الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -4-

جميل حسين عبدالله

2016 / 12 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية

-4-

وهكذا، فإن التيارين ما افترقنا إلا حين عبر كل واحد منهما عن المراد بلحظة الوصول، ونقطة الحصول، فذا قد رآه بنظر نال به حصته ‏في وصال الأصول، وذاك قد رآه بنظر كشف فيه عن الحقيقة بالمثول، لأن اختلاف الطرق بين آثارها المتشابكة، واختلاط الهمم بين ‏آجامها المتكاثفة، لا يفرض إلا الحرص على انتخاب أسرع المسام النافذة إلى صراح العسل المتدفق منها، ومحض الخمرة التذوق فيها. ولذا ‏كان الاختلاف غير مرئي في رسومها، لكون طلاب المعرفة في أعلى حد من حدودها، لا اهتمام لهم إلا بكسب القربة، ونيل المنة. وهكذا، ‏لا أراني إلا مؤلفا فيما بينهما، لا موفقا أو ملفقا لهما، لأن ما هو كامن في محل السر الذاتي الذي لا يستفيض إلا من العمق، لا يملك زمامه ‏إلا ما تستكنهه في الأشياء من سمو ذوق. وما هو على سطح الحقيقة المنتزعة من ظواهر الأشياء الخارجية، لا يأتي منه إلا ما هو جار ‏عليه من أمر في المشيئة الأزلية. إذ هي لا تحابي أحدا لكونه قويا في الإرادة، ولا تناصر شيئا لكونه ضعيفا في القدرة، وسواء كان ما يقوم ‏به في واقعه نظاما قائما بالعدالة، أو كان ما يدبره محرفا للصورة الإنسانية في العناية. فكلاهما يتقوم به حال الصوفي ومقامه، ويتعدد به ‏سلوكه، وسيره. فما هو ذاتي في كينونته، لا يستوعب إلا في العمق الذي يخزن صورتنا الفطرية البريئة، وما هو محل نزاع في صيرورته، ‏فذاك لا يسدد إلا بالأنظمة التي تلامس حياته، وتشاكس لذاته.‏

‏ وعلى هذا الاعتبار، ونحن في أوج البحث عن حرية الاختيار، لن تكون الزوايا والتكايا إلا مساحات هيئت للتربية على نمط من ‏السلوك والآداب المحددة، ومجتمعات مصغرة يتحقق بها الانتماء في الدائرة المقيدة، ورواتب وضعت لتنمية الذات على الاندماج في المحيطات ‏المختلفة. وهي في معناها أقرب إلى الوسيلة من الغاية، لكونها تدل على طريق مسلوك لكسب المعرفة، وترمز إلى خصوصية يلبسها نوع ‏معين من الحقيقة. لكن الغور الأبعد، والشأو الأسعد، هو ما يجري على الصوفي من أقدار يهتدي فيها إلى معرفة حقيقته ضمن حقيقة ‏غيره، ويقتدي بها في ضروب معاناته التي يقطع بها طريقه المعشوق نحو عالم مثله. ولذا لا يمكن له أن يعيش في محيطه إلا إذا انفعل مع ‏الأشياء بمقتضى آدميته، وامتزج فيها بسوي أفعال بشريته، وإلا قلنا بألوهيته التي تبعده عن المسؤولية على فعله، وتحصره في عالم لا ‏يضيف إليه معنى تسمو به صولة كبده. ‏

ربما قد يكون الانتظام في سياق التجربة الجماعية ضرورة لمن استوهب من المعاني فوح طيبها الأزكى، وابتغى أن ينال من المقامات المرام ‏الأسنى، لكن من انغمس به العشق في جذر الشجرة الوارفة، وانحنى منه الأمل عند رموز المعاني الواجفة، وهو يبحث عن نواة ‏وجودها، ويفتش عن بؤرة روحها، ليس هو ذلك الذي نال الحصة بالميراث الأوفى، لا بالقصد الخالد في الكسب الأبقى، لأن كمال اليقين في ‏الجهد المبذول، لا في الجذب المعلول، إذ الصوفية في التنصيص على أحوال السالك لمقامات الأفعال، قرروا بصريح الأقوال، وواضح ‏الأمثال، أن المجذوب مراد، وأن خصوصيته ملك له على انفراد، وأن ما يتراءى عليه لا أمر له فيه، وأن ما يسبل على غيره من إزار ‏غموض معانيه، لا يفهم إلا في حال أمداء مقامه. ‏

وهنا يكون بدون قدرة على فتل حبل الترقي في حرد المريد، ولا على إرادة تنقدح قوتها في طي طرق الوصول إلى المراد، لأن جوهر ‏التسليك في الوعي بدروب الأطوار، والفهم لصروف الأدوار، إذ بهما يتحدد دور المشايخ في التربية، ويتحقق السلوك إلى معين المعرفة. ‏فلذا لا يحق لمن طُلب بالبحث عن ضالته، أن يبقى أسير الانتظار لمعجزته، ولا أن يرقب المحال في زمن مقصور على ممكنه، لأن المعاني ‏لا تشرق أنوار شمعتها، إلا إذا كان المكان زاهرا في أنظار عشاق ضوئها . ولكن لكل واحد منهما مقام، ولا يخلو من مرام، لأن الأول رسم ‏التصوف منهجا، فجاء منه الاتباع قصدا، وابتهاجا، والثاني حده باللامتناهي، فجاء منه التأمل في المادي طلبا لما توراى وراءه من المعنى ‏الروحي، والإلهي. وهنا يكون الزمن واحدا في التجربة، وما يفرضه نازلا عليهما في كبد المعاناة بلا استقلال، ولا ميزة. لكن ذا يسوس ‏أمر وصاله بالحد الموجود، وذاك يقوده الحد إلى معنى اللامحدود.‏

قد يستشكل بعض تداخل قوتي الزمان والمكان في انسياب تجربة الصوفي، وخبرته في محاربة حظه البشري، وهو في خطفة نظر، أو ‏ومضة حذر، قد يراه منحازا إلى نفيهما في وكده البشري، ومنساقا إلى سلب حقيقتهما في نظره العلوي. وذلك ما تشير إليه أدبيات السلوك ‏عند الصوفية، وعليه جرى القول عند من تذوق بعض المعاني الروحية، وخاض لجة اللفظ بسفين المواجيد المعنوية. لكن هل يمكن الفرق ‏بين القولين، والتمييز بين الآن الوجداني الخالد، والزمن الفيزيائي المحدود، لكي نعرف مقدار ارتباطهما في مقام، وانفصالهما في مرام.؟ إن ‏حقيقة الزمن الصوفي، وطبيعته في التصور الذهني، وخصوصيته في تجاوز الأحداث المتعاقبة على الأجيال، وقدرته على صياغة الخبرة ‏الذاتية الدالة على الكيان القائم بالامتثال، هي حقيقة الزمن الذي يعيشه غيره، لأنه لا معدى له عنه، ولا مهرب منه، وكلاهما يحس به، ولا ‏فرق بينهما فيه، لكونه مطردا في الحياة البشرية التي بها قوام وجوده، وضرورة شهوده. لكن ما يفرق بين الإدراكات في الوعي بالشيء ‏المقصود حيازته، هو ذلك المعنى المنظور إليه في لاوعي حقيقته، لأننا لا نتمايز بشدة الامتلاك له، ولا بحدة إخضاعه، إذ هو في كل عين ‏قابل للامتداد، لكون ما يحاز في الإحساس به واحد، بل يحصل التمايز بصوره الباطنية التي تمنح الأشياء تصورا معينا، وحقيقة ومعنى ‏عينيا، يتم بها الفرق بين ما نعيشه، أو ما نأمل أن نحياه فيه، لأن عمق الإنسان هو كهف معناه، وجرف مغزاه، وفيه تختلط حقائقه، ‏وتمتزج وقائعه، لكي تخرج في ضرورتها إلى الوجود المعروف به، وتظهر إما صحيحة وإما معتلة فيه، لأن الباطن هو الذي نختلف في ‏الإخبار عنه، أما الظاهر فهو فاضح لما يبرز عليه، وكاشف لما يرشح منه. ومن هنا، تكون لغة الأعماق هي التي تميزنا، وهي التي تظهرنا، ‏وهي التي تشهرنا، وإذا ما عن لنا أن نجعلها في جزئياتها واحدة، فقد آذنا الكون بالبغض، والضغينة. وما دمنا نقر بوجود التعدد في ‏الطبائع، فإن المتحقق يقع نظره على رأي تتآلف به النتيجة في القصد الأنفع، فيكون على هذا الحد ما يضمره الإنسان في الأغوار العميقة ‏القلاع، هو الأنا الذي نصير به أشخاصا نقبل تمدد الاتساع، ويكون ما نحن عليه بين الديار، والتلاع، هو واقعنا الذي نعيشه بين أنظار ‏التوقع، والانتظار لحدوثه في الوقائع، لأنه زمن المستقبل المجهول، وتاريخ الإنسان الذي يكتبه بنفَسه المبذول. إذ هو النتيجة المحصل عليها ‏في الفعل البشري، والخلاصة التي انتهى إليها الأمل في الجهد الإنساني.‏

ومن هنا، فإن الصوفي لا ميزة له فيما هو واقع موقع الجبر، ومسير فيه بمقتضى القدر، وهو الإدراك الذي يشعر به كل من يرى الزمن ‏كاسفا للهدوء، والأمان، ويحس في غبنه وألمه وقلقه بمعنى الحزن، والأشجان، وكأنه مفارق له بما تخلف فيه من نهم، وما تفجر في غوره ‏من ندم، فيشهد الحياة عبارة عن ساعة ألم، ولحظة ورم. وهؤلاء لا يستغرب منهم البكاء على الأطلال، ولا التألم بين الديار بكدر ‏الأحوال، لأن ما ينزف فيهم من كيس البلابل، لم يُنَمِّ فيهم إلا السآمة من خداع شغب الدلائل، إذ ما يذرف من دمع على الديار ‏الدارسة، لم يكن إلا عشقا للأيام الخالدة. ولولا ذلك، لما كان الشعر صوت البكاء، ولما كان التأمل صمت العناء. وهكذا، يكون الزمن في ‏صفاته المكونة لذاته نفسيا، يطوي عندنا ما كان في البواطن معنى ساريا، ثم انطوى على أمل الإنسان في درك مشترك الوجود، لكي ‏يدل على ما يعقده من وصال مع حقائق الحدود، وينص على الذات المنصهرة في كليتها مع معاني التوحيد، لأن مجرد الزمن الثابت ‏العلاقة، ومهما كان هبة، فهو عند الإحساس بضياعه نقمة. إذ هو في قيمته لا يقاس إلا بالمعايير التي تنال به الإدراكات القويمة، والمعارف ‏السديدة. ‏

ولذا لا يستساغ أن يميز الصوفي برأي عند هذا الحد، ولا أن يدعي فيه مبتغ للحقيقة أي دعوى باطلة في الاعتقاد، لأن ما يناله من ‏فاعليته، وما يغنمه من انفعاله، هو عين ما يكسبه غيره بالجد، ويحرزه بدافع الجهد. لكن مناط الاختلاف لا يتحقق إلا عند النظر إلى ‏الزمن المرتبط بإدراك الذات المتفردة، وقدرتها على تجاوز المخارج والمعايير الموضوعية المتغيرة، لكي تُكسب في عمقها معنى للذات المتوحدة، ‏وهو المقصود بتعدد التجربة عند إرادة توضيح المقامات المتنوعة، وهو المطلوب بتنوع الموارد عند تحديد منابع المعرفة المتنورة، لأن زمن ‏الصوفي في قابلية قيمه الكامنة في قوى عمقه، والنازفة في رشح ذاته، لا يشترط القبلية، ولا يفترض البعدية، ولا يستوجب القدرة، ولا ‏يستوحي من الإرادة، وإن كانت الواردات في الاعتبار واقعة عليه بالنسب المحدودة بوجوده بين متغيرات الطبيعة، ووقوعه تحت سياط ‏الأقدار المدبرة للمعاني المحسوسة بنظام الحقيقة، بل كسب المعرفة به في ملكات الكيان، لا يفرض مقام الحضور في كون الزمان، ولا ‏المكان، لأنهما ظلان لخيال هو في عينه حادث بين الأكوان. ولذا، فإن ما انتهى أمره إلى النهاية، فهو غير الأبدي المستغرق في الأزلية. ‏لأن الصوفي لا غاية لعشقه إلا في الفناء، وكل ما يدني إليه فهو أجدر بالوفاء. ‏

فلا عجب إذا غدا الزمن عنده شاحب المناظر، لا يرى فيه ما يحمله على رفرف العشق إلى صفاء المعابر، لأنه فتق من الزمن ضده، ‏فكان لازمنه وقتا هاديا للوصول إلى قصده. وما غايته إلا أن يتصل بالأبدية، حيث لا زمن إلا شمس الأحدية. ولذا يكون الزمن معنى ‏روحيا، لا شيئا ماديا، ولا عرضا خارجيا، لأن الانفصال في وحدته، يعني أمران في تبصر محمولات حده: الأول، أنه لا علاقة للإنسان ‏به، فيكون كسبه مستحيلا في حقيقته. والثاني، أنه مملوك له، وهو الذي يعده، ويحصره، ويشهد فيه ليله، ويلبس فيه نهاره، ويرى فيه ما ‏تغير أصله، وما توارى عينه. وعلى هذا يكون قادرا على طيه، وفاعلا في نشره. ولكن يرد علينا هنا أن الزمن الباطني، إما أن يكون ‏إحساسا بكونه لا يقوم إدراكه إلا في الماهية، والجوهر الذاتي، وهو مطرد، ونسبي، وإما أن يكون إدراكه سببا للتماهي في الزمن ‏الكوني، والمعنى الإلهي، وعلة للتجاوز المفضي إلى اعتباره شيئا متوهما لا حقيقة له، ومقاما يكون العشق فيه كمالا لتقديسه. ‏

ومن هنا، فإن قيمته تتجلى في كونه شيئا متعلقا بإدراك الذات للمعاني التي يتوارد عليها الأمر الإلهي بالتعاقب، والتوالي، لا من حيث كونه ‏مدركا بجارحة العين المحددة للأشياء بأعيانها وأجرامها الموصولة النسب بالمتغير المادي، لأن التجاوز للمادي الفيزيائي إلى النفسي، أو ‏الروحي، أو الميتافيزيقي، هو الانشقاق عن دائرة الزمن الاجتماعي، والمحدود النسبي، والمتجدد في الموجود الخارجي، لكي ينسى الإنسان ‏بين ريب الزمن آلامه الشقية في حياته، ويتحرر من العناء الذي يدبره في خاصيته، لعله يتصل بتلك اللحظة المفعمة بحضوره في مشهد ‏ألوهيته، إذ النظر بتسام إلى سيلان الزمن، ما هو إلا عشق لفاعله الذي لا يحده حد في الكيف، ولا في الأين. ومن هنا، فإن الصوفية ‏حين عبروا عن مجرد الزمن المنساب في الحقيقة، جعلوه ما يقوم به الحال في اللحظة، لأنهم يشهدونه حاضرا في خصوبة المعنى المتدفق بين ‏ذواتهم، ويلمسونه بارزا بين معلوم ألحاظهم، لا فيما يعن لهم من سراب يخدع سوْرة العقل، ويغري بلازم الأفعال، ولكنه إذا أراد ‏الإمساك به بدا سرابا بلا عقال، وصار حسرة وندامة وفقدان آمال، إذ الحسي فيه، هو الذي يؤلمك الوجود معه، لكونه مدركا بما ‏تؤقته، ومرتجى فيما ترسمه. وهكذا يكون الزمن مرآة في القلب، يكعس ما تعالت به الروح في الطلب، وينقش عليها ما تحن إليه الأفئدة ‏من صميم العشق، وتدب إليه من صراح العتق.‏

وإذا أدركنا أن الزمن الصوفي هو الحال، أو الأين بلا مِحال، فلا محالة، سنكون قد كشفنا عن القصد غرة الإشكال، وأزلنا التباس ‏المقام عند النظر في الإجمال، لكن بقي لنا أن نشير إلى أمور لها علاقة بما نحرره، لكون الزمن من أعقد الدروس التي لها ارتباط بتحديد ‏وجودنا فيه. ولذا، فالزمن لا يعرف إلا بقياس أنظارنا، وإذا قلنا عنه شيئا بتفكير عقولنا، فإنما هو رهين أذواقنا، وسجين إحساسنا. ولا ‏شيء أدعى إلى الاختلاف مما نحبر فيه العبارة بمنتهى إدراكنا للأشياء، لأن اختلاف طرق صوغ المعرفة نظير تفاوت طاقتنا في ‏الاستعداد، والأداء، إذ كل واحد منا له حظه الذي ينتهي إليه، وقوله في العلم موجود بمقدار إدراكه له. وهنا اختلفت الآراء، وتسامت ‏عند مرتبة الحكماء، ودنت في دركات الأغبياء، لأن حركة الزمن لا وجود لها حقيقة إلا في اللحظة الآسرة، وما سواها من معاني ‏الإحساس بتعاقبه، وتوارده، فهو تدفق الماضي في الغد المجرور إلى الأمام بقوة آمرة، وتغير المقام من لون متوحد إلى ألوان متكثرة لم ‏تكشفها العين المقيدة. ‏

ومن هنا يصير الحال أو الأين هو النقطة التي تتجمع فيها الأزمنة، وتذوب فيها المعاني بين بحار الأبدية، لكونها ليست ماضيا لا يكرر، ‏ولا غدا مجهولا ينتظر، ولا حالا يحصر. وعلى هذا يصير لازما علينا عند الحديث عن الصوفية أن نفصل بين قولهم بالأين، وهو صورة ‏الزمن عندهم، وبين قولهم بالأبدية، وهو حقيقة الزمن عندهم، لأن الأول هو الجزء الذي امتاز به الصوفية في تركيب حقيقته بين ذواتهم، ‏لأنهم جعلوا الحال ما يعيشونه كغيرهم، وإن لم يتفق النظر معهم في تحديد المراد، إذ هم يريدون ما هم عليه بلا قيود، بينما غيرهم يراه مقسما ‏بين دوائره الثلاثة، فيخشون من العدم، وهو العناء، والألم في الحياة النابضة بالأفراح والأقراح المتوالية. فلو حسبوا الزمن متوفقا، ‏لنالوا فيه معنى الأزلية وفاقا. وأي ألم أجلى من رعب يدبره انقضاء الزمن بين الأشباح، والغوائل.؟ الثاني، هو الانتقال من صورة ‏المجرد إلى حقيقة المطلق، ولهذا سبحوا في زمن الأحدية، وهو عين الأبدية، والسرمدية. ومن ثم اكتست المعية قيمتها، وصارت برهانا على ‏تذوق المعرفة بمعناها، لأن الارتقاء من الأين الدال على الأنا، هو الانزياح نحو بؤرة الحقيقة في دائرة الإلهي، وهو المعايشة المتجاوزة ‏للطور البشري، والمساكنة لليقين الحاصل في تجليات الأحدي.ومن هنا يشهد الصوفي في الزمن صفات مقامه، فهو بين السكر، والصحو، ‏والحضور، والاحتجاب. وذلك ما يجعل الزمن ثابتا في مقام، ومتغيرا في زمان، لأنه في ارتباطه بالذات متحرك بحركتها، وفي علاقته ‏بالتجليات الإلهي أزلي بثباتها. ‏

وتأسيساعلى هذا، يكون الزمن الصوفي في ذاته، هو المعنى الذي يحس به، ولو تنافى مع غيره، فإذا شعر بالوحدة فيه، فإن ذلك يعني ‏أن طيه الذي حصل في موضع يكون نشره فيه ضرورة عند غيره، هو الذي يميزه، ويعرفه، لأنه قد انتبه لا نصرامه بين الموارد المتعبة، ‏فخشي الانقطاع عن مراداته المقدسة، فاستعان بطاقته في تجاوز ما هو نسبي وقابل للتغير، لكي يلج باب الآن برغبته في الأحدية الخالدة ‏الأثر. لكن هل الزمن يطوى في الجهد البشري، فيكون وحدة متكاثفة في إدراك الصوفي.؟ أم أن التغير سمته، والسرعة شيته، فيكون على ‏هذا غير قابل للاستيعاب، لأنه إما ماض تبدد بين الحسرات، والمصائب، وإما حاضر عان لما نبض فيه من أحداث، ومتاعب، وإما ‏مستقبل طافح بالمجهول، والغياب.؟ إن تقسيم الزمن عند الصوفي وهم من الأوهام، وحلم الأحلام، لأن تكراره وعلة سببيته دليلان على ‏حدوثه، وما هو متصف بالحادث في حكمه، فالصوفي لا يعير له بالا في نظره. كلا، بل يرتقي الإحساس عنده إلى اعتباره تيارا واحدا لا ‏قيمة له عنده، ولا طوبى لمطاردته له، لأنه لا يرى في الأشياء إلا سرا واحدا، ولا يشهد فيها إلا قصدا مفردا، وهو غير محصور للزمان، ‏والمكان، بل هو غير محدود لهما في الجنان، ولا مقصور على ما يرد به البيان. ولذا يكون معنى الزمن اللامحدود هو المقصود في كل ‏التجارب التي أدركها الصوفي في طبعه الإنساني، لأنها إما تجربة في الزمن الأرضي، أو الكوني، أو الأزلي، ولهذا يكون الزمن الإلهي ‏عنده مجازا لنيل حقيقته، لأنه متعذر الحصول عليه فيما عرفه الإنسان من زمن معدود، وعمر محدود. ولذا لا يجوز القياس عليه في المعاني ‏التي نبحث فيها عن الأبدية، ونطلب معها سر الوصال بالسرمدية. وهنا يكون الزمن الصوفي الذي يقطعه السالك في طريق الحقيقة، هو ‏هذا النفَس الإلهي المخزون في نسمة الروح البشرية.‏

ومن ثم، اكتفينا بذكر الزمان، ولم نذكر المكان، لكون الأول يتضمن معنى اللامحدود، لأنه كما هو في حركة الأفلاك زمن أرضي، فهو في ‏اعتبار التدفق والسرعة عين الزمن السماوي، لكن المكان على عكسه، فهو يتضمن خاصية الثبات، لكونه يتضمن الكمية والكيف وغيرهما ‏من العوارض التي تجعله قابلا للصيرورة المانعة عن اتصافه باللامتناهي، لأنه قائم على الحركة الموجودة في الأشياء المتعارضة، والمتوافقة. ‏ومن هنا يكون المكان مرتبطا بالطبيعة، بينما الزمان مرتبط بالكون. وإذا اتفقا، كان الزمان دليلا على اللازمان، والمكان دليلا على ‏اللامكان، لأنهما لا يردان في باب الضدية، إلا لكون أحدهما لا يوجد إلا في محضن الآخر، إذ لا زمان بدون حيز المكان، ولا علاقة لنا به ‏إلا في حدود الزمان. والعلاقة بينهما تلازمية، لا ضدية، وإلا فإن اللازمان لا يدل على المكان، واللامكان لا يدل عليه الزمان. وإن ‏افترقا، وانفصلا، كان للزمن ارتباط بعالم الوجدان، والمثل، واللامتناهي، وكان للمكان ارتباط بعالم الإحساس، والصور الذهنية النسبية. ‏

وهكذا، فإن وجودهما كامن خارج العقل البشري، وهما مستقلان، وليسا مجرد أوهام إلا بالنظر إلى ما يكونان له ظرفا يحتوي الفعل بصيغ ‏شتى، وذلك مما تنفرد به رغبة الذات في اكتساب المطلق، والعقل الكلي، والعلة الفاعلة، والمثال الأعلى. وإذا كان كل واحد منهما مرتبطا ‏بالوجود عن طريق الآنات، أو النقاط، فإن الزمان يدل على التتابع فيه، بينما يدل الثاني على التساوق معه، فيحدث الفعل في الزمن ‏متتاليا، ولا وجود له إلا في حضن المكان، وهنا يصعب الفصل بينهما، إذ يستلزم أحدهما الآخر في الإيجاد والوجود، لكن إذا تعالينا على ‏المكان، وتسامينا عن الزمان، لأنه آلة الرحلة إلى العالم الفوقي، فإننا ننقدح بشرارة المعرفة للعالم المطلق الذي لا يعتريه الزمان بالتغير، ‏والا المكان بالتعاقب. وعلى هذا يكونان ظلالا للتجلي المطلق في الفيض الإلهي على الأكوان. ومن هنا، يكون للزمن أثر على الإنسان، ‏لأنه تحدث فيه التغيرات بين ماضيه، وحاضره، ومستقبله، وهي ما يحمله بين المراحل التي يقطعها الإنسان من طفولته إلى شيخوخته، بينما ‏المكان يحدث فيه التغيير بالانتقال من نمط إلى نمط آخر، يحدده تغير الأجيال، وتواردها، وتعاقبها، وانصراف الناس عن سياق إلى ‏سياق أكثر منه تقدما، وتحضرا. وعلى هذا، يكون الوعي بهما سببا لكسب علاقتنا بالعالم الأرضي، والسماوي، بل لا تحول لنا من حال ‏إلى حال، أو من مقام إلى مقام إلا بهما في السير الفردي.‏
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع