الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلام لابد منه في حق أستاذي اسماعيل المصدق

يوسف الطاسي

2016 / 10 / 20
الادب والفن


كلام لابد منه في حق أستاذي إسماعيل المصدق
لسوء حظ الجيل الجديد لطلبة شعبة الفلسفة المسجلين برسم السنة الدراسية 2016/2017، بسلك الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة. أنهم صادفوا حدثا جلالا؛ يتجلى في حصول أيقونة الفلسفة الأستاذ "اسماعيل المصدق" على "التقاعد"، وعكس هذا الجيل فقد كان حظنا وحظ الأجيال السابقة عظيم، وكان حظي أعظم، لأني كنت آخر طالب ناقش معه بحث التخرج من سلك الإجازة الأساسية والذي كان بعنوان "الاعتقاد والمعرفة عند هيوم". هذه الثمرة التي كان يشرف عليها الأستاذ "أحمد الفرحان"، نعم هناك ما يقال في حق هذا الأخير، لكن سنؤجل الحديث عنه إلى وقت لاحق، ونعود للحديث عن أستاذنا إسماعيل المصدق الذي يعتبر أحد الرموز المتألقة للنبوغ المغربي والعربي المتميز بصفته أستاذا ومعلما ومربيا وباحثا ومترجما مقتدرا ومرجعا من طراز رفيع المستوى، لكونه دائما يستند إلى معايير الدقة والصرامة، بحكم تكوينه الفلسفي الدقيق ومنهجه الصارم العميق. إنني الآن أحاول أن أقول في حقه كلمات وخواطر لكن القلم يأبى عن الكتابة والحروف والكلمات أيضا تهرب وتفر خوفا من أن تقصر في حقه أو أن لا تكون في مستوى يليق بمقامه. لكن عنادي ومحبتي وتقديري واحترامي وصدق مشاعري لهذا الرجل كانت أقوى وأكثر إصرارا من الكلمات والحروف التي أعذرها حقا عن هروبها ورفضها، فهي تقدر قيمة أستاذي الذي كان ينطق بكلمات موزونة ورنانة داخل المحاضرة والكل ينصت إليه، فهو لم يكن يحب الضجيج أو حتى الشوشرة، فكلما كان الجو مناسبا والهدوء يعم القسم يزيد عطاء وتشعبا وتعمقا وأكثر انفتاحا على الدرس. إن صوته لازال يرن بأدنيي بنفحته الفلسفية إلى حد كتابة هذه الأسطر، ولن أنساها، اللهم إلا إذا أصبت بفقدان الذاكرة. وفي هذه اللحظة أتذكر طريقته في الشرح والتحليل بشكل منظم ومرتب ومبسط أكثر من البساطة ذاتها، ولقد كنت أصغي إليه في تمعن وأناة، مأسور بسحر كلامه النضيد، مأخوذ إلى حد الدهشة، بجدة وعمق أفكاره وتحليلاته المبسطة وطريقة إلقائه الفريدة من نوعها، فطريقته أصبحت موشومة في ذاكرتي كماركة مسجلة باسمه. لقد عرّفنا على الجماليات "الاستطيقا" بدءا بمفكر ألماني لم أكن قد سمعت به من قبل، وهو غير معروف على الساحة الفكرية وهذا لا ينكر ولا ينفي عنه أنه مفكر كبير، نحث مفهوم الجماليات، وهذا المفكر يدعى "ألكسندر بومغارتن" والذي يرى أن الحكم الجمالي مرتبط بالإحساس، والجديد الذي قال به بومغارتن: لدينا ملكة حسية نحكم بها على الأشياء بأنها جميلة تسمى "الدوق". والجمال بشكل مقتضب عنده هو "التعبير الحسي المشوش عن الكمال". ولقد كان هدفه وطموحه هو إخراج الفن من الأحكام العشوائية وهذا جزء بسيط جدا مما قدّمه لنا "المصدق". كما لا ننسى دروسه حول فلسفة كانط النقدية، التي قدمها لنا بمثابة هدية ثمينة نفرح بها كما يفرح الأطفال بكسوة العيد. هذه الهدية التي تعتبر المرحلة الأخيرة في فلسفته والمتمثلة في كتبه النقدية الثلاثة " نقد العقل الخالص"، " نقد العقل العملي " و" نقد ملكة الحكم". وأستاذنا كان بإمكانه أن يمر مرور الكرام على الكتابين الأولين ويتوقف بالخصوص على الكتاب الثالث الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بوحدة "الجماليات"، لكن وقوفه على الكتب الثلاثة لم يكن وقوفا اعتباطيا. فهو كان يعلم أننا لا نعلم إلا القليل عن فلسفة كانط، وربما إلا عناوين كتبه، إضافة إلى سبب آخر هو أن كانط وجد نفسه أمام ملكتين لكل منهما قوانينها ومشرعها الخاص بها، ولهذا وجب عليه البحث عن جسر يفصل بين الملكتين "الفهم والعقل" وهذا الجسر هو الذي بحث عنه في "نقد ملكة الحكم" فتوّصل إلى أن الحكم الجمالي فردي يرتبط بالشعور، والمشاعر لها طابع ذاتي، والحكم الجمالي عنده لا يتوفر على مفهوم. لن أقول المزيد عن ما قدمه لنا أستاذنا عن كانط بل سأكتفي بالقول أن أستاذنا علّمنا كيف نرى الجميل جميلا، بالرغم من أنه ليس هناك قواعد أو ضوابط تجعلنا نحكم على الشيء بأنه جميل. كما علّمنا كيف نرى الجليل جليلا. فكيف لنا ألا نتذكر هذا الرجل الجليل، الذي حرم منه هذا الجيل وكذلك جامعة ابن طفيل. كما لن أنسى وحدة "التقنية" التي علمنا فيها أول خطوة مهمة تمهد لنا الطريق أمام البحث وهي قوله لنا أن نبدأ دائما بتحديد المفهوم ولو بشكل مؤقت وتقريبي، فتحديد المفهوم يعتبر بمثابة مصباح ينير لنا الطريق للسير بأمان وبخطى ثابتة نحو التقدم في البحث، كما لن يفوتني الحديث عن مدى ضبطه والتزامه بالوقت إلى درجة أنني أعشق فيه هذه الصفة، وكنت أقول في نفسي أنني أتشارك معه في هذه الصفة، فلم يسبق لي أن تغيبت عنده حصة، ولم يسبق لي أيضا أن تأخرت في حصته، بحيث كنت أعلم قيمته وقيمة ما يقدمه لنا من أفكار قيمة وجليلة، كما لا أخفي عنكم سرا أنني تعلمت منه أن احترام الوقت يجعل منك شخصا يهابه الآخرون ويحترمونه ويحسبون له ألف حساب، وهكذا تعرفت قدر قيمتي، ومحبتي للوقت زادت وكبرت، وتبين لي أن احترام الوقت هو احترام للذات قبل غيرها. ولقد كنت أحرص على أن أجلس في المقاعد الأولى، وأحرص على هذا المكان بالضبط عند حصة أستاذنا "المصدق". وجدير بالذكر أن أذكر بعض نصائحه، وخاصة فيما يتعلق بكيفية التعامل مع ورقة الامتحان، حيث كان يكرر هذه الجملة "تعاملوا مع السؤال، حاولوا الإجابة عن السؤال مع الانفتاح على ما راكمتموه من البحث الشخصي"، وهذا جعلني أكون حذرا في التعامل مع ورقة الامتحان، الأمر الذي صدّني عن الانزلاق في أحد الامتحانات، حيث كان السؤال عادي لكنه غير كلاسيكي فبدل سؤال " حلل وناقش " قد طلب منا "التحليل" فقط، فإذا بجل الطلبة لم ينتبهوا للسؤال المطلوب فحللوا "وناقشوا". وعند خروجنا من الامتحان وقفنا بجانب القاعة كعادتنا نتبادل أطراف الحديث عن طبيعة الاختبار، فسألني أحد الزملاء بأي فيلسوف ناقشت أطروحة النص، فكان جوابي صدمة له، "لم أناقش" فالمطلوب هو التحليل وليس المناقشة.
أكتب هذه الخواطر والأفكار وآمل أن تكون دالة ومعبرة عن قدر وقيمة هذا الرجل. فأخلاقه وأعماله وصرامته ومكانته وبصمته تفوق بكثير هذه الكلمات، فمهما قلت لن أعطي الرجل حقه، فيبدو لي أن إكرام الأستاذ "المصدق" هو الأخذ منه وليس إعطائه. لقد قدم الرجل للإنسانية عموما وللعرب خصوصا أعمالا وترجمات قيمة، حيث ترجم لكل من "مارتن هايدجر"، و"إدموند هوسرل" أعمال أساسية وعميقة كانت المكتبة العربية في حاجة إليها من أجل النهوض بالمشروع الحداثي والانفتاح على الحضارات والثقافات الفكرية الأخرى التي تجعلنا نؤمن بالاختلاف، فبالاختلاف يتحرك التاريخ كما قال "انجلز". وهذه الكتب هي" السؤال عن الشيء-حول نظرية المبادئ الترنسندنتالية عند كانط" و"كتابات أساسية"لهايدجر.كما راجع ترجمة كتاب "الكينونة والزمان" لهايدجر الذي ترجمه"الدكتور فتحي المسكيني"، وترجم كتاب أساسي لهوسرل المعنون ب " أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترنسندنتالية".كما لن يفوتني ذكر كلمة الأستاذ "حسان الباهي" في بداية مداخلته يوم مناقشة ملف التأهيل الجامعي للأستاذ "احمد الفرحان" والذي كان يجلس على يمين الأستاذ"إسماعيل المصدق رئيس الجلسة"، وعلى يساره الدكتور عبد الحي أزرقان. قال رئيس شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع بأن الأستاذ المصدق مقبل التقاعد في السنة المقبلة، ثم تحصر وقال، لو كانت هناك إمكانية في أخذ التقاعد النسبي لما ترددت عن طلبه، وغادرت صحبة صديقي. وهذا يشير إلى قوة الحب والتأثير الذي بصمه الأستاذ المصدق في قلب الأستاذ الباهي، كما بصمه في قلوب طلابه وصاحب هذه الأسطر واحد منهم. كما لن أنسى أن أعبر له عن صدق تقديري وشكري لقراءته بحثي وعلى ملاحظاته الدقيقة التي أعتز بها وسأضل أعتز بها مدى الحياة وستكون بمثابة قوة ووقود يدفعني للاستمرار في درب التفلسف وفي تطوير مشروعي الفكري الذي لازال جنينا .
ولهذا ادعوا كافة الأساتذة والأطر الإدارية والطلبة بجامعة ابن طفيل إلى تنظيم حفل تكريمي لأستاذنا "إسماعيل المصدق" تكريسا لثقافة الاعتراف.
ختاما لا يسعني إلا أن اعتذر عن أسلوبي والكلمات التي لم تسعفني في ترجمة إحساساتي الوجدانية، كما أن الأعمال التي أشرنا إليها فيما سبق لأستاذنا ليست إحصاء لأعماله بالمعنى المسح الكلي لكلمة إحصاء، وإنما هي مجرد أضواء البرق التي تنير الطريق في ليلة حالكة ممطرة. وهذا المديح ليس مجاملة فأستاذنا يستحق أكثر من هذا، وكل عبارات المدح تقف مدهوشة ومن يدري أنها قد تنتحر وهي تحاول أن تضاهي قامة هذا الرجل الذي يمشي دائما مرفوع الرأس عالية الهامة مشرئب العنق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث