الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهضة العرب من جديد ليست بمستحيلة

محمد علي زيني

2016 / 11 / 30
السياسة والعلاقات الدولية


إن فترة العصور الأوربية المظلمة تهمنا جداً، إذ أن تلك الفترة من الزمن، وهي فترة انحطاط وتأخر شديدين مرت بهما أوربا الغربية، قابلها من جهة أخرى فترة مضيئة جداً في تاريخ العرب والمسلمين حملوا خلالها مشعل الحضارة الإنسانية وبلغوا فيها أوج عظمتهم وتقدمهم. إنّ الغرض من هذا العرض والتحليل هو القول بأنّ الأوربيين وهم يحملون مشعل الحضارة الإنسانية الآن، هم ليسوا من معدن خاص حباهم الله بملكات عقلية وجسمية جبارة تتفوق على ملكاتنا، وإنما هم أناس مثلنا عانوا من الانحطاط ما عانوا، ولكنهم بالنهاية سلكوا درباً وسلكناً درباً، فاستيقظوا ونمنا وتقدموا وتأخرنا، وإن أردنا النهضة والتقدم من جديد فلن يكون ذلك بمستحيل إن وفرنا الإرادة اللازمة وهيئنا الظروف المناسبة.
عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية في الغرب في منتصف القرن الخامس خلفت وراءها ثقافة عالية أساسها الفلسفة والعلوم اليونانية والقانون وفنون الإدارة الرومانية، كما خلفت وراءها زراعة متقدمة نسبياً وشبكة مواصلات برية وبحرية ونهرية جيدة، إلا أن تلك العلوم والفنون والزراعة والمواصلات كلها بدأت بالاندثار تدريجياً تحت وطأة القبائل البربرية الجرمانية النازحة من الشمال، واستمرت حالة التأخر هذه حتى مطلع القرن الحادي عشر، ولم تنشأ حالة حضارية جديدة على أنقاض الحضارة الرومانية. وإن برز إلى الوجود شيء من ذلك فقد كان لفترة قصيرة خلال عهد شارلمان وعلى نحو متواضع جداً.
عاشت أوربا القرون الوسطى الأولى على الزراعة البدائية أو زراعة الكفاف. وشاهدت تلك الفترة اندثار التجارة الخارجية والتبادل النقدي، كما شاهدت تجزأة الأراضي الزراعية إلى مزارع مستقلة مكتفية ذاتيا حتى انتهت أخيراً بسيادة العلاقات الإقطاعية. لقد تمكنت الكنيسة الكاثوليكية من ملئ الفراغ الذي تركه انهيار الإدارة الرومانية فأعادت تنظيم المجتمع الغربي على أساس المبادئ المسيحية وبذلك برزت إلى الوجود فكرة العالم المسيحي. نتيجة لذلك تمركزت داخل هذا العالم سلطتان هما: سلطة دينية أو كنسية تنتهي برئاسة البابا، وسلطة علمانية أو دنيوية تنتهي برئاسة الملك أو الإمبراطور. من جانبها تغولت الكنيسة في تلك الحقبة وأصبحت تملك الإقطاعيات الزراعية الكبيرة وحتى المدن والجيوش ولطالما تدخلت بشؤون الدولة الدنيوية، ولم تخف وطئتها إلا بعد مرحلة التنوير التي مرت بها أوربا في القرن الثامن عشر.
على الرغم من أن المجتمعات الجرمانية قد اعتنقت المسيحية إلا أن تقاليدها البربرية المتوارثة لازمتها لعدة قرون. وقد كان التهديد الأكبر للقضاء والاستقرار يأتي من طبيعة العلاقات العائلية، ذلك أن الوحدة الاجتماعية العائلية كانت تتمثل بالأسرة أو العشيرة، فمثلاً إذا قتل أحدهم فلابد من أخذ الثأر من القاتل أو من أحد أقربائه. كانت القوانين القبلية تشتمل على قوائم للغرامات، فلكل جريمة غرامة معينة حتى جريمة القتل كانت تفصل بغرامة، ولم يكن الناس سواسية أمام القانون. فغرامة قتل العبد كانت أقل الغرامات، ثم يأتي بعدها غرامة قتل الرجل الحر وهي أعلى من غرامة قتل العبد، وغرامة قتل النبيل هي ضعف غرامة قتل الرجل الحر.
كانت المرأة في المجتمعات الجرمانية تتمتع بدرجة أدنى من الرجل. فغرامة قتل المرأة كانت أقل من غرامة قتل الرجل من نفس مرتبتها الاجتماعية، وتنخفض غرامة قتل المرأة إذا كانت متزوجة من رجل دون مرتبتها الاجتماعية، كما تنخفض غرامة قتلها إذا تعدت المرأة سن الإنجاب. ولم تكن قيمة المرأة أقل من قيمة الرجل في حدود الغرامات فحسب، إذ كانت حقوقها بصورة عامة منتقصة في خضم ذلك المجتمع القبلي الذي كان يسوده الرجل المحارب. فلم يكن للمرأة حق الإرث في العقارات إذا كان لها قريب حي، كما لم يكن باختيارها بيع وشراء الحاجات الثمينة. ولم يكن للمرأة الحرة أن تعيش لوحدها طبقاً لإرادتها وإنما كان مفروضاً عليها أن تعيش تحت سلطة رجل، فإن لم يتوفر فتحت سلطة الملك.
كانت المحكمة تنعقد برئاسة النبيل أو من يمثله ولم يكن هناك قضاة مختصون. وكان عبئ الإثبات يقع في غالب الأحيان على المدعىّ عليه، أي يجب على المدعى عليه إثبات كونه بريء من التهمة الموجه إليه. وكانت المرافعة القضائية عبارة عن تمثيلية دينية يفوز بنتيجتها في غالب الأحيان من هو الممثل الأفضل. إذ يبدأ المدعي بإداء اليمين بصحة دعواه ويرد المدعى عليه بإداء اليمين بكونه بريء ثم يروي إفادته بصيغة طقسية محددة بموجب عادات قديمة، فإن أفلح في ترديد إفادته بتلك الصيغة المحددة فانه سيكون واضحاً للمحكمة بان قَسم المدعى عليه صحيح وإنه بريء من التهمة الموجهة إليه. بالمقابل فإنّ المدعي وقد أدى اليمين كذباً، سيواجه العدالة الإلهية بصيغة لعنة أبدية، ولكن إن زلّ لسان المدعى عليه أو تردد أو سعل أو تلعثم وهو يروي إفادته فسيُعتبر ذلك علامة واضحة من الله على ذنب المدعى عليه وسيخسر حينذاك الدعوى. ويقبل عادة المدعي والمدعى عليه حكم المحكمة باعتباره إرادة من الله الذي تدخل بتلك القضية ليظهر الحق ويحمي البريء من الأذى، حتى وإن صدر الحكم بتجريم البريء. وسبب ذلك أن تلك الحقبة من الزمن قد سيطر عليها نوع من الورع الديني الخرافي، وإنّ الله يتدخل بكل شيء وله في تدخله شؤون.
أما في حالة وجود صعوبة في إصدار الحكم وعدم توفر أدلة ثبوتية أخرى فان للمتهم أن يثبت براءته بصورة مطلقة بالخضوع إلى الامتحان المرعب والذي لا يخطئ وهو المحاكمة بواسطة المحنة. وللمتهم أن يختار من بين العديد من طرق المحاكمة بهذه الواسطة، كأن يضع يده في النار، أو يسير بين كومتين ملتهبتين من الخشب، أو يحمل قضيبا حديدياً ساخناً إلى درجة الاحمرار، أو يلتقط حجراً من قعر مرجل فيه ماء يغلي. وبعد بضعة أيام من تعرض المتهم لتلك المحنة فانه سيعتبر بريئاً إذا تماثلت جروحه إلى الشفاء ويعتبر مذنباً إذا أصاب جروحه التلوث والالتهاب.
وإذا لم يملك المتهم القدرة على تحمل الآلام فله أن يختار محنة أقل ألماً ولكنها قد تكون أكثر خطورة وهي المحاكمة بالماء البارد. في مثل هذه المحاكمة تُقيد يدا المتهم ورجلاه ويرمى في بحيرة أو نهر. وسيكون بريئاً إذا غطس إلى القعر، عندئذ ستحاول المحكمة اصطياده وانتشاله بالوقت المناسب، فإن لم تتمكن فذلك من سوء حظه، أما إذا طاف المتهم فوق سطح الماء بسرعة فهو مذنب بالتأكيد. وقد علل هنكمار (Hincmar) أسقف مدينة ريمس هذا الأمر بالمنطق التالي: " إنّ الطبيعة النقية للماء تدرك ثم ترفض ما لا يتلاءم معها من نفس بشرية عملت على تطهيرها مياه التعميد ثم لوثها الكذب من جديد."
جاءت القبائل الجرمانية إلى أوربا وهي وثنية ولم تتخل عن عاداتها وتقاليدها بسهولة فقد بقيت لقرون طويلة تؤمن بالخرافات والأرواح وتمارس بعض طقوسها الخاصة. وحاولت الكنيسة في بادئ الأمر محاربة هذه العادات والقضاء عليها ولما فشلت في ذلك تبنت وسيلة أخرى وهي احتواء تلك الممارسات الوثنية وإدخال المعاني المسيحية إليها تدريجيا ثم تحويرها بالتالي لغرض عبادة الله بواسطة الدين المسيحي. وبتحمل الكنيسة لهذا العبئ فقد تأثرت هي الأخرى ببعض الممارسات الوثنية وما اختيار يوم ميلاد المسيح عليه السلام في الخامس والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) بدلاً من اليوم الأول من السنة الميلادية إلا لينطبق مع العيد الوثني للشتاء الذي كانت تحتفل به القبائل الجرمانية.
كانت المجتمعات الجرمانية تؤمن كثيراً بالسحر والشعوذة وبمعجزات القديسين. ولقد وصل الإعجاب الشديد (cult)، الذي يقارب عبادة القديسين، قمته من خلال تبجيل رفاتهم. وقد عارض القديس أوغسطين هذه العادة بقوله «يجب أن لا نعامل القديسين كآلهة، نحن لا نريد تقليد أولئك الوثنيين الذين يعبدون الموتى». ولكن حتى الكنيسة بدلت سياستها في القرن الثامن واتجهت هي الأخرى نحو تبجيل رفات القديسين، وكان الناس يتحملون مشقة السفر لمئات الأميال من أجل حج أضرحة القديسين ولمشاهدة الصناديق البراقة وهي تحتوي على جزئ من بقايا القديس، كأصبع أو قدم أو رأس. وكان يصاغ الصندوق الحاوي لبعض الرفات من الفضة والذهب ويرصع بالأحجار الكريمة والزجاج الملون، وكان المتبرك بها يأمل في استجابة دعواته في الدنيا كما يأمل بمجازاته في الآخرة.
على أن الظلام الذي ساد أوربا الغربية لعدة قرون بدأ ينجلي بإشراقة النهضة الأوربية، تلاها إصلاح ديني وثورة علمية ومرحلة تنويرية ثم ثورة صناعية.
إن الصراع الدائر حالياً في قلب الوطن العربي، سوريا والعراق، سينتهي باندحار قوى الظلام الداعشي والتطرف الديني. ولكن المسيرة في إرساء الحكم الديمقراطي وحصول سكان الوطن العربي على حقوقهم كاملة ستكون طويلة. أما اللحاق العلمي والأقتصادي بالأمم المتقدمة فسيعتمد على مدى الجهود المبذولة في هذا السبيل، علماً أن سبل الأتصال ونقل المعرفة قد تيسرت وأصبحت تنتقل من مكان لآخر بطرفة عين.
___________________________________________
*مستل بتصرف من كتاب تحت الطبع بعنوان "نهضة أوربا وسبات العرب: الأنسان هو الثروة" للكاتب أعلاه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة