الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سارتر وبنيته الوجودية لتبنى الصهيونية

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2016 / 8 / 21
القضية الفلسطينية


فى واقع الأمر هناك من المثقفين فى المشهد المصرى من أهتم بالتعرف على وجهة نظرهم، بغض النظر عن الاتفاق بيننا فى المنطلقات الفكرية أو مناهج مقاربة الأشياء والمآلات! ومن بين هؤلاء يأتي الكاتب أ.طلعت رضوان، الذى تساجلنا من قبل حول أطروحتى فى كتاب: "خرافة الأدب الصهيونى التقدمى" التى حازت على جائزة ساويرس فى النقد الأدبي عام 2014م. وفى هذه المرة حرصت على إهدائه ترجمتى الجديدة: "تأملات فى المسألة اليهودية" لمؤلفه جان بول سارتر، والمصحوبة بدراستى النقدية على أطروحة سارتر بعنوان: "سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودى للفلسطينيين".. وقد كتب الصديق العزيز أ. طلعت مقالة نقدية عن الكتاب بعنوان: سارتر ودفاعه عن الصهيونية، نشرت فى جريدة القاهرة المصرية الأسبوعية بتاريخ الثلاثاء 9أغسطس 2016، وقد أجاد كعادته التنقل بين صفحات الكتاب والإمساك بملامحه الرئيسية، إلا أنه قد فاتته بعض النقاط البسيطة أحب أن أشير لها هنا، ليستمر التواصل والحوار الجاد فى مناقشة كلاسيكيات الفكر الأوربى التى شكلت موقفه مبكرا إزاء القضية الفلسطينية والموقف من الصهيونية والعرب!

أهم ما آخذه على الأستاذ/ طلعت رضوان هو قفزه على الدراسة النقدية التى سبقت الترجمة، والتى اعتمدت على المصادر العبرية والعربية والإنجليزية! وعلى تبيان العلاقة بين موقف سارتر الفلسفى الكلى تجاه العالم، وبين موقفه من المسألة اليهودية والصهيونية، وهو ما لم يلتفت له فى مقالته بالشكل الكافى!


سارتر واليهودية الوجودية:

موقف سارتر من اليهودية قائم على فهم وجودى بحت للعالم، فإذا اعتبرنا الوجودية هى قدرة الشخص على الوجود الحر الذى يسمح له بتكوين علاقة حقيقة مع العالم، تُكَون طبيعته واختياراته بالمفهوم الوجودى الشهير لسارتر بأن "الوجود يسبق الماهية"، بمعنى ماهية الإنسان والجماعة البشرية تكون لاحقه على وجوده، وهذا الوجود واختياراته هو الذى يحدد طبيعة وعقيدة الفرد والجماعة، تبعا لشروط الوجود الحر والعادل! من هنا قارب سارتر المسألة اليهودية التاريخية معتبرا أن اليهود تعرضوا لعملية سلب وجودى لم يعطهم الفرصة ليكونوا وجودا إنسانيا أصيلا، بسبب أن العالم سلبهم ذلك الحق فى بناء ماهيتهم وفق الحرية المفترضة لذلك! فقرر سارتر أن اليهودية سُلبت من حقها فى الوجود الحر بسبب أن العالم –ومن ثم أوربا- عاملهم بشكل جاهز واقرب لفكرة الصورة النمطية المسبقة، التى حرمتهم من بناء ماهية وجودية حرة خاصة بهم! فإجمالا طبق سارتر مفهوم الحرية الوجودية السارترية على المسالة اليهودية تاريخيا، واعتبر أن المسالة اليهودية فى أوربا هى امتداد لأزمة الصورة النمطية المسبقة تلك، وأنه ليس لليهود دخل فى المسألة اليهودية التى هى مشكلة العالم والأوربيين بشكل أكثر مما هى مشكلة يهود أوربا ويهود العالم!
من هنا قدم سارتر توصيفا فلسفيا للمسألة اليهودية يضعها فى نسق مفهومه للوجود الحر! , وقد قدمت فى دراستى: "سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودى للفلسطينيين" نقدا لهذا التصور والمفهوم الفلسفى السارترى من داخل كتابه نفسه، ومن داخل التاريخ الخاص بالجماعات اليهودية كجماعة لديها تصور مسبق عن وجودها (يخالف مفهوم الوجود الحر الذى يقول به سارتر) وهذا التصور المسبق يقوم على: "الشعب الترنسندنتالى" او "الشعب المتعالى"، بما يفرضه ذلك عليه من اختيارات مسبقة تجاه الآخرين وتجاه بحثه المستمر عن التفوق المهنى والطبقى والاجتماعى والدينى! ما قد يفرضه ذلك على الآخرين من شعوب العالم من معاملة اليهود بتعال مضاد! ودللت بأن اختيار اليهودى والجماعات اليهودية فى العالم والشتات لاختياراتها الموروثة، لم يكن فرضا من أحد! بل كان "عقيدة مسبقة" تنتقل عبر "الاختيار الذاتى" وليس عبر "الجبر الفرضى" من الآخرين.

سارتر والصهيونية الوجودية:

موقف سارتر من الصهيونية أيضا قائم على فهم وجودى بحت للعالم، فإذا اعتبرنا أن الوجود الحر يتطلب حضور "المسئولية" و"الموقف" والقدرة على الاختيار، لقلنا إن سارتر قدم الصهيونية كفعل وجودى حر، وكرد فعل على السلب الوجودى الذى تعرض له اليهود! لقد تصور المشكلة وقدم لها الحل من منظور وجودى فلسفى أيضا! اعتبر سارتر أن الصهيونية هى الاختيار و "الموقف الحر" الجماعى ليهود العالم المستلبين! واعتبر أن كل يهودى سيحاول التمرد على موقفه المأزوم كمضطهَد فى العالم، وسيحاول البحث عن موقف وجودى حر إزاء العالم، بما يجعله يتسق مع نظرائه اليهود كجماعات مضطهَدة ..؛ سيتثمل ذلك فى المشروع الصهيونى، الذى يهدف لبناء وطن يمثل موقف وجودى حر لجماعة مضطهدة عبر التاريخ! من وجهة النظر هذه.. كانت الصهيونية هى أقصى أمنيات سارتر لتحقق واقعى لفلسفته الوجودية عن فكرة "الالتزام" و"المسئولية" و"الموقف الحر"! لقد مثلت تطبيقا لتصوره عن "الإنسان الوجودى الأمثل"، القادر على التصدى للعالم فى "موقف" حر، واتخاذ "اختيارات" حاسمة.
كما أن سارتر اعتقد فى فكرة القوة وضرورتها لفرض حرية الموقف الوجودى على العالم، من خلال تبنيه لمفهوم يشبه جدلية "العبد والسيد" عند هيجل، فسارتر يعتقد أن الذى سيكسر ذهنية العبد المستضعف والمضطهد عند اليهودى، هو مواجهته للسيد بالقوة سعيا لانتزاعه حريته المستلبة كعادة كل صراعات العبد/السيد عبر التاريخ، ولهذا نجد أن سارتر فى بعض مواقفه كان يدعم العنف الصهيونى ضمنيا أو تصريحا، لأن ذلك يتفق مع وجهة نظره الفلسفية للتحرر الإنسانى! تحرر العبيد مسلوبين الإرادة وحرية الموقف الوجودى من السيد القاهر المسيطر!
وكما كان موقفى من أطروحة "الصهيونية الماركسية" فى كتابى الأول: "خرافة الأدب الصهيونى التقدمى"، الذى يتلخص فى أن فكرة إعادة تطبيع البناء الطبقى ليهود العالم فى وطن خاص، يتيح نظام إنتاجى خاص بهم يعدل الهرم الطبقى المشهوه لليهود كنخبة مهنية طبقية فى العالم! كان ذلك المشروع قد يحظى بموافقتى لو لم يكن ذلك على حساب وئد البنية الاجتماعية لجماعة بشرية أخرى هى الفلسطينين! لو كان ذلك المشروع الطبقى عن يوتوبيا "ماركسية يهودية" قد أقيم فى صحراء سيبيريا أو قطعة خالية فى أستراليا، لما اعترض عليه العرب ولا غيرهم!
هذا الرأى نفسه ومنهجه طبقته فى ردى على أطروحة سارتر، وفى ردى عليه بأن الصهيونية الوجودية عن تحرير يهود العالم المضطهَدين وفق تصور سارتر، ليس عليها أن تقوم على حساب جماعة إنسانية أخرى وسلب حقها الوجودى وهم الفلسطينيين! كما نقدت موقف سارتر من تحامله على المقاومة العربية المسلحة، التى تعرضت لموقف يضعها فى "موقف العبد" الذى عليه أن يدافع أمام من يفرض عليه منطق القوة و"موقف السيد"! وإلا أين هو العدل الوجودى الذى يقول به سارتر ويقرر به لكل جماعة إنسانية وفق تصوره الوجودى!

يهود فرنسا وموقف سارتر:

وحين أعود لمقالة الأستاذ/ طلعت رضوان أجد أنه قد تاه فى عباءة سارتر السياسية والفلسفية بعض الشئ، فتوقف أمام فقرة فى الترجمة وصفها بـ"الركيكة المربكة" وتقول هذه الفقرة ص131من الكتاب: "علاوة على ذلك دعه لا يعود نحو إسرائيل مجتمعا وماضيا عوضا عن هؤلاء الذين رفضوه. ذلك المجتمع اليهودى المبنى لا على الأمة والأرض والدين –على الأقل ليس فى فرنسا المعاصرة- ولا المصالح المادية، ولكن فقط على هوية موقف، ربما يكون فعلا يكون رابطة روحية حقيقية للعاطفة، للثقافة والتعاون المشترك"، مع الإشارة إلى انه في مقالته حذف أجزاء من الفقرة فى استشهاده سواء من وسط الفقرة أو من آخرها...!!
وفى واقع الأمر لم يفهم كاتب المقال هذه الفقرة لأن خلفيته المعرفية لمقاربة الموضوع قد خانته بعض الشئ! فسارتر هنا يقارن بين الوجود اليهودى الممزق فى الشتات الذى تغيب عنه اشتراطات وحقوق الجماعة اليهودية وامتلاكها الأرض وممارسة شعائر دينها بحرية كما هو الحال فى فرنسا حسب وصفه وتعبيره.. ثم يضع هذا كله فى كفة، ويضع فى الكفة الأخرى تصوره هو لتحقق الصهيونية الوجودية وحرية اليهودى فى فلسطين، والذى يقوم على فكرة "الموقف"، و"العاطفة" بمفهومها الفلسفى الذى أشرت له فى دراستى النقدية حين يضع سارتر مفهوم "الحدس" أو "العاطفة" بما يحملانه من ذاتية وفردية وجودية متحققة، فى مواجهة مفهوم "العقل" بما يحمله من أطر شكلتها الجماعة وصنعت إطارها، فى وقت تاريخى تمرد فيه سارتر على أطر العقل الجماعية، وأمعن فى الالتفاف حول الفردية والحدس والعاطفة، لذلك خانت الأستاذ طلعت خلفيته المعرفية فى التواصل مع الفقرة، بغض النظر غياب الموضوعية فى الحذف والاجتزاء فيها!
كما أن الأستاذ طلعت وفى الفقرة نفسها لتعجله ويبدو بسبب القراءة السريعة أو رغبة اللاوعى فى استعراض معلومات مخزنة داخله مرتبطة بالموضوع! يتساءل حول الهامش الذى وضعته للفقرة، وأشرت لأن هذه الفقرة تعبر عن موقف سارتر الداعم بوضوح للصهيونية واعتباره أن عودة اليهود لفلسطين تمثل موقفا وجوديا حرا له، يضعه فى مقابل الاضطهاد الأوربى والفرنسى –حسب تصور سارتر- لهم! فيتساءل أ.طلعت بشكل منبت الصلة تماما بالموضوع! عن ذكر سارتر لاسم "إسرائيل" فى المتن، وقولى اسم "فلسطين" فى الهامش، محتجا بالتاريخ والعهد القديم فى التفرقة بينهما!! وهنا يبدو أنه قد شرد بعض الشئ فالأمر واضح ولا يحتاج توضيح! سارتر يعتقد فى عودة اليهود إلى فلسطين كحق تاريخى لهم باسم إسرائيل! ولا خلط فى الأمر، واعتقد أن الأمر بديهى لا موضع للتساؤل فيه أصلا!!

ثنائيات سارتر ومقاربته للمسألة والفهم الأحادى!

ولأن العزيز أ.طلعت، ربما لضيق وقته لم يهتم بقراءة الدراسة النقدية المعنونة: سارتر بين الصهيونية وسلب الحق الوجودى للفلسطينيين"، ولم يقف جيدا بنفسه على تحليل وبناء العلاقات والمفاهيم فى مقاربة سارتر للمسألة اليهودية، فقد قلت فى مقدمة دراستى أن سارتر قدم عددا من الثنائيات فى توضيحه أو مقاربته للمسألة، كل ثنائية منهم تعبر عن تبنيه لفكرة ورفضه لفكرة أخرى، من هذه الثنائيات قدم: الحدس أو العاطفة فى مواجهة العقل وسبق أن وضحتهما، وقدم ثنائية: الأصالة وعدم الأصالة والأصالة ستؤدى باليهودى لموقف حر ينتهى بالصهيونية، وقدم ثنائية: العالمى والذاتى وفى تصوره اليهودى العالمى هو أقرب لفكرة النمطية والتعميمات السلبية التى لن تفيده، فى حين وصف الذاتى بالتماس مع خصوصيته ويهوديته فى مواجهة العالم القاهر وبالطبع أعلى درجات الذاتية سيكون تبنى الموقف الجماعى المحرر لليهود من خلال الصهيونية..!
لذا يقف الأستاذ طلعت إزاء واحدة من هذه الثنائيات عاجزا (ثنائية الأصالة وعدم الأصالة)! تجده يعود فى خاتمة المقالة ويرتبك فى فهمه لفقرة جديدة! فيختار فقرة من الترجمة ص168 دون أن يذكر بدايتها فى اجتزاء معيب أيضا، ويتساءل عن فهمها وتناقضها الشديد!
وذلك لأنه لم يدرك أن سارتر يسوق هذه الفقرة للتدليل على حيرة اليهودى وأزمته (وقد أشرت فى مقدمتى لأسلوب سارتر اللغوى لهذه السمات، لكن يبدو أنه لم يقرأ مقدمة الكتاب ناهيك عن متن الدراسة واكتفى بالترجمة التى لم يتمعن فيها كثيرا)، إن سارتر فى الفقرة المعنية يدلل على مدى الأزمة التى يقع فيها اليهودى واختياراته، فيستهلها قائلا: "لكن أجواء عصرنا تحول اختيارا شرعيا جدا لمصدر نزاع بين يهودنا.." وهذا الجزء أسقطه أ.طلعت فى استشهاده من الفقرة! سارتر هنا يريد التدليل على فكرة الأزمة والحيرة والتنازع التى سيقع فيها يهود فرنسا (هو يقصد يهود فرنسا حين يقول: يهودنا)، فيقول بأن الصهيونية ستعطى مبررا للمعادين للسامية فى فرنسا للتأكيد على أن فرنسا ليست الموطن الحقيقى ليهودها! وسيدعون لعودتهم للقدس فى فلسطين ليقيموا مشروعهم ودولة إسرائيل.. ويقول سارتر أن الأصالة بالنسبة لليهودى الفرنسى عندما تؤدى للصهيونية، ستصبح مضرة لأن المعادى للسامية سيتخذها حجة لطرده من فرنسا وذهابه لفلسطين! لذا سيصبح اليهودى الفرنسى الذى يريد البقاء هناك غاضبا من الصهيونية التى أعطت للمعادين للسامية فى فرنسا حجة جديدة لطردهم! كذلك سيكون الصهيونى غاضبا من اليهودى الفرنسى الذى يريد البقاء هناك، وسيتهمه بعدم الأصالة! هذه هى معضلة الأصالة التى يسوقها سارتر وحيرة اليهودى فى فرنسا، إزاء المعادين للسامية الذين يريدون طرده من فرنسا، وإزاء اليهود الصهاينة الذين يتهمون اليهودى الفرنسى بعدم الأصالة! ويختم سارتر الفقرة بالتدليل على الموقف الوجودى الصعب لليهودى الذى قد ينقلب فيه أى قرار يتخذه ضده!

خاتمة: فى البحث عن غد

مقاربة كلاسيكيات الفكر الاوربى عند رواده وفلاسفته فيما يخص الصهيونية والمسالة اليهودية، على قدر صعوبتها على البعض ومحاولته جرها لمساحات تنمطت وشبعت تنمطا فى العقلية العربية، على قدر أهميتها لبناء "موقف عربى" حقيقى يدعو لـ "التحرر الوجودى" والحق فى الحياة دون هيمنة صهيونية قامت عليها "إسرائيل" دولة المشروع، مقاربتى لأطروحة سارتر ليست سوى دعوة لمنهج فى بناء "ظهير ثقافى" عربى حقيقى وأصيل..
فهى هذه الأثناء قد يحدث الجدل والاشتباك مع طبقات المشهد الثقافى العربى التاريخية، لكن ذلك أمر طبيعى فى مسار الأشياء، ولابد سينتج عنه تأسيس لمفاهيم ومقاربات جديدة فى البحث عن غد ومشروع جديد للبلاد والمنطقة العربية كلها.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم روسي عنيف على خاركيف.. فهل تصمد الدفاعات الأوكرانية؟ |


.. نزوح ودمار كبير جراء القصف الإسرائيلي على حي الزيتون وسط مدي




.. أبرز ما تناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات الأخيرة


.. الشرطة تعتقل طالبا مقعدا في المظاهرات الداعمة لفلسطين في جام




.. تساؤلات في إسرائيل حول قدرة نتنياهو الدبلوماسية بإقناع العال