشم في المراحل البدائية يتكون من خلايا عصبية على شكل طبقات رقيقة متجمعة، مهمتها تحليل رائحة من الخلايا التي شمتها ثم تصنيفها وترسلها الى مجموعة من الخلايا المتصلة بها التي تحدد ما هو صالح للأكل أو مسموم، صالح للتعامل معه جنسياً، او معاد ، أو إن كان طعاما ... ثم ترسل طبقة أخرى من الخلايا رسائل عاكسة عبر الجهاز العصبي تبلغ الجسم بما يجب فعله . هل يقضم الشيء أو يبصق أو يقترب أو يهرب أو يطارد؟
وقد نشأت الطبقات الرئيسية للعقل الانفعالي مع ظهور الثدييات وهي الطبقات المتحلقة حول جذع المخ. ولأن هذا الجزء الحوفي Limbic System هو مشتق من الكلمة اللاتينية ( Limbus ) ومعناها دائرة هذه الأرض الجديدة الخاصة بالأعصاب أضافت إلى سجل المخ التاريخي عواطف وانفعالات متميزة فالجهاز الحوفي هو الذي يتحكم فينا حين تسيطر علينا الشهوة أو الغضب أو الوله في الحب أو التراجع خوفاً .
ومع تطور الجهاز الحوفي تحسنت وسيلتان قويتان: التعلم والذاكرة. أتاحت هذه الخطوة الثورية المتقدمة للحيوان القدرة على أن يكون أكثر ذكاء في خياراته من أجل البقاء، وأن تواكب استجابة المتطلبات المتغيرة. وألا تكون ردود أفعاله آلية كما كانت من قبل. فإذا تسبب الطعام في إصابته بالمرض استطاع تجنبه في المرة التالية وظلت قدرته على تحديد ماذا يأكل وماذا يتجنب. تتم من خلال حاسة الشم وحدها، حيث تقوم الرابطة بين بصلة الشم والجهاز الحوفي بمهمة التمييز بين الروائح المختلفة والتعرف عليها والمقارنة بينها في ذلك الوقت وما كانت عليه في الماضي وبالتالي تفرق بين الطيب والخبيث، كان هذا يتم بواسطة فص الدماغ الشمي وهو جزء من الاسلاك الطرفية والأساس البدائي للقشرة الجديدة أي الدماغ المفكر.
ومنذ حوالي مائة مليون عام تعاظم حجم المخ في الثدييات تكونت طبقات جديدة عدة من خلايا المخ على أعلى الطبقتين الرقيقتين من قشرة المخ وهي المناطق التي تتصور ما يأتي عن طريق الحس وتفهمه وتنسق الحركة، هذه الطبقات أضيفت إلى المخ فتكونت القشرة الجديدة The Neocortex وعلى النقيض من الطبقتين القديمتين لقشرة المخ فإن القشرة الجديدة مثلت تقدماً يفوق المعتاد للفكر.
والقشرة الجديدة في مخ الجنس البشري ( Homo Sabien ) أكبر كثيراً من قشرة المخ في أي نوع من الكائنات الأخرى وبالتالي أضافت لهذا الجنس كل ما يميزه عن غيره فالقشرة الجديدة تمثل مركز التفكير فهي ترتب ما يأتيها من طريق الحواس وتفهمه وهي تضيف للشعور التفكير في هذا الشعور نفسه وتسمح لنا بأن ننفعل بالأفكار والفن والرموز والخيال . لقد نتج عن القشرة الجديدة في عملية التطور مستوى من التناغم الجيد حقق بلا ريب ميزات هائلة في قدرة الكائن الحي على النجاة من الشدائد وجعله أكثر احتمالاً. بحيث تنتقل هذه الميزات إلى جينات ذريته التي تحتوي مجموعة الدوائر العصبية نفسها هذه القدرة الأكبر على البقاء على قيد الحياة تعتمد على مقدرة القشرة الجديدة على تخطيط استراتيجية طويلة الأمد وغيرها من الحيل الذهنية ومن ثم فإن كل روائع الفن والحضارة والثقافة ما هي الا ثمار قشرة المخ الجديدة كما أضافت هذه القشرة القدرة على تحديد الفروق الإضافية الدقيقة للأفكار فلنأخذ الحب مثلاً : تقوم هياكل الجهاز الحوفي بمسؤولية توريد مشاعر المتعة والرغبة الجنسية وهي المشاعر التي تغذي الشغف الجنسي وقد أدى وجود القشرة الجديدة وارتباطها بالجهاز الحوفي للمخ الى هذه الرابطة بين الام وطفلها التي هي أساس وحدة الأسرة والالتزام بتربية الأطفال منذ الازل فيما حقق إمكان التطور الإنساني .
الجدير ذكره ان الأنواع التي ليس لها قشرة مخ جديدة تفتقر إلى عاطفة الامومة مثل الزواحف التي تختبئ منها صغارها فطريا بعد ولادتها خشية التهامها. إن حماية الأبويين من بني الانسان لأطفالهما تتيح مزيداً من النضج الذي يستمر على مدى مرحلة الطفولة الطويلة وفي الوقت نفسه تستمر فيه عملية نمو المخ.
وكما بدأنا بتطور السلالات من الزواحف الى القردة الصغيرة وصولاً الى الإنسان نجد أن كتلة القشرة الجديدة تتزايد مع تزايد تداخلات دوائر المخ الكهربائية بمتوالية هندسية فكلما زاد عدد الارتباطات زادت الاستجابات الممكنة والقشرة الجديدة تتيح لحياتنا العاطفية المرونة والتعقيد معاً مثل قدرتنا على تكوين مشاعر عن مشاعرنا. والقشرة الجديدة أكبر من الجهاز الحوفي في الرئيسيات بصورة اكبر مما في الأنواع الأخرى كما انها اكبر بكثير عند الانسان وهذا يفسر قدرتنا على التعبير عن عواطفنا وقدرتنا الأكثر على اراك الفروق الدقيقة بين الأشياء فإذا نظرنا الى الارنب مثلاً أو القرد الصغير من نوع الريسس نجد استجابتهما للخوف نمطية عبارة عن مجموعة استجابات محددة بينما نجد ان القشرة الجديدة في مخ الانسان تفسر لماذا يتمتع بمجموعة استجابات أكثر دقة والجدير ملاحظته أيضا أنه بقدر تعقيد النظام الاجتماعي يحتاج الانسان الى المرونة وهل هناك عالم معقد اجتماعياً كثر من عالمنا ؟
وفي شؤون القلب الحاسمة لا تتحكم هذه المراكز العليا للقشرة الجديدة في حياتنا خاصة في حالة الطوارئ العاطفية ويمكن القول انها تنزل عند إرادة الجهاز الحوفي ولأن كثيراً من المراكز العليا نبتت من مجال المنطقة الحوفية أو أنها امتداد لها لذا يلعب العقل العاطفي دورا حاسما في التركيب العصبي ولأن هذا التركيب العصبي هو الأصل الذي نما فيه المخ الأحدث نجد أن المناطق الشعورية تتشابك منذ الأزل حيث تربط مجموعة الدوائر العصبية بكل أجزاء القشرة الجديدة وهذا ما يرفع مراكز الانفعال الى مرتبة القوة الهائلة التي تؤثر في أداء بقية الدماغ بما فيها مراكز التفكير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة ترصد مخرجات اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي


.. غالانت: إسرائيل تتعامل مع عدد من البدائل كي يتمكن سكان الشما




.. صوتوا ضده واتهموه بالتجسس.. مشرعون أميركيون يحتفظون بحسابات


.. حصانة الرؤساء السابقين أمام المحكمة العليا الأميركية وترقب ك




.. انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض