الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيفا الكلمة التي صارت مدينة

سميح مسعود

2016 / 11 / 27
الادب والفن


صدر هذا الكتاب مؤخراً في عمان عن دار " الآن " للنشر والتوزيع ، وهو من تأليف الدكتور جوني منصور، الملقب بمؤرخ حيفا ، أهداه إلى " أبناء ومحبي حيفا في كل مكان " و صاغه بمرجعية وطنية بهدف سبر أغوار مدينته ، لتعريف القارئ المعاصر على دلالات ومضامين مختلف جوانب حياتها الماضية ، التي جعلت منها واحدة من أهم مدن فلسطين والدول العربية على امتداد سنوات طويلة ، لازدهارها وامتلائها بالفرص الواعدة ، التي أتاحتها لأهلها والوافدين إليها ، في مجال العمل والعلم ، ضمن آفاق واسعة من مكونات الحياة الحديثة والمعاصرة .
تستيقظ الذاكرة في هذا الكتاب على مدينة انفردت بمزايا اقتصادية وثقافية وعمرانية كثيرة جعلتها تعيش ازدهاراً منقطع النظير ؛ ميزها عن كثير من المدن الأخرى القريبة منها ، وجعلها مدينة مركزية بكل معنى الكلمة ؛ تنبض بمظاهر انتعاشات اجتماعية واعلامية وفكرية وثقافية وفنية، وتوفر سبل عمل كثيرة متشابكة لأهل فلسطين، ولغيرهم من أبناء الأمة العربية .
فما أن بزغ نجم حيفا حتى بدأت تستقبل عائلات بكاملها وأفراداً وفدوا إليها بحثاً عن لقمة العيش الكريمة، احتضنت كافة الوافدين إليها من أبناء فلسطين ، ومن أبناء عدد من الدول العربية المجاورة وغير المجاورة ، تعاملت معهم بانفتاح كبير ، ووفرت لهم أجواءً مناسبة لتنظيم حياتهم وتأكيد حضورهم في المجتمع الحيفاوي .
يقع الكتاب في 463 صفحة من القطع الكبير، كتاب ممتع ضخم وشامل يتألق بحمولة نصية ذات قيمة متميزة ، يضم بين دفتيه مجموعة كبيرة من المقالات التي تُشرع أبواب حيفا عبر الزمن ، لتعريف القارئ بمشاهد ولحظات وأفكار متناغمة ومنسجمة ، عن تاريخها وأعلامها البارزين ومعالمها الحضارية وأحداثها الرئيسة والمصيرية التي شهدتها في ماضي أيامها ، منذ أن كانت قرية صغيرة للصيادين وحتى غدت مدينة عصرية كبيرة .
ويحتوي الكتاب أيضا ًعلى مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية ، التي تُعبرفي مجملها عن علامات دلالية مهمة للمجتمع الحيفاوي ، جمعها مؤلف الكتاب من عائلات حيفاوية على مر العقود الثلاثة الماضية ، ليزود القراء برؤية استثنائية تزخر بالحيوية ، تعطي صورة حقيقية عن واقع الحياة في حيفا قبل النكبة ، يظهر الكتاب بها بشكل بانورامي متميز ، يجمع بعلاقة متشابكة بين تاريخية الزمن وجغرافية الذاكرة ، بتلازم واضح ما بين الصورة والكلمة، وفق دلالات ذات صلة بكل جوانب الحياة التي عاشها أهل حيفا ، وهذا يُسهل على الأجيال الصاعدة والقادمة معرفة مدينتهم ، وجعلها حية في وجدانهم ، وجعل ذاكرتها خالدة على مدى الأيام .
بهذا يسبر االمؤلف أغوار الجوانب الإجتماعية والمعرفية التي تفعل فعلها في بلورة تفاصيل حركية الحياة الحيفاوية في زمن مضى ، يمكن للقارئ تتبع خيوطها في مسالك النص ، فصلاً بعد آخر ، مصحوبة بصور متشابكة معها ، آهلة بشخوص من أهل حيفا وبمشاهد ولحظات تزدهي بها أيام حيفا الماضية ، تُقدم لأول مرة للقارئ بدرجة عالية من الشمول والعمق والامتداد ، يتميز الكتاب بها ، وتمنحه دلالات فريدة وإيقاعات خاصة .
يتتابع على صفحات الكتاب توضيحات تاريخية كثيرة ، في فضاء واسع من التذكر تشكل النسيج التاريخي الخام لحيفا منذ بداياتها الاولى في العهد العثماني ، ومروراً باحتلالها من قبل الإنجليز في العهد الإنتدابي ، ووصولاً إلى أيامها الأخيرة ، عندما عمها الخراب والدمار وكل اشكال الفوضى ، وتم تهجير سكانها الأصليين في نيسان عام 1948، موجات منهم بدأت بمغادرة عروس الكرمل ، مع بدء تنفيذ مخططات التهجير والتطهير العرقي التي عمت بقية المدن والقرى الفلسطينية... تقطعت أوصالهم في ديار الإغتراب ، وباتوا يحلمون بالعودة إلى مدينتهم المفقودة ، حملوا حلم العودة إليها في فكرهم وعقولهم وقلوبهم ، ونقلوه إلى أبنائهم وأحفادهم من الأجيال الصاعدة .
ثمة مشاهد تاريخية كثيرة تم تعريفها ، في إطار أحداث متشابكة في شتى المراحل من زمن مضى ، خليط تاريخي يمتد ليشمل عرضاً واسعاً عن شخصيات كثيرة وعن أحداث متنوعة ساهمت في تشكيل حيفا بأكملها و" بناء نسيج اجتماعي موحد مؤسس على رؤية عروبية ، وهذا ما ميز أهالي حيفا ؛ تمسكهم بالرابطة القومية ، وسعيهم إلى تثبيت جذورها عبر تاريخ مدينتهم المعاصر" .
وثمة ملامح كثيرة في صور الكتاب تُبين مسيرة حيفا العمرانية ؛ بيوت بالغة الأناقة مبنية بحجر أبيض مدقوق بعناية كبيرة ، متناثرة في كل الجهات ، تعلو أغلبها شرفات مطلة على شاطئ البحر ، كما تبين الصور حيثيات البيوت من الداخل ؛ تظهر حمولات دلالية كثيرة عن نمط حياة سكان حيفا ، وعلاقتهم بالعصر الذي عاشوا فيه من حيث أزيائهم ، ووسائل الراحة والرفاهية والفخامة الفاخرة التي توفرت لهم ، بما يوحي ويعبرعن علو مستوى معيشتهم .
يتسع مدى الصور ، وتشتد وطأة حيفا فيها ؛ تظهر فيها مناظر خلابة للبحر والكرمل ، و جوانب كثيرة من أحياء حيفا الممتدة في كل الجهات ، حي وادي الصليب والحليصة وساحة الخمرة ( الحناطير) ووادي النسناس وغيرها ، كما يظهر شارع الملوك وغيره من الشوارع الأخرى ، وثمة صور أخرى تستحضر مساجد حيفا وكنائسها وحدائقها ومسارحها ومدارسها وصحفها وأسواقها وفنادقها وأنديتها الرياضية والثقافية والاجتماعية .
وجدت في مسالك النص بين ما وجدت ، تفاصيل كثيرة عن شخصيات متميزة عاشوا في حيفا ؛ الشيخ عز الدين القسام صاحب التجربة الثورية الأولى في عام 1933، القائد الأردني الشهيد محمد حمد الحنيطي قائد حامية حيفا ، المطران غريغوريوس حجار مطران العرب من رموز الحركة الوطنية الفلسطينية ، الكاتب عبد الله مخلص حافظ التراث العربي ، الأديب عزيز سايمان ضومط ابن حيفا الذي حظي بشهرة واسعة بمسرحياته وكتاباته في المانيا ودول اخرى وتم ترشيحه لجائزة نوبل للأداب في عام 1936 ، الدكتور داهش الذي ذاع صيته في كافة أنحاء المعمورة بفعل المعجزات التي قام بها وعجز العلم آنذاك عن تفسيرها ، الشاعر جميل البحيري باعث النهضة الأدبية والثقافية في حيفا من خلال مسرحياته وكتاباته في مجال الوحدة القومية، الشاعر مطلق عبد الخالق الذي واكب مسيرة شعبه النضالية من أجل إحقاق حقوقه في وطنه .
ومنهم أيضاً ، محمود المغربي الحيفاوي الذي اصبح أول رئيس وزراء في ليبيا بعد سقوط الملكية ، نجيب نصار شيخ الصحافة الفلسطينية وصاحب جريدة الكرمل الحيفاوية التي تأسست قبل أكثر من مئة عام ، رشيد الحاج ابراهيم رئيس اللجنة القومية بحيفا ، سامي طه النقابي الأول للحركة العمالية في فلسطين الذي اتهمت الهيئة العربية العليا بتدبير جريمة اغتياله في عام 1947، الشاعر وديع البستاني الذي بادر مبكرا إلى تأسيس الجمعية الإسلامة – المسيحية التي تحولت إلى اللجنة التنفيذية العربية ومن ثم إلى الهيئة العربية العليا ، وشدد في شعره على التمسك بالإنتماء إلى العروبة أولاً وأخيراً ، الفنان المسرحي إسكندر أيوب بدران عميد المسرح العربي الفلسطيني الذي ساهم في جعل حيفا في صدارة منتجي ومستهلكي الثقافة المسرحية والفنية على مختلف أنواعها، نوح ابراهيم الشاعر الشعبي الوطني والثائرالذي تتلمذ على يد الشيخ عز الدين القسام ورافقه واستشهد من أجل وطنه ، وقد اشتهر بقصائد كثيرة منها قصيدة " دبرها يا مستر دل ".
شخصيات مهمة رائدة ومؤثرة من فلسطين ومن خارجها من الدول العربية المجاورة ، امتزجوا كلهم في تكوين حيفا البشري بتناغم رائع ، يرصد الكتاب سيرهم على كل الصعد المهنية والوظيفية والفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية ، ويبين بموضوعية في فصول متتابعة مدى ارتباطهم بالمكان وأحداثه ، في سياق حكايات تشكل بمجموعها لوحة تجسد أبعاد مشاهد كثيرة مفعمة بالحيوية .
وفي إطار تعريفه للنخب الحيفاوية ، يتيح الكتاب معرفة أنشطة أعمال متميزة بدأت في حيفا ، ولا زالت آثارها مستمرة حتى الآن ، مثال ذلك تأسيس رجل الأعمال حسيب صباغ شركة في حيفا بإسم "اتحاد المقاولين" في أربعينيات القرن الماضي ، وهي نفسها الشركة التي أعاد تفعيلها بنفس الإسم في بيروت عام 1952، مع شريكين أحدهما من صفد والثاني من أهالي حيفا ... التقى الثلاثة لإعادة نشاطها من جديد في قطاعات الإنشاء والنفط والغاز ، وفروا من خلالها أماكن عمل لشرائح واسعة من العمال العرب ، ومع الأيام اتسعت أعمالها في مجالات حيوية كثيرة حتى غدت إحدى أكبر شركات المقاولات في الوطن العربي ، بل حتى على المستوى العالمي ، يعمل فيها أكثر من سبعين الف عامل ، في عدد كبير من الدول العربية والأجنبية .
ومن الأعمال المتميزة الأخرى التي بدأت في حيفا ، شركة الكات للمقاولات التي أسسها إميل البستاني ( لبناني الأصل ) في دكان صغير بشارع الملوك في أربعينيات القرن الماضي ، وأشتهرت بعد ذلك وأصبحت من كبريات شركات المقاولات العربية ، وهذا مثال على مآثر حيفا ، واحتضانها للكثيرين من ابناء الدول العربية المجاورة .
أجل كان الكثيرون يلجأون إلى حيفا للعمل ؛ ينضمون إلى سكانها ، تمتلئ بهم ، كانوا يأتون إليها من دول كثيرة عربية وغير عربية ، وهكذا شبت فيها أجيال من منابت ومشارب مختلفة من الوافدين إليها بعلاقات اجتماعية مترابطة مع أهل البلاد ، يسودها جو من الاحترام والتعايش المشترك ، عملوا في كل مراكز حيفا وانشطتها وعاشوا كأبنائها وساكنوا أهلها في كل أحيائها وشوارعها والضواحي القريبة منها .
وتجدر الإشارة إلى أن الكتاب لا يتناول ذكر المشاهير فحسب ، بل يهتم أيضا بذكر أسماء اشخاص عاديين من أصحاب المهن العادية ، وعلى وجه خاص الاسماء البارزة منهم في مجالات الخياطة والتنجيد والغربلة و" العربجة " والعتالة والحراسة ، وكوي الطرابيش ونسج الحصر ورتق السجاد وصنع السروج ، والتسحير والتنجيم وقراءة الطالع والعلاج بكتابة الحجُب ، وفن الخط وقد برز في هذا المجال عوض الرومي والد الفنان حليم الرومي وجد الفنانة ماجدة الرومي، وكان محله في شارع متفرع من ساحة الخمرة (الحناطير) بحيفا .
وخلاصة القول ، إن هذا الكتاب نتاج غني ومتنوع ، صدر عن مؤرخ متميز ، ملتزم بقضايا شعبه وأمته ، تمكن بخبرته الطويلة أن يقدم صوراً جلية مرئية عن مكونات حيفا الأعمق في الزمان والمكان ، بكل ما فيها من خصوصية متميزة ، نحن نحتاج إلى معرفتها اليوم اكثر من أي وقت مضى ، حتى تبقى حية باسمها وتاريخها وتراثها في ثنايا الذاكرة .












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع