الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناضجون ومراهقون

فاطمة ناعوت

2016 / 6 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



صورتان لمشهدين، متزامنين، على نفس الكوكب، في ذات المجرة، وفي كون واحد.
الصورة الأولى: مجموعة من الرجال والنساء ينتمون لدولة في الشمال الأوروبي، الدنمارك، يتحلّقون حول مسجد، ليشكّلوا بأجسادهم سورَ حماية بشريًّا، ليمنعوا حرقه على يد مجموعة مراهقة من أبناء الفكر النازي المتطرّف.
الصورة الثانية: لمشاهد عديدة تمثّل مجموعة من الذكور الملثمين بالسواد يدورون على كنائس في العراق وسورية يحرقون ويهدمون ويقتلون مُصليّن. وصور شبيهة شهدناها بأنفسنا قبل عدة أعوام لمجموعة ذكور، ينتمون بحكم التاريخ لأعرق حضارات الأرض: مصر، يحملون فؤوسًا ومعاولَ وبلطاتٍ يحطمون به كنيسة الماريناب بمدينة أسوان جنوب مصر، على مدار 22 ساعة، وتكرر المشهد مع كنيسة صول بحلوان، ثم هذا العام في مدينة العامرية بالإسكندرية شمال مصر.
الفارقُ بين الصورة الأولى والصور الثانية هو الفارق بين درجات من النضوج والمراهقة على سُلّم الترقّي الإنساني. هو الفارق بين قمة السُلّم، وسفحه.
البشر الذين خلّدتهم الصورة الأولى، مختلفو العقائد والمذاهب والتوجهات الفكرية، ما بين المؤمن والربوبي اللاديني والملحد، بينما الكائنات في الصور الثانية لم يدخلوا بعد تحت مظلة الإنسانية، وبالتالي لا يحقّ لنا أن نسأل عن توجههم الفكري أو العَقَدي أو المذهبي، لأن أول شروط الفكر والمذهب والمعتقد، هو أن يكون الكائنُ "إنسانًا" في البدء. الإنسانُ الناضج يؤمن أن المعتقد شأنٌ خاصٌّ بين المرء وبين ربّه، لا يحقّ لأحد أن يتدخل فيه أو يُناوئه. أما المراهق فكريًّا أو دينيًّا فهو ذاك الذي يزجّ بأنفه في معتقدات الآخرين، ويحاول أن يعطّل طرائق تواصل أي إنسان مع ربّه، بالطريق الذي اختاره لنفسه، وسمح به الله، حينما سمح بتعدد رسالاته ولم يشأ أن يجعل الناس أمّة واحدة.
الناضجون في الصورة الأولى، وفيما يدافعون عن حقّ المسلم في الصلاة بأمان في مسجده، كانوا يدافعون عن حقوقهم الخاصة. فأنا أحمي حقوقي حينما أحمي حقوق جاري. وأهدر حقوقي حينما أساهم في هدر حقوق سواي، أو حين أسمح بأن تُهدَر حقوقه. والمراهقون في الصور الأخرى يهدرون حقوقهم فيما يهدرون حقوق سواهم.
الناضجون في الصورة الأولى، كانوا يدافعون عن إنسانيتهم الخاصة، فيما يدافعون عن إنسانية سواهم ممن يعتنقون عقيدة مخالفة لعقيدتهم. فالإنسانية تسبق العقائد، وتحميها من الزوال. أما المراهقون في الصور الأخرى فإنما يهدمون إنسانيتهم فيما يهدمون إنسانية سواهم.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، "يعيش" في توادّ وسلام واحترام بشرٌ من عشرات الجنسيات يعتنقون عشرات المعتقدات. أقول "يعيش" ولا أقول "يتعايش". إذ لا أحب تلك المفردة التي تذكّرني بتعايش الإنسان مع مرض السكر أو الكبد الوبائي أو السرطان، أو ما شابه. العيش يكون بين الأنداد والمتصالحين. والتعايش لا يكون إلا بين الخصوم أو بين الإنسان والمرض. في دولة الإمارات، المسلمة، تجد المسجد جوار الكنيسة جوار المعبد البوذي جوار المعبد الهندوسي، يخرجُ كلٌّ من دار عبادته ليتحول إلى مواطن أو وافد حاملا معتقده في قلبه وشاهرًا إنسانيته التي يواجه بها الناس.
كيف حدث هذا؟ لأن رجلا مثقفًا ناضجًا، اسمه الشيخ زايد، قرر أن يشيّد دولة ناضجة مثقفة تحترم قيمة "الإنسان"، دون النظر إلى معتقده وعِرقه ولونه. فكتب دستور هذه الدولة، وسَنّ قوانينها، ليتفقا مع هذا المبدأ: احترام الإنسان. ثم "طبّق" القانون بحسم ودون مواربة أو ميوعة، حتى أصبح ذلك المبدأ ثقافة طبيعية لدى المواطنين. وحين رحل هذا الرجل النبيل، رحمه الله، سار أبناؤه الناضجون على نهجه، وحملوا المبدأ ذاته مشعلا لا يخبو نوره، فأصبح "احترام الإنسان" نهج حياة من طبائع الأمور. وهذا ما لم يستطع حكّامُ مصر تكريسه رغم دساتيرنا المتعاقبة التي تُقرّ باحترام حق الإنسان ممارسة شعائر دينه بأمان، إلا أن "عدم تطبيق القانون" بحسم على المتطرفين كرّس شيوع الممارسات المراهقة وأدرى إلى الفتن الطائفية التي تضرب خاصرة مصر مع عشية ليلة ونهار صبح.
أحد المفكّرين حكى حكاية رمزية طريفة. تخيل أن هناك دائرة في مركزها يتجلّى الله تعالى. والبشر، على اختلاف مشاربهم، مصطفّون على محيط الدائرة ينظرون نحو الله في مركز الدائرة. الخط الواصل بين كل إنسان وبين المركز هو نصف قطر. أنصاف الأقطار لا تلتقي إلا عند المركز، حيث الله. أما لو رسمنا خطًّا بين نقطتين على المحيط، فقد رسمنا وترًا لا ينظر إلى مركز الدائرة. هذا ما يحدث حين يقتتل إنسان وإنسان ممن يقفون على محيط الدائرة. أوتار الدائرة لا تنظر إلى المركز أبدًا، وبالتالي لا تصل إلى الله. لا يقتتل شخصان وصولا إلى الله أبدًا، بل وصولا إلى الشيطان.
الله هو المحبة والرحمة والعدل والرأفة والحنوّ. شئنا هذا أم أبينا. صدّقنا هذا أم لم نصدّق. من يحب الله ويؤمن به، يحاول أن يحاكيه في كل ما سبق من قيم نبيلة على قدر إنسانيته. ومن لا يعرف الله يكون عاجزًا عن محاكاته، وله منّا الشفقة والدعاء. نحن بشرٌ بقدر نضوجنا الإنساني، ونحن كائنات حوشية وحشية بقدر ما نحمل من مراهقة وانعدام نضوج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من يستحق منهم الحياة
صباح ابراهيم ( 2016 / 6 / 27 - 14:11 )
اعجب لقوم جبلوا على الاجرام و التكفير ، وعقيدة يدعو شيوخها و منظروها على اعتبار المخالفين لهم بالعقيدة شعب من الدرجة العاشرة ويتباهون الى تكفير الاخرين ويلقبونهم بما ليس من اسمائهم كرها لهم ، يعتبرون انفسهم خلفاء و وكلاء الله على الارض يتحكمون برقاب الناس و يفرقون الرجال عن زوجاتهم بحجة التكفير و الردة ، وفيهم كل ما تحويه قواميس اللغة من مساوئ و ادران .
هم خير امة اخرجت للناس و خلائق الله الاخرين بنظرهم عبيد و كفار يجب محاربتهم و الجهاد للدفاع عن الله بقتلهم لنهم لايستحقون الحياة لكفرهم ، لكن اولئك القوم الكافرين الذين يصنعون الادوية و السيارات و الطائرات و يستخرجون للمؤمنين النفط من باطن الارض و يخترعون لهم اللقاحات و ينقذوه وقت النكبات هم قون كفرة لا يستحقون الحياة و يجب اسعبادهم و اخذ نسائهم سبايا ليستمتع بها المؤمنون اصحاب اللحى القذرة و الالفاظ ابذية من يدعون عليهم ( يا رب رمل نسائهم و يتم اطفالهم ونشف الدم في عروقهم و ااكثر فيها الامراض والزلازل ...)
مَن مِنْ اولئك يستحق الجحيم و العذاب ؟
المؤمنون او الكفرة الذي يصنع الحضارات و ينقذ البشرية من الامراض و يسهل لهم الحياة ؟

اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24