الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن التمويل والثورة

مصطفى مجدي الجمال

2016 / 10 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


حينما تكون الحركة الوطنية راكدة محليًا لا يجد بعض الزعماء حرجًا في الاستنجاد بمستعمر آخر غير المستعمر الذي يواجهونه مباشرة في بلادهم.. هكذا كان خيار مصطفى كامل باشا حينما استعان بفرنسا على بريطانيا، وخيار أحمد حسين حينما روج لهتلر. والأمثلة كثيرة.

وبالمثل حينما تواجه الحركات الديمقراطية مصاعب جمة في التصدي للنظم الاستبدادية، قد يفكر بعض القادة في الاستعانة بـ "المجتمع المدني العالمي" لفضح النظام والضغط عليه.. لكن البعض يسهو عن حقيقة أن المنظمات الحقوقية الشمالية (وبالأحرى: الغربية) ليست بعيدة عن حكوماتها، والنسبة الأكبر من ميزانيتها تأتي من الدول التي- هي نفسها- تساند النظم الدكتاتورية التي نقاومها (فهي تقدم المصالح على "المبادئ" دائمًا)... ناهيك عن تحفظات أخرى تتعلق بالأجندة والشفافية والإفساد وتجزئة القضايا النضالية.

وأشدد هنا على أنني أعني- بالأساس- المنظمات غير الحكومية الغربية (مثل فورد ونيد وكارنيجي وراند وفريدريش ايبرت...)، وهناك فرق بينها وبين المنظمات الدولية (وكالات الأمم المتحدة...) والإقليمية (الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي....) وأيضًا منظمات معادية للعولمة الرأسمالية واستطاعت فرض نفسها بقوة حتى على شبكات التمويل الرأسمالي نفسها. وهذا بالطبع لا يعني انعدام وجود تحفظات عليها هي الأخرى.

أقول هذا بمناسبة حوار مع أصدقاء عقدوا لي "شبه محاكمة" بسبب موقفي من التمويل الغربي، وكرروا أمامي بفخر أنهم يرفضون التمويل الأمريكي وطمأنوني بأنهم لا يحصلون إلا على تمويل من الاتحاد الأوربي.. فقلت لهم : "ولا حتى من اليابان!!!".. لأنه يغيب عن الكثيرين (وربما لا يقتنعون) بحقيقة أننا نواجه ما أسماه سمير أمين "الاستعمار الجماعي" حيث يوجد مثلث لقيادة العولمة المتوحشة يضم أمريكا وأوربا واليابان (المراكز الرأسمالية العالمية الكبرى) وتترأسه الولايات المتحدة، ليس بمقتضى قوتها الاقتصادية وإنما أساسًا بمقتضى قوتها النووية. ومؤسسات هذا التحالف جلية في حلف الأطلنطي وصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية والشركات متعدية القوميات، فضلاً عن النفوذ الساحق في المنظمات الدولية.

((ملاحظة جانبية : لا ينفي الكلام السابق تبلور طموحات إمبراطورية في روسيا، فضلاً عن الوضع الملتبس في الصين. حيث إن هاتين القوتين الصاعدتين تنشطان وتندمجان بقوة الآن في المنظومة الرأسمالية العالمية، إلى حد تصدير رؤوس الأموال، ناهيك عن تبلور واضح للعلاقات الرأسمالية في الداخل)).

وأرى أن هناك مشكلة رئيسية أخرى بيني وبين أصدقائي وتتمثل في رؤيتهم لطبيعة "الثورة" المصرية. فهم أقرب إلى قصرها على الحريات المدنية والسياسية والعدالة الاجتماعية (والأخيرة هي الاسم الحركي لـ "تخفيف حدة الاستغلال وتلطيف الفقر"). بينما أراها ثورة ذات أربعة محاور: تحقيق السيادة على القرار الوطني، وتحول ديمقراطي شامل وعميق (بما فيها ثورة ثقافية تعلي قيم المواطنة والتنوير والعمل والعلم)، وبناء قاعدة اقتصادية وطنية عمادها الصناعة والزراعة المتقدمة، وعدالة اجتماعية. ويتعذر عندي تصور أي انفصال بين تلك المحاور الأربعة، فبدون تحقيق إنجازات كبرى على مساراتها معًا (بدرجات متفاوتة طبعًا شرط أن تكون حاسمة) لن يتيسر الانطلاق نحو تحرير جذري للإنسان يقتحم مسألة علاقات الملكية (أي الاشتراكية).

ومن ثم فإن تصور مواجهة الإمبريالية بالتجزئة وهم خالص. فحتى قوى الإرهاب المتستر بالدين جزء لا يتجزأ من مجابهتنا للإمبريالية. لكن للأسف ركن البعض على الرف مقولتي الإمبريالية والرأسمالية، انطلاقًا من قناعتهم بأن الديمقراطية (الليبرالية السياسية طبعًا في هذه الحالة) هي "الحلقة الرئيسية" التي إن شددتها تتالت بعدها كل الحلقات. وهو في رأيي تفكير خطي وأحادي وميكانيكي، ومن ثم غير جدلي وغير ثوري. إذ لا بد من النضال على المحاور الأربعة معًا، وبأقصى طاقة، أما الحلقة الرئيسية فهي متغيرة وأقرب إلى الإيحاء بالتكتيك.

ولعل هذا التولع بالليبرالية السياسية وحدها هو السبب في هيمنة القيادات الليبرالية (تقريبًا) على الخيارات السياسية الأقوى بعد ثورة يناير، وخاصة وسط الائتلافات الشبابية (تلاشت الآن) وجبهة الإنقاذ (التي ماتت). فقد كان من أخطر "إبداعات" تلك القيادة الليبرالية أنها لم تضع حدودًا فاصلة مع تيارات "الإسلام السياسي"، حيث تصورت أنه بالإمكان "ترويضها" و"إدماجها" تطبيقًا لفكرة إدماج "الإسلام المعتدل/ الوسطي" التي روجت لها مراكز حقوقية وبحثية غربية، واستوردها البعض دون تمحيص. رغم أن تاريخ تلك التيارات المسيِّسة للدين يصرخ بأنها تؤمن فقط بـ "ديمقراطية المشوار الواحد"، حيث تنحصر مهمة الديمقراطية السياسية عندهم في إيصالهم للحكم ثم يتم صرفها من المشهد كما لو كانت مجرد "تاكسي". لأن ما يشغلهم هو التمكين وفقط، وليس التحول الديمقراطي الجذري.

بل إن التيارات المسيسة للدين انطلقت (مستفيدة من مكانتها في صدارة "المشهد الثوري" بل وتحالف بعض اليسار "القومي" معها في الانتخابات النيابية) في تنفيذ مناورة كبرى بتمتين علاقات تآمرية مع المجلس العسكري والسلفية الجهادية في وقت واحد... الخ التطورات المعروفة.

قالوا لي : أنت تخرج بالمناقشة عن جوهرها، وهو التمويل. قلت : بالعكس هذا هو جوهر المشكلة، فأنتم منذ التسعينيات تتبنون المقولة الغريبة بانتهاء دور الأحزاب وحلول المنظمات الأهلية محلها، إلى جانب تجزئتكم للقضايا النضالية (المرأة، الشباب، حقوق الإنسان، البيئة...) بل إنكم تماديتم في التجزئة، حتى تخصص البعض في الختان أو المسنين أو أطفال الشوارع أو تعليم الكبار أو تنمية المسرح.... وهلم جرا. وربما كان أداؤكم جيدًا في كل قضية على حدة، ولكن لم تتبلور منظومة للجمع بينها معًا، ومع النضال السياسي والنقابي والثقافي والوطني.

أخيرًا شددت في حديثي مع الأصدقاء على ضرورة العمل التطوعي، والصياغة المحلية للأجندات، والشفافية المطلقة في الإعلان عن التمويل والميزانيات، وإنهاء الطابع العائلي والشللي والنخبوي والقاهري لكثير من المنظمات. وأخيرًا أكدت على أن الأساس النضالي يكمن في العمل النقابي والسياسي، وأن أي إضافة من المنظمات الأهلية مرحب بها طبعا (ولا يمكن التغاضي عن دورها الإيجابي في إثراء الوعي الجزئي) شرط أن تكون منطلقاتها وعملياتها في إطار النضال الثوري العام، وخاصة: اتخاذ موقف جذري من الإمبريالية العالمية بكافة مؤسساتها وأدواتها.

وختمت حديثي بأقوى أوراقي : إذا كان التمويل الغربي يسبب كل هذا الامتعاض والتشكك من جانب الجمهور، وإذا كان قد أصبح أداة تشهير فعالة، من جانب إعلام الثورة المضادة،بالقوى المنادية بالتغيير... وإذا كنا نحن أنفسنا نتحدث عن شلال التمويل والمال السياسي للسلفييين والإخوان.. أليس من الأولى بنا تذكر الحديث الشريف: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"؟؟

كالعادة لم ينته الحديث إلى شيء. سوى توجيه بعض الملاحظات المازحة لي بأنني الشخص الذي مازال "على قديمه".. ومع ذلك أدعي أنني أكثر مواكبة للتطورات الحديثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل