الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في المعنى السوسيولوجي للثقافة

ابراهيم الحيدري

2016 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية





يتميز الانسان عن باقي الكائنات الحية بأنه يمتلك عقلاً يفكر به ولغةً يتفاهم بها ويداً يعمل بواسطتها. ان هذه الخصائص الأنثروبولوجية التي يتميز بها الانسان تعطيه القدرة على انتاج المعرفة. وفي مقدمة المعرفة الإنسانية تقف الثقافة كنتاج اجتماعي. كما ان لكل مجتمع ثقافته الخاصة به التي لها مقوماتها وعناصرها المادية والمعنوية. ويعود الاختلاف بين الثقافات الى عوامل ذاتية وموضوعية ومن هنا نتكلم عن تنوع ثقافي في العالم.
وعندما نتحدث عن مفهوم الثقافة عموما يجابهنا خلط وإلتباس لابد لنا من توضيحه، يتصل بثلاثة مفاهيم متداخلة بعضها مع البعض الآخر هي: الثقافة والحضارة والمدنية التي ترتبط بحياتنا الفكرية والثقافية. وهذا الخلط والالتباس لا ينبع من طبيعة اللغة العربية ذاتها، بقدر ما ينبع من ترجمة هذه المفاهيم عن اللغات الأخرى. فمصطلح Culture يعود اساساً الى الفلسفة اليونانية حيث اشتق الاغريق هذا المصطلح من كلمة Colere اللاتينية التي تعني الحرث والزرع ثم انتقل الى اللغات الأوربية. فمفهوم الحضارة عند الألمان هو الإنجازات الروحية التي يبدعها الانسان والتي تعبر عن خصائصه الذاتية، كما في الفلسفة والعلم والأدب والفن وغيرها. في حين يقسمها المتأثرون بالثقافة الفرانكفونية الى عنصرين: واحد مادي هو "المدنية" وآخر معنوي هو "الثقافة". وفي الثقافة الإنكلو-سكسونية يستعملون المصطلح بمعنى "الثقافة". وفي الثقافة الجرمانية-السلافية يستعملونه بمعنى "الحضارة" بمعناها العام والشامل وبعناصرها المادية والمعنوية في آن واحد. كما ينتج الالتباس عموما من الارتباط بين الثقافة والمثقف، الذي هو منتج ثقافة، بحيث تختزل الثقافة الى مدلول خاص يرتبط بالمثقف وليس بالمجتمع والتراث. فالثقافة هي طرائق التفكير والعمل والسلوك الشعورية واللاشعورية التي يكتسبها الفرد باعتباره عضو في مجتمع والتي تميز افراد مجتمع عن أخر. أما مفهوم المدنية فيشير الى الجانب المادي-التقني العقلاني، أي الى مستوى التقنية في مجتمع ما وتطور المعرفة العلمية وطريقة السكن ونظام المعيشة وتطور آداب المائدة والعلاقة بين الرجل والمرأة وكل الأشكال الظاهرية للوجود الانساني، أي بمعنى الطريقة "المتمدنة" او "غير المتمدنة" من نمط الحياة والتفكير والسلوك التي تطورت عبر الزمن عن طريق سيطرة الانسان على الطبيعة واخضاعها لمشيئته.
وسوف نستخدم كلمة "ثقافة" بمدلولها العام لوشيوعها في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية، والتي نحددها بتراث ونمط التفكير والسلوك الاجتماعي المتراكم جيلاً بعد جيل، بحيث يستطيع بموجبها الفرد التكيف والتلاؤم مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. اما المجتمع فهو مجموع الأفراد الذين يعيشون في بقعة جغرافية معينة ويتفاعلون فيما بينهم ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية المتداخلة بعضها مع البعض الآخر. فاذا كان المجتمع هم الأفراد في عملية تفاعلهم، فان طريقة حياتهم وتفكيرهم وسلوكهم هي الثقافة. فهي إذن مجموعة مترابطة ومتشابكة ومتداخلة من أنماط التفكير والعمل والسلوك التي تؤلف الأدوار التي تحدد السلوكيات المنتظرة من مجموع أفراد المجتمع. فالثقافة بهذا التعريف هي جرد لسائر نماذج السلوك والتفكير التي يقوم بها أعضاء المجتمع أو قسم منهم، وموقع هذه السيرورات يشكل في الحقيقة الأطر الثقافية السائدة، أي التفاعلات التي تقوم بين الافراد. وبمعنى آخر نماذج السلوكيات المتوّلدة عن هذه التفاعلات، التي تقوم على آليات تأسيسية مختلفة كاللغة والتربية والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والطقوس ووسائل الاتصال والمعاني الرمزية وغيرها التي تتراكم عبر الأجيال وتكون لها صفة معيارية.
ومن الملاحظ، أنه من الصعب الانحراف عن بنية المجتمع ذات الصفة المعيارية وذلك لوجود جزارات اجتماعية تطبق تلقائيا عند الخروج عليها، لأنها تحدد الأدوار ونماذج التفكير وانماط السلوك. وبهذا تصبح الثقافة ذاكرة المجتمع الشعورية واللاشعورية.
وهناك شبه اتفاق عام على ان الثقافة تكتسب بالتعلم وتساعد الانسان على التكيف مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. والثقافة كثيرة التنوع وتتكون من عناصر ومقومات مادية ومعنوية. انها أكثر من مجرد ظاهرة بيولوجية، فهي تشمل كل ما يكتسبه الانسان من محيطه الاجتماعي بشكل شعوري أو لا شعوري.
ولفهم طبيعة الثقافة من الممكن تحديد خصائصها بصورة عامة وهي كما يلي:
• الثقافة عامة، كتجربة انسانية، ولكنها خاصة في أشكالها المحلية او الإقليمية وذلك بسبب اختلاف البيئة والمحيط الطبيعي والاجتماعي.
• الثقافة ثابتة غير انها ديناميكية. فهي في تغير دائم وتبدل مستمر، ولذلك فهي ذات طبيعة تراكمية.
• الثقافة تملأ حياتنا ولكنها تحدد سلوكنا وتصرفاتنا، ونادراً ما تدخل نطاق تفكيرنا الواعي.
وعن طريق الثقافة نهتدي الى القيم ونمارس اختيار القيم التي تناسبنا، لأنها وسيلة للتعبير عن الذات والتعرف عليها والبحث دون كلّل عن مدلولات جديدة للحياة وحالات إبداع مستمرة.
الثقافة مكتسبة من المجتمع وهي بذلك ليست ظاهرة بيولوجية وتكتسب بالتعلم ومن خصائصها انتظام سياقها واستجابتها للبيئة الطبيعية والاجتماعية، وفق أشكال التقنية المتاحة. ومن هنا نجد ان سلوك الفرد غالبا ما يتطابق مع " الثقافة السائدة"، وهو تعميم يؤدي بنا الى امكانية التنبؤ بسلوك الفرد المتكّيف وفق هذا النمط الثقافي او ذاك. أما عملية التثقيف فهي عملية تشريط شعوري أو لا شعوري تجري ضمن حدود معينة تحددها القيم والأعراف التي تربط الجماعة بعضها مع بعض وتدفعهم للتكّيف معها وهي عملية تبدأ منذ الطفولة ولا تنتهي إلا بالموت. وخلال عملية التثقيف ينزع الفرد الى تبني " الشخصية النموذجية" التي يرغب بها المجتمع، بحيث يصبح الأفراد في مجتمع معين، متشابهين في ثقافتهم تقريبا. وهنا تكمن احدى أهم المشاكل الجوهرية في دراسة الثقافة ومعرفة سياق التثقيف على تطور ونمو الشخصية، وكذلك كشف العلاقة الجدلية بين الثقافة والفرد من جهة وبين الثقافة والمجتمع من جهة أخرى. فكل انسان يستطيع أن يتقبل أية عناصر ثقافية، ولكن بشرط أن تتوفر الظروف المناسبة لتعلمها ثم تقبلها، وفي ذات الوقت، فان كل ثقافة تستطيع أن تؤثر في الفرد عن طريق تعلمها واكتسابها. ومن الملاحظ، في جميع المجتمعات الانسانية بان الافراد يسعون غالباً الى الامتثال لأنماط السلوك التي تقرها الجماعة لأن الثقافة السائدة هي التي تحدد الأهداف التي يريدون الوصول اليها.
ان سياق التثقيف يظهر بوضوح في المجتمعات التي تميل فيها طرق التربية والتنشئة الاجتماعية والتعليم التي تشجع على القيم التعاونية وفي أخرى التي تشجع على القيم العدوانية وفي ثالثة التي تميل الى أسلوب توفيقي يجمع بين الاثنتين، وأن هذا الميل او التفضيل يؤدي بالتراكم الى نمو ميول نوعية في ثقافة المجتمع يطلق عليه الأنثروبولوجيون " النمط الثقافي" Cultural Pattern الذي يكسب الثقافة خصوصية تميزها عن غيرها من الثقافات. ففي ثقافة البحر الابيض المتوسط يظهر التقييم العاطفي أكثر وضوحا منه في ثقافات غرب أوربا. وفي ثقافة البادية تسيطر قيم التغالب (الغزو والشجاعة والمروءة) أكثر مما تسيطر على ثقافة الحضر، الذين هم أكثر استقرارا ودعة وخضوعا للدولة. وفي وسط افريقيا يظهر العداء للحضارة الغربية وكأنه مركب نقص حضاري.
ومن الامثلة التي تدعم سياق التثقيف في العالم العربي هو الزواج من ابن العم/ ابنة العم. وهو ظاهرة مفضلة عند العرب، في حين يكون الزواج من ابنة العم في أوربا ظاهرة غير طبيعية ومحرمة احيانا. وينظر المسلمون الى لحم الخنزير باعتباره محرماً والى الكلب باعتباره نجساً، في حين ينظر اليه آخرون نظرة مخالفة ومغايرة تماماً. من هنا يظهر لنا بوضوح بأن الثقافة ظاهرة اجتماعية ملازمة للإنسان، باعتباره يمتلك عقلا ولغة، واللغة هي وعاء الفكر والفكر نتاج العمليات العقلية التي يقوم بها. وان الانسان هو الوحيد بين الكائنات الحية الاخرى القادر على انتاج وتطوير العناصر الثقافية المادية والمعنوية التي تطورت مع تطوره والتي تصب سلوكه في قوالب معينة الى حد بعيد.
ولفهم النمط الثقافي علينا ان نبدأ بأصغر وحدة اجتماعية التي تشكل طريقة حياة وتفكير وعمل وسلوك يتشارك فيه أغلب أعضاء الجماعة. ففي الصحراء العربية ما زالت " الخيمة" نموذجا “للبيت العربي" الذي يمثل وحدة العائلة والعشيرة، مثلما يمثل وحدة حضارية ونفسية وثقافية متكاملة لها صورة كلية في ذهن العربي وعقليته، في البادية والريف والمدينة الى حد بعيد. وتظهر هذه الصورة الذهنية الكّلية في معنيين:
أولا-ان لها نظام ثقافي يرتبط بالبيئة الطبيعية ولها وظائفها وخصائصها ومواصفاتها التي ترتبط بالبادية، وبنمط الانتاج الرعوي والمناخ والترحال وكذلك بالقيم والاعراف والتقاليد والعصبيات العشائرية، حتى ان اغلب الخيم العربية متشابهة، ونفس الخصائص والوظائف والمواصفات تنطبق على البيت العربي في الريف والمدينة، مع بعض الاختلافات التقنية وليس الوظيفية.
ثانيا-لها معنى سيكولوجي يحدد سلوك الأفراد ومواقفهم وعلاقاتهم معها ومع العشيرة والماشية والغزو والمروءة والعصبية والكرم وغيرها من القيم والأعراف العشائرية.
هناك إذن ثنائية في المعنى والوظيفة، وهو ما يكسب ثقافة البادية بالأصالة والتماسك والاستمرارية. ان هذه الصورة الذهنية الكّلية في ثقافة البادية هي التي تنظم السلوك الاجتماعي والمواقف والأهداف وكذلك العلاقات الاجتماعية التي يفرزها نمط الانتاج الرعوي، كالترحال والشجاعة والغزو والمروءة والكرم والتغالب وامتهان الحرف والمهن والاهتمام بالنسب والشرف وتحديد الزمان والمكان والمحرم والمباح الى حد ما، وهي بالتالي تصب سلوك الأفراد في قوالب متشابهة تقريباً، مع انها تترك مجالا للاختيار الفردي في بعض الأحيان.
كما ان استقرار أي نمط ثقافي إنما هو نتيجة لسيرورة متواصلة في عملية التثاقف، التي تتكّيف وتتمثل، والتي تَمتص وتُمتص، فتغتني أو تفتقر، بحسب المعطيات الذاتية والموضوعية. ولا يتطور النمط الثقافي ويتغير إلا عن طريق تغير أسلوب الحياة وأسلوب الانتاج والاتصال الحضاري وعملية التثاقف، وبدونها لا يمكن ان يكون هناك تواصل وتلاقح وانفتاح على الآخر.
غير ان النمط الثقافي معقد وليس بسيطا وذلك لان للثقافة وجهان، واحد ظاهري مادي ومحسوس يظهر في وسائل وأدوات الانتاج كما في الزراعة والتجارة والعمل والسكن وجميع المنجزات المادية وكل ما يستعمله الانسان في حياته اليومية، وآخر معنوي خفي وغير محسوس ولا يمكن الكشف عنه في الحياة الثقافية إلا من خلال القيم والتقاليد والأعراف والدين والفلسفة والأدب والفن والمثل الاخلاقية والجمالية التي تتبدى في السلوك والمعاني والرموز المعنوية والفكرية والروحية التي يعجز الانسان عن تفسيرها لما ينطوي عليها من دوافع وأهداف غير واضحة. كما ان لهذه القيم غير الظاهرة قدرة فائقة على تحريك السلوك وتوجيهه نحو أهداف محددة. ولما كانت القيم مختلفة، فان تأثيرها على السلوك يكون مختلفا ايضاً. وتختلف قيم الريفي نوعاً وكماً عن قيم الحضري، وقيم الموظف عن قيم العامل والفلاح أو التاجر أو العسكري، وان اختلاف القيم بين الناس وتنوعها وتناقضها يؤدي في كثير من الأحيان الى الصراع والاحتراب بين الطبقات والفئات الاجتماعية. كما ان اختلاف القيم وتنوعها وتناقضها هو نتيجة لاختلاف الظروف الاجتماعية والثقافية والمصالح الاقتصادية والطبقية.
ومن جهة أخرى، فان العناصر الثقافية غير المادية تختلف في درجة وضوحها وانكشافها للناس. فمثلا الشخص الغريب الذي يسافر الى بلد آخر لأول مرة يلاحظ أولا العناصر المادية المنظورة والمحسوسة كالبيوت والشوارع ووسائل النقل والطعام والأزياء وغيرها بحكم سهولة رؤيتها والتعرف عليها. فهو لا يحتاج الى وقت طويل لذلك، ولكنه سوف يحتاج الى وقت أطول للتعرف على العناصر المعنوية غير المحسوسة والمنظورة للثقافة كالقيم والعادات والتقاليد والأذواق الجمالية. ويعود السبب في صعوبة الكشف عن معاني أو دوافع القيم والاعراف والتقاليد الى أن أعضاء المجتمع أنفسهم قد يعجزون أحياناً عن تفسير ما تنطوي عليه من معاني ووظائف خفية. وكثيرا ما تتصف الوجوه الخفية للثقافة بطابع رمزي. فمثلا على ذلك عادة " أكل الخبز والملح " الشائعة عند عقد الصلح بين العشائر العربية المتنازعة. فحين تقوم قبيلة بغزو قبيلة أخرى تقوم الثانية بأخذ الثأر منها، ولكن عندما يحل الصلح بينهما يقومان بأكل الخبز والملح معاً ويحل بينهما الوئام. وهنا يرمز الخبز والملح الى الصداقة والتعاون والسلام. كما ان رفض المولودة الأنثى عند الغالبية من العرب هو مثل آخر لا يكشف دوما عن دوافعه بوضوح، إلا بعد معرفة تقاليد وأعراف القبائل البدوية التي تريد التخلص من الاناث لأسباب عديدة منها قيم الشرف والتقاليد والفاقة وقلة عدد الرجال وغيرها. أو حينما تقول للريفي في العراق " على راسك قشة". فهناك معاني عديدة ترتبط بالقيم الأخلاقية والشرف والكرامة وغيرها.
وقد ينطوي السلوك الاجتماعي على وجهين أو أكثر، فمثلا الزواج من زوجة ثانية عند العرب والمسلمين قد يكون حصيلة عدد كبير من الدوافع وقد يكون لكل دافع قصد أو هدف خاص ولكنه غير معلن. وقد تختلف الدوافع في قوتها ووضوحها ولكنها تبقى خفية وتجري بصورة لا شعورية وتلقائية، فمن الممكن أن يكون الدافع زيادة عدد الأولاد وبالتالي زيادة الأيدي العاملة في الأسرة او لحفظ النسب او الحصول على أمرأه أكثر شباباً وجمالاً أو إذا لم ينجب الأب ذكراً او لتقوية المركز الاجتماعي أو توسيع علاقات المصاهرة مع أكثر من أسرة وغيرها من الأسباب، مع ان كل سبب منها ينطوي على وعي وقصد معين.
ان هذه الأمثلة تبين لنا بوضوح ان وراء أي سلوك اجتماعي دوافع مختلفة ظاهرة وخفية. وقد تختلف الدوافع في قوتها وضعفها من مجتمع الى آخر، ولكن الملاحظ هو ان العناصر الثقافية الظاهرة والخفية تجري لدى الأفراد بصورة لاشعورية وذلك لتعود الأفراد على ممارستها بصورة تلقائية، حتى لو كانت مضرة أو مؤذية.
ومن جهة أخرى فان للثقافة طبيعة انتقائية لأنها تتمتع بدرجة عالية من السيطرة على أذهان الناس وعواطفهم. لذلك نجدها لا تأخذ إلا ما يتلاءم معها وترفض كل ما يخالفها وتعتبره غزواً ثقافياً. ومع ان كل ثقافة تصب الأفراد في قوالب معينة تقريباً، غير ان للبعض منهم استعداد لتقبل بعض العناصر الثقافية الوافدة من الخارج عن طريق الاتصال الحضاري. غير أن ما تقتبسه أي ثقافة لا تتمثله بشكل ميكانيكي دائماً، بل إنها تميل الى تقبل العناصر التي لا تحدث صراعاً كبيراً مع عناصر الثقافة السائدة وتحاول تغييرها أو تحويرها أو إضفاء طابع الشرعية عليها لكي يتم تقبلها وانسجامها مع المقومات الثقافية السائدة. ومن الطبيعي ان تنشأ صراعات وتناقضات عديدة من جراء هذا التغير الثقافي، الذي يؤدي في أغلب الأحيان الى تناشز اجتماعي بين المجددين والمحافظين وصراع اجتماعي بين الجيل الجديد والجيل القديم. فاذا حدث وان اقتبس البعض عناصر ثقافية معينة من ثقافة أخرى، كما يفعل الجيل الجديد دوماً، فسوف يحدث صراعاً وتناشزاً اجتماعياً، غير ان هذا الصراع قد يضعف أو يتلاشى إذا تقبل الأفراد العناصر الثقافية الفرعية وأصبحت جزءً من عاداتهم وقيمهم، وبدون ذلك لا يمكن ان تحدث عمليات تغير وتغيير اجتماعية.
وبصورة عامة فان كل ثقافة لها القدرة على المحافظة على بقائها العضوي لأنها نظام يتصف بـ "التكامل" و "الاكتفاء الذاتي"، بمعنى انها تحوي طاقات أساسية تساعدها على ادامة وجودها واستمرارها اعتماداً على مقوماتها الداخلية والظروف الموضوعية التي تحيط بها. وقد أكدت الدراسات في علم النفس الاجتماعي بان لكل حضارة نمط ثقافي رئيسي واحد يكون المحور الذي تدور حوله جميع نشاطات الأفراد ويطبع شخصياتهم بسمات معينة، الى جانب أنماط ثقافية فرعية أخرى. وان التكامل الثقافي في أي مجتمع يبين لنا بوضوح تأثير الثقافة على نمط التفكير والعمل والسلوك، وبالتالي على سمات وخصائص الشخصية الثقافية.
ومن الناحية السوسيولوجية فان الانسان يكتسب من خلال خبره وتجاربه الاجتماعية قيم ومعايير المجتمع الذي يعيش فيه ويتكّيف معها. فالطفل العربي مثلاً سوف يكّون مجموعة من الخبرات عن نمو ذاته تكون مختلفة تماما عن تلك التي يكونها طفل أوربي أو هندي او افريقي، فكل فرد منا لا ينمو فقط في ثقافة معينة أو ثقافة فرعية خاصة، بل ويكون له جماعة خاصة تكون وحدة اجتماعية يكتسب منها قيمها ومعاييرها وأسلوب حياتها.
ان طرائق التفكير والعمل والسلوك وأساليب الانتاج الاقتصادية ونوعية العلاقات الاجتماعية وكذلك منظومة القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والقوانين العرفية والوضعية التي تنظم شؤون الحياة تساعدنا على معرفة عملية التفاعل بين الثقافة والشخصية. فاذا كانت الثقافة تتطلب الامتثال والطاعة في المجتمعات الأبوية، فسوف تؤثر على شخصية الفرد وتقوي عنده الميل نحو الخوف والتردد والخضوع، وإذا كانت الثقافة تتطلب القوة والسيطرة فسوف يقوي عنده الميل الى التسلط واتخاذ قرارات حاسمة وبدون تردد، اما إذا كانت الثقافة تتطلب التمهل والاعتدال فسوف تميل القرارات نحو التعقل والتوازن بين الامور.
ولكن إذا اعتبرنا ان القيم المركزية للشخصية العربية كالشرف والعفة والمروءة والكرم والسمعة الحسنة وغيرها من القيم الأخلاقية التي تقف في الصدارة، تتوّلد لدينا صعوبات تكمن في تحليل مضامين هذه القيم الاجتماعية وارتباطاتها بالمنظومات القرابية والدينية والتعليمية، وذلك لان فاعلية هذه القيم لا تظهر إلا في سياق تفاعلها الاجتماعي وفي طرائق التعبير عنها في الحياة اليومية وفي انعكاساتها في سلوك الأفراد ومواقفهم وكذلك في اختلاف أهمية هذه القيم ونسبيتها في الزمان والمكان. فالشجاعة والمروءة والكرم لها فاعلية أقوى في المجتمع الريفي منه في مجتمع المدينة. أما في المدينة فقد تأخذ القيم الثقافية أساليب ومعاني أخرى في التعبير عن طريق إعادة تشكيلها وتحويرها أو تكّيفها وفق العلاقات الاجتماعية السائدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات