الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة فكرية في: الظاهرة التموزية و ذاتها الموضوعية

عقيل الناصري

2016 / 7 / 24
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات



{ من عرف الحقيقة لا يحق له التراجع }
الثوري الجيكي فوتشك

{ ما أرخص الكلمة وما أثمن الفكرة }
غوته


يوضح تاريخية النظام السياسي العراقي المعاصر، منذ الحرب العالمية الأولى ، كما نعتقد ، أن أبرز مَعْلمان فيه ، كما نعتقد، منذ تأسيسه السياسي ولغاية الاحتلال الثالث عام 2003 هما :
- تأسيس الدولة المركزية العراقية في آب من عام 1921 ؛
- التغيير الجذري في 14 تموز من عام 1958.
على وفق معيار النقلة النوعية التي شهدها المجتمع العراقي بعد تحققهما المادي وأثرهما اللاحق في بنية المجتمع العراقي الاجتصادية والسياسية والماهية الطبقية لكلا المَعْلمان . في البدء " جرنا القرن العشرين في مبتداه جراً من عالم الامبراطوريات المقدسة ، إلى عالم الدولة المركزية الحديثة، الدولة القومية مفككا عالم الملل والنحل، عالم الرعايا ، عالم الهوية القبلية (ايديولوجية القرابة) والأديان والطوائف ( الجماعات المقدسة ) المنقسمة ، المتقابل ( أهل اعشور وأهل الذمة)ومرسياًعالم الهويات الجديدة ، العابرة ، افتراضا، لأديان والمذاهب ، والقبائل مقوضاً فكرةالرعية ، لتحل محلها فكرة المواطن المجرد... ".
وقد ترتب على هذا التغيير نتائج اجتصادية ( اجتماعية / اقتصادية) وسياسية وفكرية حركت الراكد من العلاقات المجتمعية وتناقضاتها ، التناحرية واللا تناحرية ، لتخلق بعد صيرورة التأسيس تناقضات نوعية جديدة على وفق ماهيات السلطة السياسية وقاعدتها الاجتماعية الجديدة مقارنة بالمرحلة العثمانية . لقد حدثت هذه التغييرات ، في الوقت نفسه في بنية السلطة وتطلعها المستقبلي فكان لها التأثير العميق في تطور الوعي السياسي ، النسبي، لدى عامة العراقيين ، حيث دخلت مفاهيم جديدة من قبيل الدستور، الاحزاب ، البرلمان ، الديمقراطية ، الحرية وغيرها. كما سادت رؤى غير تقليدية في البنية الفكرية تناغمت مع تطلعات الفئات الجديدة كالانتلجنسيا والفئات العمالية والكمبرادور وغيرها من الفئات البينية .. أسس كل هذا وغيره لترعرع حركة شعبية استنهاضية قادرة في النهاية على استخدام طرق مقاومة تتناسب مع طبيعة القوى الاجتماعية التي كونت القاعدة الاجتماعية للمرحلية الملكية والتي بنيتها هي ، كما نتصور، مؤلفة من عدة عناصر هي:
" 1- قوى الاحتلال الاجنبي والكادر الاداري له ؛
2- القوى الاجتماعية المحلية المتكونة من :
- المدينية: وتتمثل بالأشراف والعائلات الارستقراطية القديمة والتجار والملاكين
- الريفية : وتتمثل بمجموعة رؤساء القبائل والعشائر والكبيرة منها خاصة
- الدينية : الإسلامية السنية واليهودية بخاصة
3- الأرث المعنوي للملك (المستورد) ومجموعة الضباط العراقيين في الجيش العثماني ... ".
ومن المعلوم ، من حيث المبدأ أن البنية الطبقية لأية تشكيلة اجتماعية لا تتسم بالاستقرار ، ما بالك في مجتمعات متعددة الأنماط والمعبرة عن المرحلة الانتقالية كما في عموم البلدان النامية. إذ أخذت بعض من هذه العناصر تتحول تدريجيا وتحتل مكاناً مناسبا على حساب بقية العتاصر التي أخذت تضمحل، مما عمق تناقضاتها وذلك بإختلاف الرؤى المستقبلية للنظام السياسي وكان هذا أحد أهم جوانب الازمة البنيوية للنظام الملكي . كما عمقها تناشز ماهيات العناصر المكونة للتركيبة، حيث كانت تمثل ايديولوجيات وتقاليد سياسية متضاربة، فبعضها متأثر بالمدرسة البرلمانية البريطانية والآخر ، وبخاصة الضباط ، متأثرين بالنزعة القومية العربية ذات النزعة المركزية ، وقوى متأثرة بالأيديولوجية القرابية وجميعها متأثرة بالشريعة الاسلامية. كما أن بعضها يستمد مقوماته من الماضي ، في حين ان يعضها الآخر ( البرجوازية ) الصاعدة والعاملين في حقل التداول ، المالي والتجاري ، يستمدون فعاليتهم من المستقبل المرهون بتطور النظام ومركزيته.
هذا التناشز أرسى في أحشاء النظام أزمة بنيوية تعمقت مع توطيد السلطة المركزية وتبلورت بعض عناصر هذه التركيبة ، كما في الريف حيث وطد الاقطاع قواعده بصورة متينة ، في حين أن البعض الآخر أصابه الاضمحلال النسبي لقوة تأثيره على القرار المركزي للسلطة. مما أدى إلى تعمق هذه الأزمة للقاعدة الاجتماعية .. والتي إزدادت عمقا في مجمل ما تفكر فيه السلطة مع ضرورات الحياة وتطور المفاهيم ؛ مع نمو فئات اجتماعية ترى لا شرعية النظام القائم على القلة الاوليغاركية كفئات الطبقة الوسطى والانتلجنسيا المعبرة عن تطلعات الكم الكبير من الجماهير ، وعن ضرورة التداول السلمي للسلطة بين الطبقات الاجتماعية وليس حصرها بيد الاوليغاركية القليلة العدد، حيث لم نرى أي ممثل للعمال والفلاحين في اية دورة برلمانية في كل المرحلة الملكية .
كما أن مذهبية السلطة الملكية وعدم مشاركة المكونات الاجتماعية بذات الدرجة وإستئثار مكون واحد قد عمق من هذه الازمة البنيوية التي لازمت الملكية حتى سقوطها، وهنالك عوامل أخرى عمقت ووسعت من مظاهر الازمة وما الانتفاضات الشعبية والاضرابات العمالية والمهنية والطلابية ، إلا دليلا على ذلك.
وعليه فيمكننا القول من أن تأسيس الدولة العراقية على أسس المركزية الحديثة ، تعد الميزة الأرأسية للمرحلة الملكية ، إذ تم توحيد العشائر المتشظية وبناء بعض مقومات السوق الوطنية وبالتالي محاولة البدء في تشكيل الهوية الوطنية العراقية رغم عدم أستكمالها . وفي العاقبة يستنتج باحثان اكاديميان من المرحلة الملكية مفاده : "... ما كان يبعث على الدهشة البالغة هو التناقض الملموس بين ظواهر الأمور في الخارج وبين ما يدور بين الناس في مجالسهم الخاصة من آراء وأفكار ، فقد كان من الصعب جداً أن تجد بين الفئات المعنية بالسياسة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من لا يعارض النظام القائم بشكل من الأشكال ، ما خلا ، بطبيعة الحال ، من المنتفعين مادياً من استمرار النظام القائم أو الذين ربطوا مصيرهم بمصيره ... ".
ويكمل هذه الرؤية باحث آخر بالقول: ما عدا ذلك "... لم يجر القيام إلا بالنزر اليسير لتحسين الظرف الانساني أو تطوير أساس أجتماعي وثقافي للدولة في العراق . ففي هذه الميادين التي لا تقل عن الميدان السياسي ، غُرست بذور الثورة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية . .. ".

لذا ، في اعتقادنا، كان التغيير الجذري في 14 تموز هو استجابة لهذا الظرف الموضوعي وصيرورة لواقعه المادي وتناقضاته وإسهام الانتلجنسيا التي عملت على تهيئة مناخ التغيير القادم. بمعنى آخر أن "... العهد الملكي هو المسؤول الأصلي عن كل ما عانه العراق من انقلابات وأضطرابات وهزات ومجازر . فقد أسس ذلك النظام لما سماه الكاتب الفرنسي بيير لويزار: (دولة ضد مجتمعهاوبالتالي فإن الثورات والاضطرابات والمجازر لم تكن إلا تعبيراً عن أزمة كيان )... ".
بمعنى آخر تشير تجربة الحكم الملكي إلى وجود أزمة بنيوية كامنة في:
- العوامل الموضوعية في المجتمع العراقي؛
- وذاتية في مقومات السلطة الملكية ومكوناتها ، عرقلت هذا التطور المحتمل. الذي انعكس في : طبيعة النخبة الحاكمة وإنغلاقها على ذاتها ؛ ونظرتها الفلسفية لأفق الحياة؛ برغماتيتها العملية لإدارة الصراع الاجتماعي؛ رؤها الفكرية المستمدة من الماضي في أغلبه؛ نمط الانتاج الذي بنت عليه كل ركائزها وحاولت حمايته بالقمع الشديد؛ قاعدته الاجتماعية ومكوناتها؛ وآلية حراكها المتبادل؛ تبعيتها شبه المطلقة للمراكز الرأسمالية وربطها المحكم لمصالح العراق بهذه الأخيرة وغيرها من العوامل.. هي التي عرقلت تطور النظام السياسي برمته، وهم قبل غيرهم، قد أشاروا إلى ذلك، وليس صيرورة الانقطاع التاريخي الذي دشنت ثورة 14 تموز.

ومن الحقائق المدركة لواقع العالم العربي في مدياته التاريخية ، وبخاصة في العراق، أن النظم الملكية بدأت بالتكوين في أغلب أجزائه ، منذ مطلع القرن المنصرم .. لكن هذه الصورة التكوينية بدأت تتغير في نهايته، حيث عملت الانتفاضات والانقلابات العسكرية ، بمختلف مضاميتها وتوجهاتها على تغيير هذه الصورة ، حيث ساد العصر الجمهوري وبالاخص ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اتسمت بجملة من السمات المستنبطة من واقع حركة التاريخ في هذا الجزء الحيوي من العالم ؛ ومن صراع الدولة الكبرى عليه ؛ ومن منطق و(دكتاتورية) جغرافية المكان الجيوسياسي والطبيعي.. هذه العوامل كانت في تفاعلاتها الجدلية مع الحراك الاجتماعي المطلبي لأجل التخلص من حلقات الفقر والتخلف وما تنتجه من ظروف لا انسانية التي تعيشها أغلبية الطبقات والفئات الاجتماعية وبخاصة في الارياف.

مهدت هذه الظروف وتلك التغيرات، لكي يرتقى هذا التغيير الجذري، الذي نفذته إحدى فئات الطبقة الوسطى (الانتلجنسيا العسكرية), بذاته ومضمونه إلى مفهوم الثورة، وابتعد عن كونه مجرد انقلاب عسكري فوقي غَيَرَ نخبة الحكم بآخرين, إذ تم:
- إستلام السلطة من قبل طبقات وقوى اجتماعية جديدة ( الطبقة الوسطى) ؛
- أنصب على إحداث تغييرات في المواقع الاجتصادية والسياسية للطبقات والفئات الاجتماعية (كقوى محركة)؛
- تغير الطبيعة المادية للقاعدة الاقتصادية وأولويات أنماطها وعلاقاتها والقضايا المتبناة؛
- الأفق التاريخي لمشروعها النهضوي.

وهذا ما ميز ثورة 14 تموز عن كل الانقلابات العسكرية التي تمت في العراق المعاصر. وبمعنى آخر أن " الثورة في المجتمع, إذاً, ظاهرة طبيعية لتحول اساسي وجذري في الحياة العامة, إنها انقطاع لاستمرار وضع قائم وقيام عهد جديد. وهي إن بدت وكأنها حدث فجائي حاسم إلا انها في الواقع نتيجة تراكم العوامل المناهضة للوضع الزائل تنمو في كيانه حتى تبلغ أشدها وتفرض إرادتها التي لا مرد لها "، مما أهلها بأن تكون الثورة الوحيدة في العالم العربي في القرن المنصرم حسب رأي المستشرق مكسيم رودنسون.. لأنها : "...دشنت سياقاً تاريخياً يختلف جذرياً عما سبقه من نواحي القضايا التي تبنتها, القوى المحركة لها, الأفق التاريخي لمشروعها التحرري. لنصف أولاً بخطوط عريضة, تلك المحددات الثلاثة للثورة. فقضاياها الأبرز تمثلت في إنهاء الحكم الملكي ومعه التبعية للاستعمار البريطاني, واستكمال عناصر السيادة والاستقلال, تقليص العلاقات الاقطاعية وتحرير الثروة النفطية, بناء نظام سياسي تمثيلي يتبنى الديمقراطية وحل القضية الكردية. أما قوى الثورة (المدنية) فضمت أحزاباً علمانية, من برجوازية وطنية وشيوعية وقومية. وكان الجيش ذراعها الضارب. فيما يخص أفقها التاريخي فقد توفر على خلطة من أهداف بدت مترابطة في وقتها, حيث أقترن إتباع سياسة الحياد الايجابي مع التقارب مع الدول الاشتراكية, وإقامة حكومة وطنية مع تمهيد لوحدة عربية, وتدشين تعددية سياسية مع مفهوم تقليدي (كاريزماتي) للرئاسة ".
كما تغيرت طبيعة العلاقة الاجتماعية بمختلف أشكالها, ومضامين العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع ضمن هذه الصيرورة الجديدة، التي نما فيها دور الدولة المركزية كثيراً، كسبب ونتيجة، باعتبارها أكبر مالك منتج ومستهلك في آنٍ واحد, وبالعاقبة كونها مؤثرة في جزءٍ مهمٍ من حياة الناس، إذ " تعزز تأثير الحكومة في البنية الاجتماعية أو على الأقل في قدرتها على تحديد توجه التغير الاجتماعي بسلطاتها التخطيطية ونفوذها الأكبر في مجال توزيع الدخل الوطني وترتبط بهذا أيضاً الزيادة في وظائفها على معظم الجبهات الاقتصادية " المنتجة والخدمية كالمصارف والتأمين وفي الصناعة والنقل وفي الاستثمارات الجديدة والمخطط لها، وكذلك في قطاعي الخدمات العامة والتربية والتعليم وما رافقها من (ثورة) ثقافية، ومن سياسات اجتماعية عميقة طال كمٌ كبير من المجتمع.
وبقوة الموضوعية يمكننا أن نعتبرها بمثابة " أول بذرة تحديث في المجتمع. ولكنها بذرة تحديث قافزة من سياقاتها المنطقية إلى سياقات الثورة المسلحة. وقد لا تكون مثل هذه القفزات ناجحة دائما لا سيما إذا كانت الخميرة الاجتماعية والسياسية لم تزل غير ناضجة, وفيها من عناصر الضعف الكثير, فقد تتحول بنية التحديث رغم مشروعيتها إلى بنية تدميرية. وهذا ما حدث لاحقاً عندما تضافرت قوى الظلام الخارجية والعربية والداخلية على إجهاض بذرة الحداثة في المجتمع العراقي التي أعاد صدام حسين بعض الأمل لها في أوائل السبعينيات مقتفياً خطى عبد الكريم قاسم في كل مشاريعه. لكن ثورة النفط لم تجعل الرجل إلا مسحوقاً تحت عباءة التراث العسكري لأمة كانت!! فقضى على بذرة التحديث تلك بتدميرها من داخل مشروعها الثوري الذي أبتدأ في 14 تموز 1958 .
بمعنى آخر لا يمكن الكشف عن مضامين الثورة الحقيقية إلا بمعرفة درجة ترابطها وتجانسها مع ضرورات العلاقات الاجتماعية والأوضاع التاريخية الملموسة التي ظهرت فيها، ليس بصورة مجردة, بل لابد من ان نأخذ بالحسبان: الضرورات المحسوسة؛ والمصادفات المفاجئة ودورها؛ وأدوار القادة؛ وتغيرات الزمن وظروفه وتأثيراته على مسار تحقق ذات الثورة, ليس كعبرة للامس المنصرم حسب، بل للحاضر المأزوم والقادم المأمول كدلالة لتوحيد القوى الاجتماعية من أجل الخلاص من كابوس القهر المزمن والتخلف الدائم والاضطهاد العنفي وتعزيز الهوية الوطنية بكل تلاوينها والحد من هوة اللا مساواة الاجتصادية (الاجتماعية/الاقتصادية) الجاثمة على واقع تكويننا الاجتماعي/السياسي وأنساقهما الفكرية، ومن أجل الغد بما يحمل من مهام وأولويات جسام على العديد من الأصعدة مثل:
1- الفرد والجماعة وحقوقهما الطبيعية والمكتسبة بالتوافق مع العصر ومستقبله؛
2- البناء الاقتصادي/المادي وتطويرهما وفقاً لسنن التطور وقوانينها وحراكها؛
3- البناء الاجتماعي وتحقيق، ما أمكن، من فكرة المساواة وعدالة التوزيع للثروة المادية والحد من فعالية قانون التطور غير المتكافئ على المستوى الداخلي؛
4- البناء السياسي المنطلق من واقعية العراق وتركيبته الاجتماعية/ الاثنية والطابع التمثيلي له، ومن جدلية أربع عناصر مترابطة: النظام الجمهوري و الاستقلال السياسي والوحدة الوطنية العراقية والانتماء القومي العربي، بما يحقق التداول السلمي للسلطة ضمن التعددية السياسية ذات البعد الفيدرالي؛
5- البناء الفوقي المنبثق من واقع جدلية علاقات الإنتاج السائدة وتلك المتبقية من الزمن المنصرم وتلك الحاملة بأجنة المستقبل، التي تتعلق بالمكونات الفكرية والثقافية واللغوية المتعددة، وماله من صلة بالعلاقات الأسرية المتحضرة، وإحترام كينونة المرأة وحقوقها الطبيعية والاجتماعية، منطلقين في ذلك من أرأسيات ماهيات قانون الأحوال المدنية التي شرعته الثورة وعجزت كل الحكومات اللاحقة من الإتيان بما يماثله أو ما يقاربه؛
6- وغيرها من المهام الأرأسية، وما يتفرع منها ويستنبط، التي اضطلعت الثورة في إرساء قواعدها المادية وقطعت أشواطا في إرسائها، رغم عمرها القصير، وكانت مرساة على قاعدة المعاناة الاجتماعية والسياسية والثقافية لعراق المرحلة الملكية، مما أبعدتها, بقدر الإمكان, عن العوم في فضاء الاغتراب والاستلاب الإنساني بكل أشكال تحققه.

وتأسيسا على ذلك "... يجب ان لا تفهم طبيعة الثورات ودوافعها بإحالتها إلى اساس أيديولوجي عقائدي حيث يحركها بإتجاه معين.. الثورات هي نتيجة الصراع الطبقي الاجتماعي وهويتها لا تأتي من هوية قادتها، بل من مطالبها التي تأتي الثورة للوفاء بها وهي مطالب عامة الناس، لا فئة محددة من أهل العقائد
وينطبق هذا على ما رسمته ثورة 14 تموز من أجل تغيير أولويات العلاقات الاقتصادية الرئيسية السائدة آنذاك ومن ثم الاجتماعية, مما أتاح لها ولوج صيرورة الارتقاء للزمن القادم، وذلك بما هيأته من ظروف ملائمة للتطور وبهدمها ما استطاعت، من أسس المجتمع القديم وعلاقاته الاجتصادية وتفكك طبقاته وفئاته, كمحاولة لإخراجها من التأثيرعلى القرارات المركزية للدولة وبأقل عنفٍ ممكن، وإن استخدمته بصورة مؤقتة فكان لأجل إيقاف العنف ذاته.
لذا كانتالثورة ، كما نعتقد ، أهم عامل تحديث وتحفيز في عراق القرن العشرين، بل في المنطقة برمتها، نظراٌ لما أحدثته من تأثيرات وتغييرات في التطلعات الممكنة للتطور، وفي خلخلتها لمعادلات توازن القوى الدولية في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسيةَ. وهذا كان بحد ذاته عاملاَ مهماَ أرعب، بكل معنى الكلمة، الدول الاستعمارية الكبرى فتدخلت, بكل الوسائل المادية وغير المادية, المشروعة وغير المشروعة, لتقويض ماهيات الثورة، حتى لا تصبح قوة مثل وعنصر جذب لشعوب المنطقة.
في الوقت ذاته سرعت الثورة بخطى سريعة من صيرورات الارتقاء وغيرت بعمق من اتجاهاتها الفكرية/الاجتماعية والنفعية لدرجة أصبح معها الكم المختلف، كيفاً جديداً. لكن لا ينبغي التسليم (الرغبوي) بأن كل التغيرات التي وقعت كانت مفيدة، لأن هذا مخالف لمنطق صيرورة التغيرات ذاتها وقوانينها الموضوعية، لأنه يجب النظر إلى تاريخ المجتمع باعتباره صيرورة مضطرة نحو التقدم وأن كل خطوة هي إلى الأمام. بمعنى يجب أن لا ننظر إلى الثورة من وجهة نظر برغماتية تنطلق من فكرة إن كل ما هو ناجح هو صحيح بالضرورة. لأن " الموقف الصحيح هو أن لا نقيس الصحة بالنجاح وإنما نقيس النجاح بالصحة والسبيل إلى النجاح الأكثر دواماً واستقراراً هو اللجوء إلى الموقف الصحيح وليس العكس ".
لقد كثرت التقولات على هذا التغيير الجذري والمَعلم الأراس للعراق المعاصر ، إلى تشويهات وهجوم لا موضوعي في العديد من مفاصله ليس فعل الثورة فحسب ، بل طال حتى شخصية قائد الثورة الزعيم قاسم. لقد قيمت مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، وخاصة الحية والعضوية منها، وتلك التي تتطابق أو تتقارب مفردات مصالحها وبرامجها المبتغاة مع مبادئ الثورة ذاتها، أو تلك التي وجدت في صيرورة الثورة وسيلة لانطلاقها ومساهمتها في التغيير العضوي للبلد ولذاتها، كفكر وبرنامج وتمثيل طبقي، ولمواقعها الاجتصادية والسياسية ضمن التكوينات الاجتماعية, قيمت أغلبها فعل التغيير الجذري ومضمونه وضرورته، تقيما إيجابيا بصورة إجمالية، باعتبارها خطوة ضرورية لتطور البلد الارتقائي.
لكن هذه القوى وبخاصة اليسارية منها، أفراداً أو/و قوى سياسية وحزبية , فقد تضاربت وتناقضت بصورة صارخة، عندما تعلق فعل التقييم بشخص الفاعل العضوي الأرأس في التخطيط والتحقيق لصيرورة فعل التغيير ومؤسس الجمهورية عبد الكريم قاسم. كما أنها تباينت في مدى تحميله المسؤولية السياسية العامة، موضوعياً وذاتياً، وفي جوانب التقييم التاريخية والمنطقية. وقبل الخوض في تفاصيل ذلك لابد من القول منهجياً بالتوافق مع سلوكية قاسم في الحكم أو قبله: طالما " أن المعايب البشرية كلها لم تكن معايب لذاتها بل لأمور إقتضتها المصلحة العامة في المجتمع, وإذا كان المرء عاملاً للمصلحة العامة فمعايبه التي تبدو في عمله لا تكون معايب, إذ يجوز أن تقتضي مصلحة العموم أن يعمل عملاً يكون عند الفرد معيباً والفرد لا حكم له في جنب العموم. ثم هي تختلف بإختلاف مراتب الناس فقد يكون الشيء معيباً بالنسبة لأحدهم وغير معيب بالنسبة إلى الآخر, وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين... ".
الهوامش
- تعرض العراق المعاصر لثلاثة احتلالات هي : الأول هو 1914-1932، والثاني 1941-1947 ، والثالث هو 20039 نيسان - 31 كانون أول 2011
2 - د. فالح عبد الجبار ، في الأحوال والأهوال، المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف، ص. 18، الفرات للنشر بيروت 2008.
3 - د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة للعراق الملكي، دفاعا عن 14 توز، ط.2، ص.65، الشؤون الثقافية ، بغداد 2005.
4 - الاكاديميان أديث و أيفا بينروز، العراق : دراسة في علاقاته الخارجية وتطوراته الداخلية 1915-1975، ترجمة عبد المجيد القيسي، ص.323، العربية للموسوعات، بيروت 1979
5 - فيبي مار ، تاريخ العراق المعاصر،العهد الملكي، ترجمة مصطفى نعمان احمد، ص. 219، المكتبة العصرية، بغداد 2006
6 - جعفر الحسيني، ثورة في العراق 58-1963، نقد تجربة الدولة العراقية، ص. 9، دار الكتب العلمية ، بغداد 2009.
7- للمزيد راجع مذكرات بعض اعضاء النخبة، منهم على سبيل المثال: توفيق السويدي؛ فاضل الجمالي؛ خليل كنه؛ عبد الكريم الأزري؛ جميل الأورفه لي؛ علي الشرقي؛ ناجي شوكت؛ ومحمد حسن سلمان ؛ سعد صالح ؛ موسى الشابندر؛ أحمد مختار بابان وغيرهم.. بالاضافة الى الدراسات الجادة للباحثين العراقيين والاجانب وبالأخص منهم علماء الاجتماع: علي الوردي؛ حنا بطاطو؛ وفالح عبد الجبار، مجيد خدوري؛ كاظم حبيب؛ والزوجان سلكليت مارون وبيتر والزوجان بينروز وغيرهم .
8 - عبد الفتاح إبراهيم, معنى الثورة, أضواء على ثورة 14 تموز ص.9 ، مطبعة اللاابطة، بغداد 1959.
9 - كامل شياع, هل طوت ثورة 14 تموز 1958 فصلها الأخير، الثقافة الجديدة العدد 255 ص.55. بغداد 2003.
10- حنا بطاطو, الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ترجمو عفيف الرزاز، ج.3, ص. 433, مؤسسة الابحاث العربية ، بيروت 1990.
11 -ياسين النصير, شارع الرشيد عين المدينة وناظم النص, ص.208, دار المدى, دمشق 2003.
12 - يقصد بالبناء الفوقي " مجمل أراء المجتمع السياسية والحقوقية والفلسفية والسلوكية والجمالية والدينية، كذلك العلاقات والمؤسسات والتنظيمات المطابقة لها ". وهذه الآراء تعكس واقع البناء التحتي (العلاقات الاقتصادية) المباشرة، وتتميز باحتفاظها باستقلاليتها النسبية عن هذه العلاقات، وبديمومة جزء من بقايا العلاقات القديمة، كما تشمل أجنة العلاقات المستقبلية. وهذه جميعها تؤثر بدورها على البنية التحتية، وهذا ما يعرف بالتأثير المتبادل بين القاعدة (السبب) والبنية الفوقية (النتيجة). أما البنية التحتية فهي " جملة العلاقات الاجتماعية السائدة في حقول إنتاج المادي والتبادل والتي تؤلف البنية الاقتصادية للتشكيلة الاجتماعية ".
13 - للمزيد راجع د. فالح عبد الجبار، المقدمات الكلاسيكية لمفهوم الاغتراب، مؤسسة عيبال ، نيقوسيا 1991.
14- هادي العلوي ، المرئي واللامرئي في الادب والسياسة، ص, 89 ، دار الكنوز الادبية, بيروت 1998.
15 كان هذا الطريق محفوف بالمخاطر وهو الطريق الذي أقرته الثورة من أول يوم من أيامها ولم تنته منه ووجدت نفسها مغمورة فيه اضطراراً بفعل محاولات القوى المتضررة منها ومن مسيرتها اللاحقة، داخلياً وخارجياً وما فرضته طبيعة التحولات من ردود افعال ومما تمخض عنه صراع القوى الاجتماعية للثورة.
16د. رفعت السعيد ، تأملات في الناصرية، ص.67، الطبعة الثالثة، دار المدى، 2000 دمشق.
17- ممعروف معروف الرصافي, الشخصية المحمدية, ص. 17, دار الجمل2002 ألمانيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات