الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصيام عبادة عابرة للديانات

محمد بن زكري

2016 / 7 / 6
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في دراسات علم الأديان المقارنة (المهتمة بتتبع جذور الظاهرة الدينية و نشوء و تطور الفكر الديني) لم تصل المعرفة العلمية التاريخية إلى دليل قطعي يحسم نتيجة البحث في أي فترة زمنية أو عند أي قوم ظهرت شعيرة الصيام لأول مرة . و فيما هو معروف أن صيام شهر رمضان لدى المسلمين ، قد شُرع في السنة الثانية للهجرة ، فإن الصوم لم يكن فريضة دينية منقطعة الصلة بالديانات السابقة لدى أقوام البلاد المحيطة بجزيرة العرب ، و ذلك معطى تاريخي سجله النص القرآني : " يا أيها الذين آمنوا ، كتب عليكم الصيام ، كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون " (البقرة / 183) ؛ حيث إن الصوم من أقدم العبادات و الشعائر الدينية ، التي عرفتها المجتمعات البشرية منذ حقب زمنية موغلة في القدم . ففي الديانة المجوسية (الزرادشتية) ببلاد فارس ، قد يصل الصيام إلى خمس سنوات متواصلة ، إمساكا عن الطيبات من الأكل والشرب . و في المانوية الصيام ثلاثون يوما من الفجر إلى الغروب . و في الإيزيدية الصيام ثلاثة أيام للعامة ، و يكون من الثلاثاء إلى الخميس ، و يصادف غالبا شهر ديسمبر ، تزامنا مع الانقلاب الشتوي ، أما رجال الدين فيصومون أربعين يوما في الصيف و أربعين يوما في الشتاء . وفي مصر القديمة - حيث كان التقويم المصري قمريا فيما يخص المناسبات الدينية ، و حيث سادت عبادة إله القمر آمون - يصوم كهنة آمون ستة أسابيع من الفجر إلى المغرب . بينما يصوم عامة الناس ثلاثين يوما (حسب د. وسيم السيسي ، الباحث في المصريات ، و باحثين آخرين كثر) . و يذهب أغلب الباحثين - استئناسا بقاموس : د . بدوي / كيس - إلى أن كلمة (صوم) ليست عربية الأصل ، بل هي كلمة مصرية (هيروغليفية) ، تتكون من مقطعين (صَوْ / م) ، فالمقطع الأول صَوْ أو صاو ، يفيد في العربية معاني : امتنع / توقف / كبح ، أما المقطع الثاني (م) فيعني : عن ، و من ثم فكلمة (صوم أو صاوم) المصرية ، تعني في العربية : الامتناع عن ، الإقلاع عن ، و التوقف عن ؛ حيث يقضي الصوم الفرعوني - إما لزوما أو اختيارا - بالامتناع عن الأكل و الشرب و الجنس .
لكن أقرب الأصوام إلى صوم رمضان ، هو صوم صابئة حران (و حران منطقة تقع شمال كل من سوريا و العراق و جنوب شرق تركيا) ، حيث كان صابئة حران يصومون ثلاثين يوما ، يبتدئون صيامهم بظهور الهلال ، و ينهونه بظهور هلال الشهر التالي ؛ فإذا ظهر بعد تسعة وعشرين يوما كان صيامهم تسعة و عشرين يوما ، من الفجر إلى المغرب . كما يعيّدون بعد انتهاء شهر الصوم بعيد يسمونه (عيد الفطر) . و من ثم نفهم الإشارة إلى الصابئة في سياق النص القرآني : " إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والنصارى ، والصابئين ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (البقرة / 62) . يقول أبو الفداء إسماعيل بن علي الأيوبي ، في كتابه : المختصر في أخبار البشر " الصابئة لهم الصلاة على الميت بلا ركوع ولا سجود ، ويصومون ثلاثين يوماً ، وإن نقص الشهر الهلالي صاموا تسعاً وعشرين يوماً ، وكانوا يراعون في صومهم الفطر والهلال ، بحيث يكون الفطر وقد دخلت الشمس الحمل ، ويصومون من ربع الليل الأخير إِلى غروب قرص الشمس " ، و يقول ابن النديم في الفهرست إن : " احتفال الحرانيين بانتهاء صومهم ، يُدعَى عندهم عيد الفطر " ، و ينتهي إلى نفس النتيجة د . جواد علي ، في كتابه الموسوعي ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) . و من الملفت أن التطابق كامل بين الصيام الصابئي و الصيام الإسلامي .
ومن الملفت أيضا أن صابئة حران و الصابئة المندائية ، يصلون ثلاث صلوات في اليوم ؛ و ترتبط مواقيت الصلاة عندهم بحركة الشمس : عند شروق الشمس ، و في منتصف النهار عندما تتوسط الشمس السماء ، و عند غروب الشمس ، و يغسلون الأجزاء الرئيسة من أجسامهم - في مياه جارية - قبل كل صلاة ، على أن صلاتهم تخلو من الركوع و السجود ، فهم يصلون وقوفا . و على ذكر الصلاة ، فإن الصلاة في الديانة الزرادشتية ، تقام خمس مرات في اليوم ، و الصلاة تكون وقوفا - مع وضع اليدين فوق الصدر خشوعا - و ركوعا و سجودا ، و كل من تلك الصلوات الخمس لا بد أن تكون مسبوقة بالاغتسال .. أي الوضوء .
و تجدر الإشارة إلى أن كلا من الزرادشتية و الصابئية ديانة توحيدية ، و أن الديانتين سابقتان عن الإسلام بنحو ألفي سنة .
و في الديانة اليهودية أصوام عدة ؛ أهمها على الإطلاق هو صوم يوم الغفران ، و موعده اليوم العاشر من شهر (تيشريه) من التقويم اليهودى . و هو عند اليهود " يوم الكفارة " ، حيث يطهر فيه اليهودي نفسه من الذنوب بالصوم . جاء في كتاب العهد القديم (التوراة اليهودية) ما نصه : " ويكون لكم فريضة دهريّة ، أنكم في الشهر السابع ، في عاشر الشهر ، تذلّلون نفوسكم ، وكل عمل لا تعملون ... لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم ، لتطهيركم من جميع خطاياكم أمام الرب تطهرون " (سفر اللاويين 16 / 29) . و في العقيدة اليهودية هو اليوم الذي نزل فيه نبيهم موشيه من جبل سينا ، و معه لوحا الشريعة ، معلنا لقومه أن الرب غفر لهم خطيئة عبادة العجل . ويبدأ صيامه قبل غروب الشمس بنحو ربع ساعة إلى ما بعد غروب اليوم التالي بنحو ربع ساعة ، وهو عاشوراء اليهود .
و يُذكر أن عرب يثرب (المدينة) كانوا يصومون يوم (عاشوراء) هذا ، اقتداء بجيرانهم اليهود . و عن ابن عباس : " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى فيه اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ ، فَصَامَهُ مُوسَى . قَالَ فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ " ، وكان ذلك قبل فرض صيام رمضان ، على أن كثيرا من المسلمين لا زالوا يصومون يوم عاشوراء .
كما يصوم اليهود اليوم العاشر من شهر (طيفيت) و اليوم السابع عشر من شهر (تموز) ، طيلة ساعات النهار ، و ذلك حدادا على حصار أورشليم (القدس) قبل خراب الهيكل . كما أنهم يصومون اليوم التاسع من شهر (آف) لمدة 24 ساعة ، حدادا على سقوط أورشليم وتدمير الهيكل . و يصوم المغالون في التدين يومي الاثنين و الخميس ، على أن معظم يهود العالم لم يعودوا يقيمون شعيرة الصوم .. و لا حتى في يوم الغفران (كيبور) .
و عند العرب ، عُرف رمضان بهذا الاسم قبل الإسلام ، و يعود اشتقاقه - برأي البعض - إلى أنه قد حلّ من الزمن وقت اشتداد الحر (الرمض) عندما شرع عرب ما قبل الإسلام بتسمية الأشهر القمرية ، بينما يرجح رأي آخر ، أن اسم رمضان ، مشتق من احترار الجوف جّرّاء الظمأ . و هو ما يفيد أن عرب (ما قبل الإسلام) عرفوا الصوم في رمضان ؛ حيث كان المتحنفون يقدسون هذا الشهر ، و يقضيه بعضهم في التحنث (التعبد) بغار حراء ، كما عُرف عن عبد المطلب جد النبي محمد و عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب . و يروى العسقلاني ، في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة ، أن أبا بكر اقترب من امرأة بالمدينة ، فوجدها صائمة ، ومن جملة صيامها الامتناع عن الكلام ، ما يعني أن العرب كانوا - قبل فرض صيام رمضان - يصومون ، ممتنعين عن الطعام والشراب و النساء .. و عن الكلام أيضا . و روى البخاري و مسلم ، بسند عن عائشة ، أنها قالت : " كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية ، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصومه ، فلما هاجر إلى المدينة صامه ، و أمر بصيامه ، فلما فُرض رمضان قال : من شاء صامه ، و من شاء تركه " .
و تتعدد الأصوام في الديانة المسيحية ، لكن أهمها هو الصوم الكبير الذي تبلغ مدته 55 يوما . و سمي بالكبير لأنه يشمل ثلاثة أصوام : أسبوع الاستعداد ، ثم الأربعين يوما التي صامها يسوع المسيح صوما انقطاعيا لمدة أربعين يوما و أربعين ليلة ، ثم أسبوع الآلام . و يكون الصوم بالانقطاع عن الأكل و الشرب لفترة من الوقت .. حسب القدرة على التحمل ، وهي مبدئيا - عند المسيحي المؤمن - حتى ما بعد الزوال .
وعند الهندوس تتعدد أشكال و أنواع الصيام ، و عموما يصوم أتباع الإله شيفا يوم الاثنين من كل أسبوع (و الشيفية ديانة قمرية) ، ويصوم أتباع الإله فيشنو يوم الخميس من كل أسبوع ، و غالبا ما يكون الصوم بالامتناع عن الأكل ، من قبل شروق الشمس (الفجر) إلى وقت غروبها (المغرب) . و من اللافت أن كثيرا من المسلمين يصومون - استحبابا - يومي الاثنين و الخميس من كل أسبوع .
و الخلاصة هي أن صوم شهر رمضان في الإسلام ، منظورا إليه في سياق التطور التاريخي للظاهرة الدينية (كما يسميها محمد أركون) ، إنما هو تنويع على نفس الشعيرة الدينية ، التي كانت طقوسها تمارس - بمفاهيم و أشكال مختلفة - في الديانات السابقة له ، بل و نجده متطابقا تطابقا كاملا مع الصيام عند صابئة حران . و يلاحظ أنه في كل تلك الديانات كان الصوم مرتبطا - إلى هذا الحد أو ذاك - بحركة القمر في الدرجة الأولى و حركة الشمس في الدرجة الثانية ، ما يحيل إلى أنه كان بالأصل - في جذوره التاريخية - طقسا من طقوس عبادة الإله القمر (زوج الشمس) عند الأمم الغابرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م