الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاومة الجنوب أفريقية للأبارتهايد: العقود الثلاثة الأولى

ديفد وايتهاوس

2016 / 6 / 20
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


مالعمل - فريق الترجمة


في عام 1948، امتطى الحزب الوطني الجنوب أفريقي حصان النصر في الانتخابات رافعا شعار «الأبارتهايد». اشتد عود الطبقة العاملة السوداء في ظل السنوات السابقة، واستغلت حملة الحزب الوطني الانتخابية مخاوف جمهور الناخبين، إذ حُصِر الانتخاب للبِيْض فقط. وكانت عشوائيات السود في تنامي على حواف المراكز المدن البيضاء،

وكان العمال السود يزدادون تنظيما، فقبل عامين من تلك الانتخابات، أضرب 60 ألف عاملا عن العمل ينتمون إلى «نقابة عمال المناجم الأفريقية» المؤسسة حديثا في منطقة جوهانسبرغ. أخمدت قوات الأمن الإضراب خلال أسبوع، ولكنهم لم يقتلوا سوى تسعة من عمال المناجم وأصابوا أكثر من ألف ومئتين عامل.

وعد الناتز بفرض أشد لقوانين العبور، واقتاد الحزب بعد أن وصل للسلطة العمالَ السود، بالفعل، إلى مراكز قروية تبعد بمسافة «آمنة» عن مناطق البِيْض. أدى التهجير القسري لعدة مظاهرات في العقد التالي، وكان سبب ذلك جزئيا هو أن أكثر المساكن الجديدة كانت بعيدة عن أماكن عمل السود. وبالنسبة للعديد منهم، أصبح من المستحيل الذهب للعمل مشيا، ولذلك تمركز العديد من المظاهرات، من ضمنها مقاطعة الحافلات، حول خدمات النقل كونها غالية وغير مريحة.

استمرت الإضرابات في أوائل الخمسينات، وكانت حول مطالب مرتبطة بالعمل بصورة رئيسية: الأجور وأوضاع العمل. كانت الإضرابات ومظاهرات القرى مهمة في كونها تبرهن قوة الطبقة العاملة، ولكن الطبقة العاملة ذاتها لم تكن منظمةً كقوة سياسية.
mandela-1958
نيلسون مانديلا (يمين)

ولكن في المقابل، ازداد تنظيم المؤتمر الوطني الأفريقي. جلبت نهاية الحرب العالمية الثانية والمطلع الرسمي لنظام الأبارتهايد جيلا جديدا في عصبة شبيبة المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC Youth League). تكون هذا الجيل من قادة مستقبليون تجاوزت رؤيتهم إطار نشاط الطبقة الوسطى المنحصر في المرافعات الهادئة إلى النظم. هذا الجيل الجديد تضمن نيلسون مانديلا ووالتر سيسولو وأوليفر تامبو، كلهم قادوا لاحقا المؤتمر الوطني، وتضمن أيضا روبرت سوبوكوي، والذي سرعان ما أسس مؤتمر الوحدويون الأفريقيون (Pan Africanist Congress).



شهد هؤلاء القادة الشباب نمو نضال الطبقة العاملة، في كل من مقرات العمل والقرى، وألهمهم أيضا ما قام به غاندي من توجيهٍ للمؤتمر الهندي نحو السياسات الشعبية. كانت الفكرة الجديدة هي أن المؤتمر الوطني الأفريقي سيحاول تحشيد القوى الشعبية الأوسع خلف زعامته. وفي عام 1952، شن المؤتمر الوطني ما عُرف لاحقا بمسمى «حملة التصدي»، وهي مقاومة لا عنفية لقوانين الأبارتهايد.

دشنت تلك الحركة العصر الحديث للسياسات الشعبية الجنوب أفريقية. فحتى ذلك الحين، اتكلت حركات المقاومة، مهما كانت شراستها، على القيادات المحلية وركزت على حزمة محددة من المطالب. كمنت مساهمة المتمر الوطني في رعايتها جهودا منسقة واستهدافها السمات الجوهرية لنظام الأبارتهايد، مثل قوانين العبور. وبذلك توسعت مواضيع النقاش لتتجاوز تكتيكات المقاومة، مع أهميتها، لتتضمن مسائل استراتيجية إسقاط النظام بأكمله.

مثلت حملة التصدي لآلاف الناس تجربتهم الأولى مع النشاط السياسي، ولكن عقد المقاومة ذاك انتهى فجأة في عام 1960 مع حصول عدة مجازر، أشهرها مجزرة شاربفيل في مارس/أذار لذلك العام. كانت المسيرة التظاهرية المناهضة لقوانين العبور، واقعا، تحت رعاية مؤتمر الوحدويون الأفريقيون الذي انفصل عن المؤتمر الوطني الأفريقي قبل عام من ذلك. قتلت قوات الأمن تسعة وستين شخصا رميا بالرصاص، أغلبهم أطلق عليهم الرصاص من الخلف أثناء هربهم.

سأستخلص نقطتين فيما يتعلق بمجزرة شاربفيل.

أولا: برهنت إمكانية وجود قوى سياسية متعددة إلى جانب المؤتمر الوطني تقوم بمبادرات ونشاطات وتتنافس على القيادة في الحركة. كان ذلك ممكنا لأن النشاط السياسي ظل ينبع من المستوى الشعبي، فبدون نشاط الناس العاديين، لن يكون لدى المنظمات المتنافسة حركة تتنافس على قيادتها، وستظل أفكار الاستراتيجيات المتنوعة مجرد أفكار لا تحمل آثارا معتبرة. ولذلك كان هنالك تناظر نشيط، وسبب ذلك بالفعل كان وجود آلاف الناس الباحثين عن أفكار يعملون وفقها.

ثانيا: بسبب أحداث شاربفيل أصبح بإمكان الناس أن يروا بوضوح فشل ثمان سنوات من النشاط وفق نموذج حملة التصدي لعام 1952 في زحزحة بنيان الأبارتهايد. الواقع هو أن الدولة كثفت قمعها بعد شاربفيل وعززت نظام الأبارتهايد بحزمة من القوانين القمعية الجديدة، و«حُظر» كل من المؤتمر الوطني والوحدويون الأفريقيون خلال أسابيع من المجزرة، وأما سوبوكوي فقد قضى الستينات في السجن. كان من اللازم على المقاومة الجديدة أن تنبع من أساس جديد.

sharpeville-flight-1
هربٌ من إطلاق النار في شاربفيل

خسر العديد روحهم المعنوية بعد شاربفيل، وأما قيادة المؤتمر الوطني، المتمركزة حينها حول مانديلا ورفاقه من عصبة الشبيبة، استنتجوا ضرورة المقاومة المسلحة لنظام الأبارتهايد، وأسسوا تنظيما سموه بـ«رمح الأمة»، أو «أومكهونتو ويه سيزويه» بلغة الزولو.

كانت الخطة هي الاضطلاع في سلسلة متصاعدة من الهجمات على الدولة، حيث يبدؤوا بمضايقات صغيرة استكشافية مثل التفجيرات الفردية ويبنوا قواهم لمواجهات أكبر. ظل تنظيم رمح الأمة نشطا حتى سقوط نظام الأبارتهايد، ولكن أنشطته لم تتجاوز هذه المضايقات بكثير.

في عام 1964، حوكم مانديلا وتسعة غيره من قيادات المؤتمر الوطني بتهمة القيام بمئتين واثنان وعشرون عمل تخريبي، وسُجن مانديلا حتى عام 1990. حُظِر المؤتمر الوطني، واتجهت أغلب قيادة التنظيم، من ضمنها قيادة رمح الأمة، إلى المنفى في بلدان أخرى في الجنوب الأفريقي. وأما في داخل البلاد، اتجهت كوادر المؤتمر الوطني إلى العمل السري ونشطت بصلة وثيقة مع الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، حيث نشط هذا الأخير أيضا نشاطا سريا وبنى سمعة في أوساط المقاومة لشجاعته وتضحياته.

استراتيجيات المقاومة

سأتطرق لفصائل المقاومة خلال لحظات، ولكن أولا، من الجدير بنا أن نأخذ لمحة على بعض الأفكار التي نمت داخل الحركة كإرشادات للنشاط.

سأبدأ أولا بسوبوكوي. أنشأ سوبوكوي مؤتمر الوحدويون الأفريقيون نتيجة شعوره بالإحباط تجاه اعتدال المؤتمر الوطني، والذي ربطه بانفتاح المؤتمر الوطني تجاه المساهمة متعددة الأعراق. كان بذلك مناصرا مبكرا لاستراتيجية التحرر الوحدوية الأفريقية التي لم تتضمن مساهمة البِيْض. فوفق سوبوكوي، بالإمكان اعتبار الشخص الأبِيْض أفريقيًا بإعلان ولائه لأفريقيا وحسب وقبوله الحكم الديموقراطي للأكثرية الأفريقية. على الرغم من هذه النظرية الطوعية (voluntarist) غير العرقية للهوية الأفريقية، قام مؤتمر الوحدويون الأفريقيون فعليا باستقصاء البِيْض.

تناغمت هذه النظرة مع تعريف البِيْض كطبقة مستعمرة مستوطنة. كان نضال السود، وفق هذه النظرة، إذا، نضالا مستقبلا، متوازيا مع النضالات الأخرى الحاصلة في القارة والهادفة إلى طرد الحكام الأوروبيين المستعمرين. أشرت مسبقا إلى إشكاليات النظر إلى الحكام البِيْض للقرن الشرين كمستعمرين، فهم لم يرسلوا أرباحهم إلى «الوطن الأم». علاوة على ذلك، إن أُسقِطوا من الحكم، فلن يكون لهم واقعا وطن يعودون له. لقد أصبحوا أفريقيين بِيْض.

شكلت آراء الوحدويون الأفريقيون هذه إلهاما لأحد شعارات جناحها العسكري في الثمانينات. كان ذلك الشعار تلاعبا بشعار «شخص واحد، صوت واحد»، إذ ناشد الشعار قائلا «مستوطن واحد، طلقة واحدة». وفي الستينات بدأ الوحدويون الأفريقيون بالانحياز بجانب النظام الصيني، بينما استمر الاتحاد السوفييتي بدعم الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي (ودعم ضمنيا حليفَ الحزب الشيوعي، المؤتمر الوطني).

توضح سياسات الوحدويون الأفريقيون أن السياسات القومية تكون أحيانا خطوة في اتجاه الراديكالية، وأن التأييد الباقي الأقلّوي لهذا التنظيم أتى من اشمئزاز الناس من بَلادة المؤتمر الوطني المتكررة. ونتج تأييد التنظيم أيضا من ملاحظة ما، وهي أنه في حال قبول حركة التحرر بعضوية الليبراليين البِيْض بالتحديد، نزحت نحو تفضيل التغيير التدريجي والتفاوض عوضا عن المواجهة. وعلاوة على ذلك، بإمكان البِيْض استخدام خلفيتهم الاجتماعية ذات الامتيازات لممارسة نفوذ أكبر من حجمهم حتى حين تكون أغلبية عضوية التنظيم من السود.

وهذه هي النقاط التي ألهمت حركة الوعي الأسود (Black Consciousness Movement) لأواخر الستينات وطوال السبعينات، بدأً بإنشاء منظمة الطلاب الجنوب أفريقيين (ساسو)، وعضويتها كانت للسود حصرا. لم يكن ستيف بيكو، مؤسس منظمة «ساسو»، معاديا لفكرة جنوب أفريقيا غير عرقية، ولكنه فضل إنشاء تنظيمات منفصلة لاعتقاده أن الليبراليين البِيْض أعاقوا نمو ثقة السود بذاتهم ونمو قيادتهم الذاتية. كانت حركة الوعي الأسود، إذا، مبنية على أفكار حول السيكولوجيا الاجتماعية للمقاومة بدلا عن نظرية محددة حول الأبارتهايد استراتيجية كبرى لإسقاطه.

والآن نتجه لأفكار المؤتمر الوطني.

إن المؤتمر الوطني خيمة كبيرة، وبذا ليس بإمكاني شمل كل تنوعات أفكاره. أول ما يقال هو أن على الرغم من تفضيل المؤتمر الوطني النضالَ المسلح نظريا، فقد كان دائما أمرا ثانويا في سياساتهم، وذلك لسببين. أولا: كان التفاوض والمصالحة موقفهم الافتراضي المبدئي، وأن تنظيم رمح الأمة كان تعبيرا عن خيبة القيادة لعدم نجاع ذلك الموقف. ثانيا: ظل بديلٌ آخر وهو النشاط الجماهيري من المستوى الشعبي ينبثق مرارا وتكرار خلال العشرين سنة التالية، وهو أمر لا يتوافق بشكل جيد مع أساليب التنظيم السري للنضال المسلح.

ولو كان بإمكان المؤتمر الوطني توظيف الضغط الشعبي كنقطة قوة ضد نظام الأبارتهايد أفضل مما يقدمه تنظيم رمح الأمة، فليكن. الأمر المهم هو أن القيادة الرئيسية للمؤتمر الوطني دائما ما فضلت نهايةً تفاوضية للأبارتهايد، إذ نظرت لكل من النضال المسلح والنشاط الشعبي كأمور يمكن توظيفها لمساعدة القيادة على استخلاص تنازلات من النظام.

هذا أمر واضح إن نظرنا له من وقتنا هذا. ولكن المؤتمر الوطني لم يكن دائما محافظا بهذا المقدار، وذلك لأنه جذب العديد من الثوريين إلى صفوفه، والحركة ذاتها برهنت مرارا وتكرارا إمكانية حصول ثورة اجتماعية احتمل غَمْرُها الأصوات الأكثر اعتدالا في المؤتمر الوطني. ولكن حزب المؤتمر كان دائما ذو تشكيلة متعددة الطبقات تتزعمه الطبقة الوسطى، حتى حين اكتسبت لاحقا قاعدة شعبية عمّالية.

وأما بالنسبة لنظريتهم حول الأبارتهايد، والاستراتيجية المقابلة لمقاومته، فقد استعار المؤتمر الوطني نظريته من الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي. حلل الحزب الشيوعي نظام الأبارتهايد «كاستعمار من نوع خاص»، أو كما وصفه مانديلا لاحقا، نوعٌ غريب من «الاستعمار الداخلي» (وليس ذلك المفهوم مع المعنى السيكولوجي لـ«الاستعمار الداخلي»، المفهوم المعروف لدى فرانز فانون والوحدويون الأفريقيون وحركة الوعي الأسود). أقرت نظرية الحزب الشيوعي حول «الاستعمار من نوع خاص» بالحقيقة الواضح القائل بأن البِيْض شكلوا طبقة حاكمة إنديجينية[§]، ولكن بالنسبة للحزب الشيوعي، لم تكن هذه هي النقطة الرئيسية. المقصد الحقيقي هو أن النضال لو كان ناضلا مناهضا للاستعمار، فالنظرية الستالينية تحدد أن الثروة ستنفصل إلى جزئين متميزين ستفصل بينهما أعوام عدة. أولا تأتي مرحلة التحرر الوطني (أو «الثورة الوطنية الديموقراطية») لإلغاء التمييز العرقي وتأسيس حكم الأغلبية السوداء. لربما يترتب على ذلك التحشيد الجماهيري للطبقة العاملة ولكنه لا يتضمن استحواذ الطبقة على السلطة أو بدايات الاشتراكية، بل على الاشتراكية أن تنتظر حتى يتطور النوع «العادي» للرأسمالية ويكون شكلها الأبارتهايدي الأعوج في الماضي البعيد نسبيا.

وأما الجناح الأكثر ليبرالية من المؤتمر الوطني فلم يناصر إلا الجزء الأول من الثورة ذات المرحلتين قائلا إن الهدف هو تأسيس رأسمالية غير العرقية، وأما الأمور الأخرى المرتبطة بالاشتراكية فما هي إلا خطاب غير مؤذية تكسب تأييد الجناح اليساري وترجئ ذلك النضال إلى أجل غير مسمى.

قد يجعل مثل هذا الحديث البعض للفظ كل من الحزب الشيوعي و، بالخصوص، المؤتمر الوطني، ولكن كما ذكرت سالفا، جذب خطاب المؤتمر حول الاشتراكية، بالفعل، أناسا رغبوا بإسقاط جميع أنواع الاضطهاد. و«ميثاق الحرية» الخاص بالمؤتمر قال، رغم كل ذلك، إن «الشعب سيحكم»، وإن ثروات البلاد الطبيعية يملكها الشعب كله. وهذا الميثاق، الذي مُرِّر في عام 1955 بوساطة مؤتمر حضره ثلاثة آلاف ممثل، لعب دورا ثنائيا في الحركة «المؤتمرية» أو «الميثاقية» الأوسع. أولا: عمل على جذب أكثر الناشطين/ات راديكالية، وكثيرا ما كان هؤلاء الأشجع والأكثر التزاما، وثانيا: وعمل كمقياس يستخدمه هؤلاء الراديكاليون/ات أنفسهم حين يقولون إن حركة المؤتمر لم تحقق مبادئها بما فيه الكفاية. وهذه النقاط لها أهمية اليوم لأن مجوعة من الناس تحمل هذه الطموحات لا تزال في المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي والنقابات المهنية المرتبطة بهم، حتى ولو أصبح هؤلاء متشائمين تجاه قيادات منظماتهم.

وهنالك نظرية أخرى للأبارتهايد، وهي النظرية التي أوصي بها، وصلت لذروة نموها في أوائل السبعينات. بعض أجزاء النظرية أتى من الأشخاص المحيطين بيسار الحزب الشيوعي (أنظر وولب، 1972)، ولكن التروتسكيين (مثل مارتن ليغاسيك) لعبوا دورا حيويا أيضا في تبيانها. تبدأ النظرية برفض فكرة أن هيمنة البِيْض في أواخر القرن العشرين كانت نوعا من الحكم الاستعماري وإدراك أن جنوب أفريقيا كانت دولة رأسمالية مستقلة. كل الدول الرأسمالية تضبط وتتحكم بعمالها وهجرتهم وحقوقهم القانونية وما إلى ذلك، وأما السمة الخاصة بنظام الأبارتهايد فهي أن التمايزات المستندة على العرق كانت رئيسية في تحديد الأدوار الاقتصادية.

هذه التشخيص لنظام الأبارتهايد يوحي بأن الطبقات الحاكمة الأخرى يمكنها التطرق لمشاكلها الخاصة المتعلقة بتنظيم وضبط العمال من خلال تصميم أشكال غير عرقية من الأبارتهايد، أو الفصل العنصري. تعرضت لهذا الموضوع في عامي 2006 و2009 في نقاشات حول نظام «الهوكو» الصيني، والذي يمنح مواطنة من الدرجة الثانية للعمال المهاجرين من الريف. وهذه المنزلة القانونية، مثلها مثل المكانة التي تُمنح بواسطة «العرق» في جنوب أفريقية الأبارتهايدية، متوارثة. أحد السمات المميزة لأنظمة الأبارتهايد بالأخص هي أن العمال يُسمح لهم بدخول المراكز السكانية، كمواطنين من الدرجة الثانية، طالما استلزم رأس المال عملهم، ولكن يتوجب عليهم العودة لـ«أوطانهم الحقيقية» في الريف متى ما سُرِّحوا من عملهم.

كانت نظرية التفوقية البيضاء وممارستها إذا مُلحقة إدماجا في أسلوب استخلاص الطبقة الحاكمة الجنوب أفريقية الأرباح وطريقة حكمهم السياسي، ولكن التفوقية البيضاء عملت كوسيلة للحكم الرأسمالي، ولم تكن غاية بحد ذاتها. أحد رؤساء وزراء جنوب أفريقيا لخص هذه الأمور بطريقته الخاصة قائلا: «نحن نحتاج السود لأنهم يعملون لدينا، ولكن حقيقة كونهم يعملون لدينا لا يمكن أن تعني ابدا استحقاقهم حقوقها سياسية».

وبذلك تشير النظرية التروتسكية بالتالي: وجود طبقة عاملة ضخمة الحجم، وتصادف الاضطهاد الطبقي مع الاضطهاد العرقي، معناهما أن حركة عمالية ثورية بإمكانها التصدي للأمرين في الوقت نفسه، بل ويلزمها التصدي للأمرين معا. تكون الاشتراكية في جدولة الأعمال في حال تمكنت الطبقة العاملة من تنظيم ذاتها باستقلالية وتتزعم سياسيا الحركة الاجتماعية الأوسع.

النشاط الجماهيري يعود إلى الواجهة


roadblock-june-76
طلاب يتظاهرون خلف حاجز طريق صنعوه

في أوائل السبعينات، ومع حظر المؤتمر الوطني والوحدويون الأفريقيون، خطت الطبقة العاملة خطوة إلى الأمام بعد أكثر من عقد من القمع. بدأت الإضرابات في عام 1973 على موانئ ديربان وانتشرت إلى مقرات العمل الأخرى في المدينة، متضمنة مئة ألف عامل وعاملة. أشعلت إضرابات ديربان هذه موجة إضرابات على المستوى الوطني.

منحت هذه الإضرابات تقديرا جديدا لقوة وأهمية نضالات أماكن العمل، وأصبح العديد من العمال ثوريين كنتيجة لذلك، إذ تضمن ذلك عددا معتبرا ميزوا ثوريتهم عن سياسات المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي. طمح تحالف المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي لتركيز اهتمام الحركة الواسعة على هدف حكم الأغلبية السوداء، وهو هدف من الممكن تحقيقه من خلال مفاوضات ودون إسقاط الرأسمالية، في حال وفرت الحركة ضغطا كافيا. ولكن المناضلين العمال الجدد ومناصروهم المثقفون طرحوا رؤية بديلة، أحيانا بعبارات مناهضة جليا للستالينية، تطمح لتدمير ثوري للأبارتهايد يقوده العمال أنفسهم.

وفي عام 1979، قامت هذه القوة، مستلهمة من انتفاضة ديربان، بتشكيل اتحاد النقابات الجنوب أفريقية (فوساتو)، وهو أول اتحاد نقابات مهنية ينشط على المستوى الوطني حقا. كان المؤتمر الجنوب أفريقي للنقابات المهنية (ساكتو)، والذي أُسّس في ذات العام الذي كُتِب فيه ميثاق الحرية (1955)، نشطا ضمن الحركة «الميثاقية» منذ إنشائه. اعتنق ساكتو، بقيادة مناضلين من الحزب الشيوعي، بنظرية «الثورة الوطنية الديموقراطية»، وبالتالي جلب على نفسه احتقارَ فوساتو.

لسوء الحظ، امتلك نشطاء فوساتو ومفكروهم نظرة ضيقة لما تحتاج الطبقة العاملة القيام به، إذ رأوا أن قوة العمال في نقطة الإنتاج ذاتها كالسمة المركزية لأي حركة ثورية، وإن كان ذلك تقدما في المنظور فهو أهمل النضال خارج مقرات العمل. وبدعوى الحفاظ على الاستقلال السياسي، أجلوا مسألة التنظيم السياسي الذي بإمكانه تنسيق نضالات الطبقة العاملة الأوسع، وحتى المنتمين للطبقة الوسطى الممكن إقناعهم بمشروعٍ اشتراكي ثوري. أطلق على هؤلاء المناضلين العمال لاحقا مسمى «العُمّالويون».

منظور العُمّالوية التنظيمي منظور مغلوط في أي مكان، ولكنه كان أسوء بالخصوص في السياق الجنوب أفريقيا، حيث حوالي ربع السكان الحضريين يعانون من البطالة والطلاب والشباب يتجهون للراديكالية وانبثقت منظمات نسائية. تاريخ جنوب أفريقيا، منذ وقت الأبارتهايد وحتى وقتنا هذا، هو تاريخ تفاعل ما بين النضالات داخل وخارج مقرات العمل. كانت المسألة النظرية والنشاطية لليسار متعلقة بأيّ أفكار وأشكال تنظيم سياسية بإمكانها تنسيق هذه النضالات بأقصى فعالية ممكنة. توجب على ناشطي فوساتو تطوير أفكارهم استجابة لتصعيدات إضافية في النضال.

ولكن حتى قبل تأسيس فوساتو، كان هنالك تصاعد ضخم ومفاجئ بُني على تفاعل نضالات مقرات العمل ونضالات الضواحي: انتفاضة سُوْيتو لعامي 1976 و1977. كانت راديكالية الشباب في السبعينات مرتبطة ارتباطا وثيقا بنضال العمال، وكما أشار بيتر دويير:


انتشرت موجة إضرابات جماهيري بين عام 1973 وعام 1976، خالقة مناخا ثوريا انتشر في أرجاء البلاد مع شروع الناشطين الطلاب في إقامة روابط مع العمال من خلال نقاشات حول مستويات الأجور والنصائح القانونية والتنظيم.

كانت سُوْيتو أكبر ضاحية سوداء في جنوب أفريقيا، إذ سكن فيها حوالي مليون شخص، وتقع على جنوب غرب أكبر مدينة في البلاد، جوهانسبرغ (ولذلك سُمّيت سُوْيتو (Soweto)، أي: South-West-Township، أو الضاحية الجنوب غربية). أتت شرارة الانتفاضة حين قررت الحكومة أن يكون تعليم الطلاب السود باللغة الأفريقانية، وهي مثابة اللغة الأجنبية للسود في تلك المنطقة.

المصدر: ووركس إن ثيوري

——

ملاحظات فريق الترجمة:

[§] إنديجينية (indigenous): كلمة تعني أن أصل الشيء أو الشخص من المكان نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي


.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ


.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا




.. ما المطلوب لانتزاع قانون أسرة ديموقراطي في المغرب؟