الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة وعلاقتها بالعلوم الأخرى

علي المدن

2016 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يكتنف مفهوم «الفلسفة» الكثير من الغموض في أذهان الناس، ولطالما قُرن معناها بالتعقيد. وقد يتطور الموقف عند البعض فيستخدم لفظ «الفلسفة» للإشارة للتحذلق بالكلام. وإذا كان هذا التصور متفشيا في أوساط الجماهير من الناس، من غير الدارسين؛ وبالتالي يمكننا إلتماس العذر لهم بعدم معرفة حقيقة الفلسفة، فإن تصور من حصل منهم على تعليم عالٍ ليس بأقل منه تجريحا ونقدا. وهؤلاء لا يكتفون بالطعن في الفلسفة بغموضها وتعقيدها، وإنما لديهم موقف فكري أعمق هو سبب رفضهم للفلسفة. يقول هؤلاء:
1 – إن الفلسفة عديمة الفائدة، فهي ليست كالعلوم (طب، كمياء، أحياء، جيولوجيا ... إلخ)؛ حيث الفائدة من هذه الأخيرة واضحة للجميع، ولا يمكن الاستغناء عنها بحال من الأحوال.
2 – إن الفلسفة مثار للخلاف الدائم بين المتخصصين فيها. خلافٌ في معناها، خلافٌ في مجالها، وخلافٌ في القيمة المعرفية لنتائجها. كل فيلسوف يطيح بجهود سابقيه من الفلاسفة، فيشكك في قيمة أعمالهم وصحة نتائج أبحاثهم، وبالتالي لا نشهد أي تطور في الفلسفة. على العكس تماما من العلوم التي تتمتع بمنهج واضح، وهو التجربة، ونتائجها قطعية يمكن الوثوق بها، وطبيعتها تراكمية. يضف اللاحقُ من العلماء على سابقيه، فيتطور العلم ويتقدم.
هذه بعض الاعتراضات التي يطرحها المتحمسون للعلم، ممن لا يجدون مبررا للانشغال بتخصصٍ اسمه «فلسفة»، ويقللون من جدوى هذا التخصص وعوائده العملية. ولكن السؤال هنا هو: هل هذه الاعتراضات كافية لإقناعنا بما تريد؟ بل هل تنم عن فهم صحيح لما يعنيه هذا التخصص؟ هل فعلا أن الفلسفة مجردُ ترفٍ فكري يمارسه مجموعة من العاطلين عن مشاركتنا فوائد العلم الغزيرة؟ كلنا يعرف أن الفلسفة هي واحدة من أعرق الاختصاصات في العالم، وقد مارسها نخبة واسعة جدا من المفكرين الأذكياء منذ ستمئة أو سبعمئة سنة قبل الميلاد في اليونان وحتى يومنا الحاضر، وقد أنتجت جهود هذه النخبة مؤلفات تفوق الإحصاء، وشملت أسماء عديدة، من أمثال: سقراط وإفلاطون وأرسطو وأفلوطين والقديس أغسطين والكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وتوما الإيكويني وديكارت وكانت وهيجل وشوبنهاور وكيركيجارد وجون ديوي ووليم جيمس ونيتشه وبرتراند راسل وهوسرل وهيدجر وكادامر ... وغيرهم العشرات، بل المئات. فهل غفل هؤلاء جميعهم حقيقة ما أفنوا حياتهم في تحصيله؟
يبدو أن الاعتراضات المتقدمة تريد أن تطابق الفلسفة مع العلم! أي أنها تريد أن تجعل من الفلسفة علما، في حين أن العلم علم، والفلسفة فلسفة، ولا يمكن دمجهما معا، ولا توقع نفس النتائج منها معا، وذلك ببساطة لأن لكل واحد منهما أهدافه الخاصة. وقبل أن ننظر في الاعتراضين المتقدمين أعلاه، يجدر بنا التنويه على حقيقة لا ينبغي علينا تناسيها، وهي أن حياة الإنسان أعقد من أن تحتجز في مجرد تحقيق أهدافٍ عمليةٍ، ذاتِ منفعةٍ حسيةٍ مباشرة. فإن أعظم ما يمتلكه الكائن البشري هو أنه كائن مفكر. هو يفكر بـ «معنى» حياته، ومصيره. كما أنه الكائن الوحيد ـ على ما يبدو ـ الذي يعيش (بل ويموت) وفقا لأهدافٍ يضعها هو بنفسه لنفسه. وعليه، فإن التقليل من الجوانب النظرية للأفكار والقيم والفنون، وحبس الإنسان في تلك المعارف ذات العائد الحسي، هو في الواقع تفريط باهظ الثمن بجزء مهم من كيانه ووجوده. إن من الأخطاء الكبيرة أن تقاس الفلسفة بالعلم، وذلك:
أولاً: لأن الفلسفة تختلف في المجال الذي تدرسه عن مجال العلم. فالطب مثلا يعنى بجسم الإنسان وما تلحقه من أمراض، ولكن الفلسفة تنظر للجسد كموجود وتتساءل عن موجِده؟ وعلم النفس يهتم بوصف حالات الدماغ وأوضاعه، ولكن ما يهم الفلسفة هو السؤال عن العقل هو نفسه الدماغ أو أنه شيء آخر؟ وعلم القانون يكرس نفسه لتحديد جزاء بعض الأفعال؟ ولكن ما تعتني به الفلسفة هو السؤال عن استحقاق الفاعل أخلاقيا لذلك الجزاء؟ وقد تُولي الفيزياء جهدها لوصف الانفجار الكبير الذي نشأ عنه الكون؟ إلا أن ما تنشغل به الفلسفة هو دلالات هذا الانفجار الكبير، وهل نستغني به عن فرضية وجود الله ومسؤوليته عن خلق العالم أو لا؟ ... وهكذا الحال مع بقية العلوم، فحيث هي تقف عند جانب «خاص» من الموضوع الذي تتولى دراسته، تأتي الفلسفة لتطرح أسئلتها عن الموضوع في «كليته». إنها تلاحق ما هو أبعد مما وقفت عنده العلوم. وبهذا نعرف أن موضوعها ليس كما يظن البعض أنه عديم الفائدة، ضئيل العائد، بل اتضح لنا أنه في صميم الحياة ومعناها، وأنه يحتل أهمية كبيرة جدا.
وثانياً: لأن في الفلسفة، أو بالأحرى الفلاسفة، قد يكوِّن الواحد منهم رأياً خاصا به في أحد الأسئلة التي ذكرناها في النقطة السابقة، أو غيرها من الأسئلة التي لا نهاية لها، إلا أن ما يهم في الفلسفة، على العكس تماما من العلم، ليس تلك الآراء التي توصّل لها الفيلسوف، مهما بدت رائعة وعميقة تلك الآراء، وإنما المهم هو الأسئلة التي طرحها. وبعبارة أخرى: إن ما هو مطلوب في الفلسفة ليس أن تزودنا بالمعارف (وهذا قد يحدث بخصوص الأسئلة التي يتناولها الفيلسوف)، وإنما المطلوب، مطلوب بنحو أعمق، هو حثها المستمر لنا على التفكير وطرح الأسئلة، إنها تطلق فينا شرارة التساؤل النقدي، وتشحذ فينا مهارات التفكيك والمراجعة وإعادة البناء والتركيب، إنها تبقينا على صلة دائمة بالجانب الأروع منا ككائنات واعية ومفكرة. الفلسفة ما هي في الواقع إلا طريق للإنسان ليحرر نفسه والآخرين من كل ألوان التضليل والإكراهات والمغالطات. إن وظيفتها الأبدية هي الفحص الصارم لكل الأفكار وكل الاعتقادات وكل المفاهيم التي يمكن أن ترد في لحظة ما إلى الوعي البشري، وهي تُعمِل النظر في تصور الإنسان عن المعرفة وأدواتها وما يتولد عنها. ومن خلال ما تقدم نعرف لماذا أن الفلسفة ليست تراكما للمعارف كما هو الحال في العلم، ولماذا لا تشهد تقدما مستمرا ومطردا، ولماذا لا يمكن أن نتوقع منها يقينا أبديا. عرفنا لماذا أنها ليست كذلك لأنها في الواقع فن في التفكير، وأسلوب في فحص ومراجعة الآراء والنظريات، وهي بالتالي لا تنطوي على يقين، ولا تدعو إلى ثوابت، ولو أنها فعلت ذلك لتحولت إلى علم أو عقيدة، وتخلت عن نفسها وهويتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع