الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شوبنهاور : متلازمة التمرد الفلسفي

عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)

2016 / 9 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


شوبنهاور : متلازمة التمرد الفلسفي
ديالكتيك الامتثال و الإرادة و العلة الكافية
لعله سوء الحظ فقط ذلك الذي وضع آرثر شوبنهاور( 1789 – 1860 ) في ايام هيجل وليقدم محاضراته في ذات الوقت الذي استقطب فيه ذلك الفيلسوف العملاق كل المهتمين بالشأن الفلسفي مما جعل شوبنهاور يحاضر الى مقاعد فارغة دفعته للاعتكاف و الغضب من فيلسوف العصور ( هيجل ) حتى وصفه بأنه قربة خاوية ! .
ورغم أن الكثيرين وجدوا في شوبنهاور فيلسوفا غير أصيل محتجين بأن فكرة الارادة كونها حقيقة الوجود نجد أصولها لدى الفيلسوف المتصوف بوهمه ( bohme ) وكذلك عند معاصريه مثل فيخته و شليماخر و حتى هيجل نفسه الذي يقول في إضاءة فكرية ( أما الارادة فهي وحدها اللامتناهية وهي وحدها المطلقة في مقابل كل شيء آخر غيرها في حين أن هذا الآخر نسبي فحسب ) ، كذلك فإن تقسيمه للعالم الى ظواهر وعالم الشيء في ذاته هو تقسيم كانطي مؤكد فقوله ( ان الشيء في ذاته مختلف تماما عن الظواهر ذاتها إلا أنه من حيث تجليه يكون خاضعا لمبدأ العلة الكافية ) هو قول منتم كليا للمدرسة الفلسفية الكانظية حيث يقول كانط ( الزمان والمكان و العلية ما كان لها ان تكون من خواص الشيء في ذاته إلا بعد ان يكون تمثلا أي انها تنتمي الى ظاهرته و الى مظهره لا إليه في ذاته ) وسيكرر شوبنهاور هذا المفهوم كثيرا ، ومع كل ذلك فإن فلسفة شوبنهاور كانت من نسيج مميز مختلف عن الآخرين ، كتب كارل بويز في كتابه النقدي لهيجل – المجتمع المفتوح وأعداؤه – واصفا شوبنهاور ( إنه من أخلص الفلاسفة سعيا وراء الحقيقة ) .
يبدأ شوبنهاور عرضه الفلسفي الواسع بإعلان حاد المعالم : العالم هو تمثلي .. ( The world is my representation ) وهو هنا لا يسلك سلوك المثاليين الذاتيين الذين هزأ بهم إذ يقول ( ان الشك في واقعية العالم يمكن ان يحدث فقط بالنسبة لعقل قد أفسدته البراعة المفرطة بالسفسطة ) ، كما انه رفض تماما ما ذهب اليه فيخته الذي انطلق من الذات و حاول جعل الموضوع ناتجا عنها وهو مذهب وصفه بالمزيف كما وصف فيخته ذاته بانه فيلسوف مزيف ، لكنه يضع الذات الواعية المدركة كشرط ضروري لتحقق وجود العالم كتمثل ، ولذلك فكل ما يمكن ان ينتمي الى العالم يكون على علاقة وجودية ضرورية بوجود الذات وهو يوجد لأجل الذات ولذا فالعالم هو تمثل . إن هذه المسلمة الشوبنهاورية التمسها ديكارت في تأملاته وكذلك بريكلي لكن كانط اغفلها تماما على حد قول شوبنهاور وهي نفس فكرة فلسفة الفيدانتا التي تعزى الى فياسا الهندي حيث ارتأت ان الوجود المادي ليس له وجود مستقل عن الادراك الذهني مع التأكيد على وجوده الحقيقي فهذا الوجود و القابلية للإدراك مصطلحان مترادفان . ولكن هذا الاعلان الواضح مرتبط تماما بإعلان آخر عده شوبنهاور حقيقة بالغة الجدية والمهابة وأحيانا مروعة بالنسبة لكل فرد وهي التي تقول إن العالم هو إرادتي ... ( The world is my will ) .
لم يطرح شوبنهاور نفسه ذاتيا رغم أنه يرى ان الذات تعرف الأشياء ولكن لا يمكن تعريفها بأي من تلك الأشياء وكل ما يوجد إنما يوجد بالنسبة للذات وفي موقف ديكارتي واضح نص على أن الفرد يميز نفسه كتفكير ، فهو يقول في نص ذو مضامين واسعة ( كل فرد يجد نفسه ذاتا من حيث هو يعرف لا من حيث يكون موضوعا للمعرفة ) ، وهذا العالم بوصفه تمثلا لا ينطلق من الذات انما يتألف بدوره من نصفين ضروريين الأول هو الموضوع أما الثاني فهو الذات وإن ( عالم الموضوعات يبقى بأسره و الى الأبد مشروطا بالذات أي أنه بعبارة أخرى له طبيعة مثالية ترنسنداتالية ويقدم نفسه كسلسلة من التمثلات التي يكون مبدأ العلة الكافية هو الرابطة المشتركة بينهما ) ، ان شوبنهاور في تأكيداته على هذه العلاقة الضرورية بين الذات والموضوع ينفي بشكل قاطع وجود أي منهما بمعزل عن الآخر و مع مناقشته لعدم وجود موضوع كتمثل دون وجود للذات فإنه ترك تماما المناقشة الأخرى وهي احتمال وجود ذات دون موضوع على أساس أن وجود الذات الواعية يتطلب بالضرورة البديهية التواجد المادي حتما و الذي سيشكل دائما موضوعا مباشرا بالنسبة لها ..
ان ما ميز شوبنهاور على نحو جلي هو انطلاقه من التمثل وليس من الموضوع أو الذات حيث انه يتضمنهما معا و التقابل بينهما هو الصورة الجوهرية للتمثل ، وقد اوضح تلك المسألة بقوله ( ان منهجنا الذي نسير عليه يختلف عن المادية و عن الذاتية حيث إنه يبدأ من التمثل باعتباره الواقعة المهمة الأولى للوعي و الصورة الأساسية لهذا التمثل هي القسمة الثنائية الى موضوع و ذات ) ، إن فيخته بمثاليته المفرطة يجعل الموضوع أي العالم كوجود حقيقي معلولا للذات وناتجا عنها ولا يمكن أن نجد في التمثل سوى المعلول ولا نجد العلة وهكذا لا يكون هناك وجود واقعي .، لكن شوبنهاور يرد على هذا الفهم الفيختي بقوله ( إن الموضوع والتمثل هما نفس الشيء وإن الوجود الحقيقي للموضوعات التي نراها في العيان هو تأثيرها وواقعية الشيء بالضبط تكمن في ذلك ) ، وفي صلب فلسفته ان العالم المدرك عيانيا في زمان ومكان معينين هو عالم واقعي يقع خارج اجسادنا تماما وهو ليس سوى العلية و يكون بالضبط على الشكل الذي يتبدى عليه وإن العالم يقدم نفسه بشكل فطري باعتباره ما هو عليه .
وفي اطار تأملي آخر ذهب بعض الفلاسفة الى احتمال ان تكون الحياة مجرد جلم ..! ..سيما أن افلاطون قال ذات مرة ( إن الناس يعيشون فقط في الحلم والفيلسوف وحده يبقى مستيقظا ) ، كذلك قال شكسبير في مسرحية العاصفة ( نحن مصاغون من نفس نسيج الأحلام وحياتنا الضئيلة مكتشفة بحلم ) ، وهذا التأمل يطرح بالفعل شكوكا بواقعية العالم لكن كانط أجاب عن ذلك بقولة ( ان ارتباط التمثلات ببعضها وفقا لقانون العلية هو ما يميز الحياة عن الحلم ) أي أننا نعيش بعالم تحكمه قوانين لا يمكن اختراقها ولو حصل ذلك فقد انتقلنا حينها فقط الى عالم الأحلام ، يقول شوبنهاور بهذا المعنى ( ان الحياة و الاحلام أوراق من نفس الكتاب ) .
ويخضع الموضوع عند شوبنهاور لصورتي الزمان و المكان واللذين من خلالهما تنشأ الكثرة أما الذات فهي لا تقع في اطارهما لأنها كل مجمل و لا يتجزأ في كل موجود و يقوم بفعل التمثل ، هذان النصفان - الموضوع والذات – متلازمان حتى بالفكر لأن كلا منهما له معنى ووجود من خلال الآخر و بالنسبة له ، واذا كان بينا رفض شوبنهاور للمثالية الذاتية وانطلاقها من الذات في تعليل الموضوع فإنه ايضا اتخذ موقفا مناهضا للمادية والتي وصفها بأنها فلسفة الطبيعة ( Nature ) والتي تتأسس على تصور امكانية نشوء الذات تدريجيا من الموضوع وفق منهج التركيب الذي صرح بأنه لا يفهمه رغم خضوعه لمبدأ العلة الكافية ورأى أن هناك اربعة مذاهب بهذا المعنى وهي مذهب طاليس و المدرسة الأيونية و ديموقريتيس وابيقور وكلهم بدءوا من الفئة الأولى أي العالم الواقعي ، ثم مذهب سبينوزا وبدأ من الفئة الثانية أي من التصورات مثل جوهر سبينوزا الموجود وفق تعريفه فقط ، و مذهب الفيثاغوريين و بدءوا من الفئة الثالثة أي من الزمان و أخيرا مذهب الفلسفة المدرسية التي تذهب الى الخلق من العدم بفعل ارادي لموجود متعال وقد بدأت من الارادة المدفوعة بالمعرفة .
إن المادية تتناول أبسط أشكال المادة لتتابع تحولاتها وفق مبدأ العلية وصولا الى مملكتي النبات والحيوان ، وفي هذا يرى شوبنهاور مصادرة على المطلوب حيث أن الحلقة الأخيرة في السلسلة تتبدى لنا فجاة باعتبارها نقطة البداية و تكون تلك السلسلة بوصفها دائرة ، كذلك يرى أن ثمة عبث في الفكر المادي الذي يمنح الموضوعي وجودا مطلقا وفي ذاته ليجعل الحياة العضوية وبالتالي العارفة تنبثق منه وبذلك يتم تفسيرها كلية من خلاله بينما تختفي كلية حينما نستبعد الذات . ان شوبنهاور يرى هنا لو استبعدنا الذات العارفة فهل يمكن أن يكون للنظرة المادية من معنى ؟ هذا هو معنى العبث الذي وصف به المذهب الفلسفي المادي وهكذا فان النزعة المادية لا يمكنها ان تعيش طويلا في زعم شوبنهاور فهي تحمل بذور موتها في داخلها بسبب تجاهلها للذات كما أن مبدأ لا موضوع بدون ذات يجعل كل نزعة مادية مستحيلة . ومع ما في ذلك من يقينية مفترضة فثمة مناقضة واضحة تنـتاب هذا الموقف المعرفي اللامادي يتمثل في ضرورة اعتماد الذات العارفة على تاريخ موضوعي أي على ذاكرة و معارف أولية أو مكتسبة بآنها في التطور والوجود من ناحية و من ناحية أخرى فإن الوجود بكامله معتمد على موجود عارف أول أياٌ كان .
والتأمل العميق يدفع لمقارنة هذه الفكرة بالتمثل وفق فهم شوبنهاور مع الفكرة المطلقة الهيجلية حيث لا يمكن الإنكار ان هناك اقتباس لصلب النظرة الفلسفية الهيجلية يتضمنه مفهوم التمثل ، ففي رد هيجلي محض يقول ( ان الزعم بأن كل تحول بالمعرفة هو تحول بالموضوع – المادة – يمكن ان نصوغ له مقابل هو ان كل مادة هي فحسب تحول في معرفة الذات من حيث أنها موضوع لتمثل الذات ) أي أن حركة الفكر التي تشمل التمثلات كافة ضمن علاقاتها ببعضها هي التي تنتج التحولات الموضوعية ، وفي ذلك نظر مباشر الى فكرة هيجل المطلقة و ديالكتيك حركتها ، وبالتأكيد فإن شوبنهاور أغفل ذكر هيجل تماما في اطار تمرده الفلسفي الشخصي كما الغى من الحوار الفكرة المطلقة التي تساق بفعل قوانين الديالكتيك لتتجسد ماديا ثم ترتقي الى فكرة في ذاتها ولذاتها رغم ان هو هذا مضمون رده تماما وبالطبع لا يمكن أن يوضع هيجل تحت اي عنوان من عناوين الذاتية او المادية ومع ذلك لم يتجرأ شوبنهاور على ذكر مدرسته الفلسفية رغم تأثره البالغ بها ورغم انها ملأت الأسماع وكان لها أعظم المريدين و المحاورين و المنشقين أمثال فيورباخ و كيرجورد و برودون وماركس وأمثالهم من اساطين الفلسفة الحديثة ، إن هيجل لم يبدأ فلسفته من ذات أو من موضوع إنما من وجود كلي فعلي أسماه بالفكرة المطلقة و هذه هي نقطة إلهام شوبنهاور الأساسية حيث استفاد من هذه الرؤية الفلسفية العميقة و التي لا يمكن أن تصنف بأنها ذاتية أو مادية بأي شكل من الأشكال و دمجها مع تأثره العميق بفلسفة كانط ، ورغم استفادته المهمة لكنه لم يستطع أن يذهب بعيدا مع هيجل في فلسفة الديالكتيك بتعقيدها الإبداعي وظل متمسكا بمبدأ العلة الكافية وبساطة ما فيه من فكر و عمومية ( العلم هو معرفة منظمة تهتدي بمبدأ العلة الكافية ) رغم معرفته الأكيدة أن هذا المبدأ بحاجة ماسة لتفسير و تسويغ حاول ان يؤطره في اطروحته عن الجذر الرباعي لمبدأ العلة الكافية والذي ظنت أمه أنه يتحدث عن مسألة زراعية وليست فلسفية ! .
ان مبدأ العلة الكافية بصورتيه الزمانية والمكانية يتعلق بالموضوع حصرا دون الذات كذلك فهو يشمل بالمتظاهر من الموضوع وليس بالشيء في ذاته ، وليس هنالك من ضرورة سوى ضرورة ارتباط العلة بالمعلول أو السبب بالتالي بمعنى أن التالي يحدث عندما تتوفر علة محددة تدفع للتغير في الزمان والمكان وعندما لا تكون هناك علة فلا يمكن ان يحصل أي تال على الاطلاق . و عند شوبنهاور لا يمكن الحديث عن مناقشة السبب كونه دافع للتالي لذلك لا يمكن فهمه أو كيفية حصوله إلا بتبسيطه و الوصول به الى حدود البداهة كذلك فإن ما تفترضه العلوم كأساس لها ويقوم عليه تفسيرها ويغدو الحد الذي تنتهي عنده إنما هو تماما مشكلة الفلسفة و على عكس ما رغب به سبينوزا فلا يمكن استنباط فلسفة تبرهن على مبادئ راسخة وشاملة و أكيدة وهكذا فمهمة الفلسفة الشوبنهاورية هي ( التعبير بصورة مجردة عن طبيعة العالم في مجمله ) . وهنا بالذات يكمن فقر هذا المنهج الفلسفي الذي يشط عن حقيقة كون الفلسفة هي علم كلي لما لا يمكن برهنته وتفسيره في آن معين .
و بالمقارنة مع الديالكتيك الهيجلي المذهل في حيويته واستيعابه كل اشكال الوجود ( من دون أن نغفل الثورة الكبيرة التي قام بها ماركس في هذا الإطار طبعا ) فإن مبدأ العلة الكافية يغدو مسألة محلولة ببساطة فهيجل يبدأ فلسفته بثلاثية واسعة رحيبة تتضمن الوجود والطبيعة والروح وفيها تجري تلك الحركة الابدية لوجود واقـعي يوضع في ذاته أولا ( وهذه هي الأطروحة ) لينبسط ويتجسد خارجا عن ذاته ولذاته في تـظاهره ( وهذا نقيض الأطروحة ) ليعود أخيرا الى ذاته فيكون قرب ذاته كموجود منبسط ومتظاهر وهكذا الى ما لا نهاية ، و من المهم الإشارة الى مهمة كارل ماركس العظيمة في قلب صورة الديالكتيك الهيجلي مع الاحتفاظ التام بكافة مضامينه الضرورية تلك المهمة التاريخية التي أنجزت بعد هيجل و شوبنهاور .
يؤكد شوبنهاور ان مبدأ العلة الكافية يمثل الارتباط بين تمثل وتمثل آخر و لا يتعلق بالذات أي أنه يعمل في نطاق التمثلات حسب والذات بعيدة من أن تتأثر به أو أن تقع في إطار فعله وأن الموضوع يختلف تماما عن تمثله لكنه يشبهه من كل الوجوه لذلك فإن أكمل التفسيرات الأتيولوجية ( أي التي تفسر التغيرات و تبين علاقة العلة بالمعلول ) لن يكون اكثر من تسجيل لقوى متعذر تعليلها ، بمعنى أن الأتيولوجي يتوقف عند حدود الظاهرة و نظامها و لا يمكنه الوصول الى الطبيعة الباطنية للأشياء ولن يصل إلا الى الصور والأسماء ، إن شوبنهاور وبفعل إيمانه الشديد بالمبادئ الكانطية لا يتمكن من اجتياز عقبة مفهوم الشيء في ذاته ولذا فهو يولد باستمرار مصطلحات تفيد ذات المعنى او تدور حوله مثل الطبيعة الباطنية ، أما الذات العارفة فإن ما يكشف لغز وجودها ومعناه عنده فهو الإرادة ( will ) ، والجسد هو الإرادة مجسدة و ما كان شوبنهاور يسميه الموضوع المباشر هو وفق مفهوم الإرادة تحققها الموضوعي ( Objectivity of the will ) ، إن حقيقة الجسد الفردي تستند الى الإرادة و إن العلاقة الخاصة بين الذات العارفة و بين جسدها تجعله وجودا فرديا متفردا يفترض فيه الفرد أن جسمه هو الشيء الوحيد الواقعي بالعالم كما إن الإرادة تعلن عن نفسها أولا في الحركات الإرادية لهذا الجسم وهذا يعني أنها تنطلق من وعي أو إدراك مسبق لكن شوبنهاور يبتعد عن فهمه هذا ليرد على فرانسيس بيكون الذي قال ( بأن كل الحركات الميكانيكية و الفيزيقية التي تحدث بالأجسام تنشأ فقط عقب ادراك مسبق يحدث في تلك الأجسام ) وكذلك كبلر الذي رأى ( ضرورة وجود معرفة لدى الكواكب لتحافظ على مداراتها البيضوية بكل تلك الدقة ) حيث وصف استنتاجاتهما بأنها قضية كاذبة رغم ما فيها من بصيص الحقيقة ، و إن الإرادة لها أساس وعلة تكمن خارجها في الدوافع التي توجهها رغم أن تلك الدوافع لا تحدد المبدأ الأخلاقي العام لمشيئة الفرد ، إن ما يخضع لمبدأ العلة الكافية هو ( ظاهرة الإرادة ) و ليست الإرادة ذاتها التي يمكن وصفها حسب شوبنهاور بأنها بلا سبب ( groundless ) ومن الواضح أننا على الدوام نقف أمام تأثير كانط الشديد و تسلط مفاهيمه حيث الاستخدام المتكرر للمفهوم الكانطي ( الشيء في ذاته ) و اعتماده الكلي من قبل شوبنهاور للتنظير والتفسير الفلسفيين .
إن كون الإرادة بلا سبب يعني إنها تقع خارج مبدأ العلة الكافية أي خارج مجال فعل المكان والزمان و العلية ( وهي العناصر التي لا تنتمي الى الشيء في ذاته إنما الى صور معرفتنا فحسب ) رغم أن كل ظاهرة من ظواهرها تكون خاضعة في عملها لهذا المبدأ وفق تدريجات معينة ، وتتجلى الطبيعة اللا سببية للإرادة في أوضح صورة من خلال إرادة الإنسان حيث أن كل فعل إنساني ينشأ وفق ضرورة صارمة تستند الى امكانية واسعة على التأمل الانعكاسي في أية معرفة عيانية أي امتلاكه ملكة العقل بوصفه القدرة على تشكيل التصورات المجردة ، ذلك يعني أن الانسان لا يمكنه أن يحدد دوافع سلوكه أو يختارها لأنها عوامل خارجية تحضر بصيغة الضرورة التي لا مفر منها قط حيث تنتج عنها سلاسل من العلل المتشابكة وكل ذلك بفهم ووعي تامين ، بينما لدى الحيوانات فإنها ستكون فاعلة أيضا و توجه الغرائز وآلياتها لكن دون أن تقف وراءها أية معرفة تأملية إنما هي معرفة ذهنية تمدها الحواس بالمعطيات ومرتبطة بالحاضر و الدوافع هنا حاضرة بالتأكيد ممزوجة بمثيرات طبيعية واسعة ، و في مملكة النبات فالإرادة تتجسد بصورة واضحة ( رغم عريها من المعرفة ) باعتبارها قوة محفزة عمياء حيث إن المثيرات هي التي تربط بين ظواهر الإرادة وليس العلل ، وهنا يجب التمييز بين الدوافع والمثيرات والعلل فالوعي يتعامل مع الدوافع حتما والتي تتضمن حدا معينا من المثيرات بينما يتعامل انعدام الوعي مع المثيرات فقط كما هو حال النباتات ، يقول سبينوزا ( لو كان للحجر الذي يقذف في الفضاء وعي لتصور أن انطلاقته في الهواء كانت بمحض ارادته ) وعموما فإن كل الأفعال و التغيرات الواعية واللاواعية و الصيرورة السلوكية والنفسية تعزى آخر المطاف الى الإرادة التي تكافح في تجسداتها كافة لبلوغ مستويات تجسد أكثر رقيا وأشد قوة وهذا هو التغير الذي يبدو بصيغة صراع دائب في مجمل الطبيعة مما يكفل التنوع و الاختلاف لأنه كما يقول إمبيدوكلس ( إذا لم يسد الصراع في الأشياء لكانت كلها تشكل وحدة واحدة ) ، ويرى شوبنهاور أن هذا الصراع في ذاته هو تجلي لتنازع الإرادة مع ذاتها والذي يعد جوهريا بالنسبة لها ، وعندما تفلح الارادة بالانتقال الى مستوى تجسد آخر أكثر قوة فإنها سوف تكون أكثر وضوحا .
إن هذه الفكرة الفلسفية في صراع الإرادة مع ذاتها من أجل تقدمها و تجسدها بطريقة أكثر قوة وثبات مستلهمة بشكل لا لبس فيه البتة من مفهوم الصراع الذي يعتري الفكرة المطلقة الهيجلية كونه جزءا تكوينيا أصيلا فيها وهو ما وصفه كارل ماركس لاحقا بوحدة الأضداد و صراع المتناقضات و قانون نفي النفي . إن شوبنهاور لا يوضح بشكل بين علة ذلك الصراع و التنازع بين الإرادة وذاتها ، ورغم أنه في مناسبات عدة ذكر أن الإرادة شيء في ذاته لا يخضع للعلية و الزمان والمكان لكن تلك الاراء تلقي بشكوك حول جدية وانسجام فكرة التنازع الذاتية تلك رغم أهميتها البالغة حيث أن السكون هنا والاستسلام لواقع الذات يعني العدم ، فأي صراع بحاجة للعلل حتما حتى لو أن نتائج ذلك الصراع جاءت على مستوى التجسد الموضوعي للإرادة فالصراع جرى في ذات الإرادة وليس خارجا عنها وهذا ما أكده شوبنهاور عندما قال ( إن الإرادة تقتات على ذاتها حيث أنه لا يوجد شيء بجانبها وإنها لإرادة جائعة ومن هنا ينشأ الخوف والقنص و المعاناة ) .
إن تدرج تجسد الإرادة لا يتعلق بالإرادة مباشرة ، هذا ما يؤكده شوبنهاور مرارا ويضيف ( أن الدرجات المختلفة لتجسد الإرادة التي تتجلى في موجودات فردية لا يحصى عددها إنما توجد بصفتها نماذج لتلك الموجودات الفردية لا يمكن بلوغها أو بوصفها صورا خالدة للأشياء ) وهذا هو تكرار لما اراده افلاطون في موضوع المثل ، يقول ديوجين موجزا مذهب المثل الإفلاطونية ( إن المثل توجد في الطبيعة بوصفها نماذج قياسية أو أصلية و أن بقية الأشياء تشبهها فحسب باعتبارها نسخا منها ) .
وفي اطار تدرج تجسد الإرادة فإن قوى الطبيعة الأكثر عمومية تطرح نفسها كونها أدنى درجة لذلك التجسد فهي بلا علة وهي قريبة جدا من الإرادة ويمكن وصفها فلسفيا بالتحقق المباشر للإرادة ، و كقانون عام فكلما اتجهنا الى الدرجات الدنيا لتجسد الإرادة فإن الفردية تضمحل و العكس صحيح تماما فالفردية نراها واضحة في الإنسان كونه تجسد الإرادة الأرقى بينما نراها تختفي تماما في الطبيعة اللاعضوية ، ويمكن توضيح تلك المفاهيم عبر الاختلاف الشديد بين أفراد المجتمعات الإنسانية من حيث الرغبات والميول و السلوكيات بينما نرى التشابه المطلق لذرات الهيدروجين كعنصر لا عضوي كونها تجسد بدائي للإرادة .
وأخيرا فما يمكن أن ننهي به هذا البحث الموجز قول شامل لشوبنهاور يلخص به ما اردنا قوله ( إن هذا العالم الذي نعيش فيه إنما يكون في مجمله ومجمل عمل طبيعته إرادة بكل ما في هذه الكلمة من معنى و في نفس الوقت تمثلا بكل ما في هذه الكلمة من معنى ) .


عباس يونس العنزي
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو