الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد العلوم

حسن عجمي

2016 / 12 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يتعرض العلم إلى نقد مستمر بغرض تنقية ما يرتبط به من خيال وهمي و موضة مشاعة. و هذا ما يقوم به الفيزيائي روجر بنروز بجدارة بينما الفيلسوف بول فيرابند يسعى إلى تفكيك العلم كليا ً و تحويله إلى أسطورة خرافية. لكن من الممكن دائما ً الدفاع عن العلم من منطلق كونه عملية تصحيح مستمرة.

العلم كموضة

يقول روجر بنروز إن العلماء عرضة للتأثر بموضة الأفكار و الاعتقاد الأعمى و الخيال المحض كباقي البشر. و يعتبر أن هذه العوامل كالخيال بلا وقائع و المعتقد بلا دليل و الموضة مهمة أحيانا ً في العلوم لكنها اليوم أدت إلى تخبط العلماء و خاصة ً في مجال نظرية الأوتار و ميكانيكا الكم و الكوزمولوجيا أي علم الكون. فيؤكد مثلا ً على أن نظرية الأوتار إبتعدت عن الواقع الفيزيائي من خلال إصرارها على وجود ستة أبعاد خفية للكون بالإضافة إلى الأبعاد الأربعة المعروفة ألا و هي الطول و الإرتفاع و العرض و الزمن. و لكون نظرية الأوتار القائلة بأن الكون يتكوّن من أوتار و أنغامها أمست موضة متداولة بين معظم العلماء حتم ذلك ضبابية الحكم على صدقها فأعمت أبصار العديد. يضيف بنروز قائلا ً إن ميكانيكا الكم و من جراء نجاحها في تفسير عالَم ما دون الذرة أوصلت البعض إلى تطبيقها على عالَم ما فوق الذرة فأصبح العالَمان محكوميْن بمبدأ اللايقين المتمثل أولا ً بلا يقينية ما إذا كان الجُسيم كالإلكترون هو فعلا ً جُسيم أم نقيض الجُسيم أي موجة و المتمثل ثانيا ً باللايقينية القائلة بأنه من غير الممكن معرفة سرعة الجُسيم و مكانه في الوقت عينه. لكن اعتبار اللايقين المعرفي سيد عالمنا المعاش و المحسوس موقف غير علمي. هكذا يرفض بنروز تطبيق لا يقينيات العلم على الواقع المنظور (1).

يؤكد بنروز على أن استخدام مفاهيم و مبادىء ميكانيكا الكم القائلة بلا يقينية ما يحدث في عالَم ما دون الذرة كعالَم الفوتون و الإلكترون لكي نفهم الكون المنظور ( أي عالَم ما فوق الذرة ) هو استخدام خاطىء. هذا لأن , بالنسبة إلى بنروز , العلم لا بد أن يعبِّر عن الواقع , و الواقع من حولنا حتمي فيقيني فإما أن هذه القطة حية و إما هي ميتة على نقيض مما تقول نظرية ميكانيكا الكم التي تصر على أن قطة شرودنغر لا حية و لا ميتة و تغدو حية أو ميتة فقط حين ننظر إليها و نعيها. فالواقع المادي المنظور , في نموذج بنروز العلمي , مستقل عن الوعي البشري ما يناقض موقف الفيزيائي جون ويلر الذي يصر على أن الوعي يشكّل العالَم بسبب لا احتمالية الوجود ما دون الذري و لا يقينيته. ينتقد بنروز أيضا ً ما يحدث في الكوزمولوجيا. فيقول إن معظم النظريات في الكوزمولوجيا حول أصل الكون و نشوئه ليست صحيحة. و مثله على ذلك نظرية الانفجار العظيم التي تعتبر أن الكون قد نشأ من انفجار ضخم بسبب الكثافة اللامتناهية للمواد المتواجدة في نقطة مكانية واحدة ما أدى إلى التوسع المتسارع للكون بفضل هذا الانفجار الأولي و كأن مجرات الكون و شموسه و كواكبه شظايا هذا الانفجار. يقول بنروز إن نظرية الانفجار العظيم لا تراعي الأدلة العلمية التي تشير إلى وجود سابق على ما يُدعى بالانفجار العظيم ( المرجع السابق ).

هكذا , بالنسبة إلى بنروز , أمسى العلم شبيها ً بموضة الثياب و العطور و محكوما ً بمسلّمات يقينية مخادعة. لكن هذا النقد للعلم المعاصر لا يستدعي رفض العلوم لأن العلم عملية تصحيح مستمرة و بذلك نقد العلم جزء لا يتجزأ من العملية العلمية. لذا العلم دائما ً هو المنتصر. و الصراع بين النظريات العلمية , كالصراع بين نظرية النسبية لأينشتاين القائلة بحتمية قوانين الطبيعة و نظرية ميكانيكا الكم القائلة بلا حتمية القوانين الطبيعية , يحتم لا محالة السعي الدائم إلى بناء نظريات علمية جديدة قادرة على حل الخلافات و الإشكاليات العلمية ما يؤدي إلى تطور العلم. من هنا نقاط ضعف العلوم المعاصرة مصادر قوة العلوم في المستقبل. فمن جراء الصراع العلمي بين النظريات المتنافسة تبقى النظريات الأنفع و الأفضل و الأصح ما يحرر العلم من عوامل الخيال المحض و الاعتقاد الأعمى و الموضة الزائلة. على هذا النحو , العلم لا ينهزم.

هل العلوم فاشلة ؟

نقد بنروز للعلم أقل حدة بكثير من نقد فيرابند الذي يفكك العلوم و يحوّلها إلى أساطير. فالفيلسوف بول فيرابند ينفي وجود منهج علمي في كتابه " ضد المنهج ". بالنسبة إليه ، لا توجد مبادئ أو قوانين منهجية مستخدمة من قبل العلماء بشكل دائم. فلا منهج علمي يملي على العلماء ما يجب فعله و التفكير فيه بل كل شيء مقبول. وحجته أنه إذا وجد منهج علمي فسوف يحدِّد عمل العلماء و يسجنهم في مبادئه ما يحتم عدم نشوء أي تطور علمي. و يدعم موقفه قائلا ً إنه عندما نشأت نظرية كوبرنيكس القائلة بأن الأرض و الكواكب الأخرى تدور حول الشمس كانت معارضة لكل مبدأ علمي موجود في زمنها. فإن تم تطبيق تلك المبادئ العلمية المسيطرة حينها لقتلت تلك المبادىء الثورة العلمية الجديدة المتمثلة في نظرية كوبرنيكس و منعتها من الظهور (2). يُكمِل فيرابند مسيرته الفلسفية في كتابه " ديكتاتورية العلم " قائلا ً إن النظريات العلمية ليست ناجحة لكونها مجردة و بذلك لا تنجح في التعبير عن واقعنا المعاش و عالمنا المحسوس. فاعتماد العلم , بالنسبة إليه , على التجريد و القضايا و المسلّمات الكلية بدلا ً من العبارات الجزئية المشيرة إلى هذه الوقائع المحسوسة أو تلك يجرِّد العلم من النجاح الحقيقي (3).

لكن من الردود الفلسفية الممكنة على موقف فيرابند الرد التالي : إذا كان العلم غير ناجح لفشل في إنتاج تكنولوجيات ناجحة معتمدة أساسا ً على النظريات العلمية. فهل العلوم فاشلة ؟ لا تبدو كذلك و إلا لم يتمكن أي عالِم من تفسير أية ظاهرة طبيعية و إن كان تفسيره ليس يقينا ً في المطلق فالعلم نقيض اليقين لكونه عملية تصحيح مستمرة. بل العلم يعتمد على ما هو محتمل و ممكن في طرح نظرياته و لذا يتطور العلم بشكل دائم. و إن كان العلم فاشلا ً حينها لن يتمكن أي طبيب من مساعدة أي مريض. و في حال فشلت العلوم فسيخسر مفهوم النجاح معناه. فالأفكار الناجحة هي الأفكار العلمية أو المعتمدة على العلم لأنه لا يوجد معيار آخر لنجاح الأفكار سوى علميتها. من هنا لا يمكن للعلم إلا أن ينجح لكون الفكر الناجح هو الفكر العلمي فالنجاح يتضمن بالضرورة العلم و العكس صحيح ما يجعل العلم و النجاح مفهوميْن لا فراق بينهما. فإن قلنا مثلا ً إن الأفكار الناجحة هي الأفكار المفيدة لاستلزم ذلك تفسير لماذا هذه الأفكار أو تلك مفيدة. و السبيل الوحيد لتفسير إفادتها كامن في اعتبارها موضوعية فمعبِّرة عن الواقع فعلمية و لذلك هي مفيدة. على هذا الأساس , لا مفر من قبول نجاح العلم.

السوبر مستقبلية و العلم

السوبر مستقبلية تنجح في الرد على تفكيك العلم و نسفه. بالنسبة إلى فلسفة السوبر مستقبلية , التاريخ يبدأ من المستقبل و بذلك هذه الفلسفة تحلّل المفاهيم من خلال المستقبل. بعض الأمثلة على ذلك تحليل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل و تحليل الحقيقة على أنها قرار علمي في المستقبل. هنا يدخل مصطلح المستقبل في عملية تعريف المفاهيم فتصبح مدلولات المفاهيم متحققة كليا ً في المستقبل. و لذلك تصر السوبر مستقبلية على أن التاريخ يبدأ من المستقبل بدلا ً من الماضي. فنحن مَن نصنع الماضي و لذا ماضي الشعوب المتطورة اليوم ماض ٍ متطور بينما ماضي الشعوب المتخلفة حاليا ً هو ماض ٍ متخلف. و بما أن المعنى قرار اجتماعي في المستقبل , إذن المعاني معتمدة علينا في تكوينها ما يحررنا من المعاني الماضوية و يضمن استمرارية البحث المعرفي حول كيفية تحليل معاني المفاهيم. و هذه فضيلة أساسية للسوبر مستقبلية. من جهة أخرى و بما أن الحقيقة قرار علمي في المستقبل , و من المفترض أن العلم يُعبِّر عن الواقع, إذن الحقيقة هي المطابقة للواقع. و هذا هو المطلوب من التعريف الصادق لمفهوم الحقيقة و إلا أمست الحقيقة وهما ً. و لكون الحقيقة هي قرار علمي في المستقبل , إذن لا بد من البحث الدائم عن الحقائق ما يضمن استمرارية البحث العلمي. و في هذا أيضا ً فضيلة كبرى للسوبر مستقبلية.

كما تتمكن السوبر مستقبلية من تقديم تحليلات فلسفية مقبولة للمفاهيم كتحليلها للمعنى و الحقيقة , تقدِّم أيضا ً تحليلا ً ناجحا ً للعلم. بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , العلم هو قرار كيفية وصف و تفسير الكون بنجاح في المستقبل. و بذلك العلم يتشكّل في المستقبل فلا يكتمل في الحاضر و الماضي ما يجعل العلم عملية بحث مستمرة و عملية تصحيح دائمة لِما نعتقد أنه علمي. هكذا ينجح هذا التحليل للعلم في التعبير عن أن العلم عملية بحث و تصحيح مستمرة فيكتسب هذه الفضيلة المعرفية. فبما أن العلم قرار مستقبلي , إذن لا بد من السعي الدائم إلى صياغته و بذلك يضمن هذا التحليل للعلم استمرارية البحث العلمي و بناء نظريات علمية جديدة. و علما ً بأن العلم قرار كيفية وصف و تفسير ظواهر الكون بنجاح في المستقبل , إذن و إن فشلت بعض العلوم أو معظمها أو تحوّلت إلى موضة سيبقى العلم متضمنا ً بالضرورة النجاح في وصف الكون و تفسيره في المستقبل ما يحتم قبول العلم. هكذا تتمكن السوبر مستقبلية من الرد على المشككين في العلم كفيرابند أو الذين قد يستنتجون مواقف شكية من العلم على أساس نقد بنروز. و العلم قرار لأن مَن يدرسون الكون هم الذين يقررون كيفية وصفه و تفسيره. و على ضوء أن العلم قرار بشري في المستقبل , إذن العلم يعتمد علينا نحن في صياغته ما يحررنا من علوم الماضي و يدفع نحو التطور العلمي المستمر. من هنا العلم حرية لا تزول. إنسان بلا علم إنسان بلا حرية. و إنسان بلا حرية إنسان بلا وجود.


المراجع

(1)

Roger Penrose : Fashion, Faith, and Fantasy in the New Physics of the Universe. 2016. Princeton University Press.

(2)

Paul Feyerabend : Against Method . Fourth Edition. 2010. Verso.

(3)

Paul Feyerabend : The Tyranny of Science. 2011. Polity.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا