الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جحد التنوع: متلازمة المرض السوداني

كمال الجزولي

2016 / 12 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترفرف، هذا العام (2016م)، أجواء الذكرى السِّتِّين لاستقلال السُّودان، والخامسة لانفصال جنوبه. وفي 10 مايو 2012م، سأل السَّيِّد علي كرتي، وزير الخارجيَّة، محاوره في (قناة الجَّزيرة) احمد منصور: ”منذ 1983م يقاتل الجَّنوبيون تحت مانفيستو السُّودان الجَّديد الذي كان عرَّابه جون قرنق يصفه بأنه البلد الذي (يمكن) أن يحكمه غير عربي وغير مسلم .. فهل ترضى أنت بهذا“؟! وفي أواخر 2010م وجَّه المشير عمر البشير، رئيس الجُّمهوريَّة، ضمن المشهور من حديث (عيد الحصاد) بالقضارف، إنذاراً غليظاً عن تبعة انفصال الجَّنوب، قائلاً: "الدُّستور سيعدَّل .. وسنبعد منه العبارات (المدَغْمَسة) .. فلا مجال للحديث بعد اليوم عن دولة متعدِّدة الأديان والأعراق والثَّقافات!" (وكالات؛ 19 ديسمبر 2010م)؛ يعـني: لئن كانت (الإثنيَّة) هي جماع (العِرْق + الثَّقافـة)، فإن (التَّنوُّع الإثني) في السُّودان كان رهيناً، حسب البشير، ببقاء الجَّنوب؛ أما وقد ذهب هذا الجَّنوب، فقد انتفي (التَّنوُّع)، وأضحى الكلام عنه محض (دَغْمَسَة)، أي مواربة لأجندة خفيَّة!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)
بمثل ذلك الذَّمِّ لحديث (التَّنوُّع)، وذلك السُّؤال (الإيحائي) لإعلامي عربوإسلاموي متشدِّد عمَّا إذا كان يرضيه أن يحكمه "غير عربي وغير مسلم"، اختزل كلا البشير وكرتي، في بعض أحدث تجليات الأيديولوجيا العربوإسلامويَّة الحاكمة في البلاد، ما يمكن تسميته بـ (متلازمة المرض السُّوداني) التي تهدر كلَّ طموحات المُساكِن (الآخر) غير المستعرب وغير المسلم، مستهجنة، أصلاً، تطلعاته للمشاركة في حكم البلاد!
أزمة (التَّساكن المعلول) هذه لم تجهض حلم السَّلام والدِّيموقراطيَّة في بلادنا، فحسب، بل بترت، عمليَّاً، أطرافاً عزيزة من أرضها وشعوبها في الجَّنوب، وما تزال تنذر ببتر المزيد في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، وربما في الشَّرق، والشَّمال الأقصى أيضاً!
وهكذا لم يوفق، للأسف، لا الرَّئيس ولا وزير خارجيَّته، ولا، من خلفهما، مفكرو القوى الطبقيَّة والأيديولوجـيَّة العربوإسـلامويَّة السَّـائدة اقتصـاديَّاً وسياسـيَّاً واجـتماعيّاً وثقافيَّاً، لما يقارب العقود الثلاثة حتى الآن، إلى قراءة أكثر سداداً في لوح أنثروبولوجيا السُّودان؛ ولو انهم فعلوا لأدركوا مسألتين على درجة قصوى من الأهميَّة، هما:
أوَّلاً: أن في المشاركة بحكم البلاد حقاً معلوماً للمُساكنين، مستعربين وغير مستعربين، مسلمين وغيرهم؛
وثانياً: أن ثمة ضلالاً كبيراً في اعتبار الجَّنوب (أيقونة التَّنوُّع) اليتيمة التي، بذهابها، ينقشع (التَّنوُّع) ذاته عن البلاد، فـ (التَّنوُّع) حقيقة سودانيَّة لا تنكرها العين إلا من رمد، بقي الجَّنوب أم ذهب.

(2)
ينطوي (التَّنوُّع) على دلالة (الاختلاف)، لا (الخلاف)، فـ (المختلِف) ليس، بالضرورة، (مخالِفاً) في معنى (متناقض عدائي)، ولا يعني، في الأصل، أيَّة (قطيعة) بين مفردات الوطن (الإثنيَّة)، وتكويناته القوميَّة، بل يعني، ببساطة، حالة (تميُّز) لا مناص من الاعتراف بها، وبحقِّها في التَّعبير عن نفسها ضمن مشروع تثاقف سلمي هادئ، وحوار ديموقراطي مرموق. ولو استبعدنا المقابلة الاصطلاحَّية التَّناحريَّة الفاسدة التي يصطنعها كلا أيديولوجيي (المركز) العربوإسلامويين وأيديولوجيي (الهامش) الانفصاليين، غير آبهين إلى حقيقة أن (العروبة)، أصلاً، من أبرز مكونات (الثَّقافة الأفريقيَّة)، لأدركنا أن ما يجمع بين شتَّى التَّكوينات القوميَّة السُّودانيَّة أكثر بكثير مِمَّا يفرِّق.
وإذن فـ (التَّنوُّع)، عرقيَّاً، أو دينيَّاً، أو ثقافيَّاً، أو لغويَّاً، ليس هو، ولم يكن في أي يوم، سبب مشكلتنا الوطنيَّة، حسب ما ظلَّ غلاة العربوإسلامويين (السُّلطويين/الاستعلائيين/ التَّفكيكيين) يحاولون تصوير الأمر، فليس هو سبب هذا الحريق الوطني المستعر الذي لطالما عانت وما زالت تعاني منه بلادنا، بل إن جحد هذا (التنوُّع)، وسوء التَّخطيط، بالتبعيَّة، للسِّياسات المتعلقة بإدارته في (المركـز) تجاه (الهوامش)، هو السَّبب الحقيقي في كلِّ ذلك، وفي ما ظلَّ يترتَّب عليه من أوهام الاستعلاء، والاستضعاف، والاستتباع، وجحد حقِّ (الآخر) المشروع في ممارسة (اختلافه)، وما ينتج عن ذلك من تفاقم فقدان الثِّقة المتبادل، مِمَّا يتَّخذ، تقليديَّاً، صورة المجابهات المسلحة.

(3)
لا تنتطح عنزان على أن الاستعمار كرَّس هذه المشكلة وفاقمها، غير أنه، بالقطع، لم يخترعها. لقد عمد لاستثمار أوضاع تاريخيَّة سالبة وجدها قائمة، أصلاً، على الأرض لما يناهز القرون الخمسة قبل مجيئه، فلا معنى، إذن، للتَّركيز على دوره وحده، حيث صاغ وطبق (السِّياسة الجَّنوبيَّة) منذ مطالع عشرينات القرن المنصرم، عبر جملة قوانين وترتيبات هدفت لِلجْم التَّقارب، دَع التَّثاقف، بين شمال البلاد وبين مكوِّناتها الأخرى المختلفة، خصوصاً فى الجَّنوب وفي جبال النُّوبا الشَّرقيَّة والغربيَّة، كقانون الجَّوازات والتَّراخيص لسنة 1922م، وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م، وقانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م، علاوة على فرض الانجليزيَّة لغة رسميَّة في الجَّنوب، وتحديد عطلة نهاية الأسبوع فيه بيوم الأحد، وتحريم ارتداء الأزياء الشَّماليَّة على أهله، وابتعاث الطلاب الجَّنوبيين لإكمال تعليمهم في يوغندا، وما إلى ذلك. فإذا افترضنا، نظريَّاً، إمكانيَّة استبعاد تلك الإجراءات الاستعماريَّة، فهل تراها كانت ستنتفى أسباب المشكلة بالَّنظر إلى الوضعيَّة الذَّاتيَّة للعـلاقات الإثنيَّة وسيرورتها منذ القرن السادس عشر الميلادي؟! هذا، برأينا، هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة جديدة، وقبل ذلك، وبالضَّرورة، إلى تفكير جديد.
لكن الإدارة البريطانيَّة اتَّخذت، عام 1946م، قراراً بتغيير سياستها تلك بعد أقل من ثلاثة عقود على تطبيقها، فعقدت مؤتمر جوبا في يونيو عام 1947م لإقرار سياسة بديلة تبقى الجَّنوب ضمن حدود السُّودان الموحَّد بنظام الحكم الذَّاتى، ثم شكَّلت الجَّمعيَّة التَّشريعيَّة في ديسمبر عام 1948م بمشاركة الجَّنوبيين. ويفترض أسامة عبد الرحمن النُّور، في محاولة لإعطاء تفسير علمي لذلك القرار من زاوية مختلفة، أنه لا بُدَّ جرى بأثر تطوُّر علم الأنثروبولوجيا، والانقلاب عـلى أسس الإثنوغرافيا، أو ما صـار يُعـرف في بريـطـانيـا بالأنثـروبـولوجـيـا الكلاسـيكـيَّـة. وكانت الأنثروبولوجيا الاجتماعيَّة البريطانيَّة قد حقَّقت طفرة كبيرة بالتَّلازم مع بدايات الحقبة الاستعماريَّة فى الفترة 1860م ـ 1880م بظهور مؤلفات المدرسة التَّطوُّريَّة الرَّائدة مثل (حق الأم) لباخوفن، و(المجتمع البدائي) لتايلور، و(نظم القرابة والمجتمع القديم) لمورغان، علاوة على أعمال آخرين كماين وليبوك، وقد قدَّموا جميعهم، بوعي أو بدونه، التَّنظير الذى احتاجه الاستعمار، باستثناء مورغان الذى اتخذ موقفاً متميِّزاً من التَّمدُّن، ومن مجمل النِّظام البورجوازي في القرن التَّاسع عشر، قبل أن تستقل الانثروبولوجيا كعلم خاص، في مرحلة الأبحاث الميدانيَّة، عن احتياجات الاستعمار، فتنجح، ولو نسبيَّاً، فى التَّأثير على أيـديـولوجـيَّـتـه (موقـع "ARKAMANI" على الشبكة العالمية).
على أيَّة حال، ومهما يكن من شئ، فإن السُّودان دخل مرحلة ما بعد اتفاقيَّة الحكم الذَّاتي (فبراير 1953م) وهو (موحَّد)، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال (يناير 1956م) وهو (موحَّد)، وما كان ذلك ليكون لولا أن النُّواب الجَّنوبيين صوتُّوا، في 19 ديسمبر 1955م، لصالح إعلان استقلال السُّودان (الموحَّد) من داخل البرلمان الأوَّل، مقابل محض (كلمة شرف) من الأحزاب الشَّماليَّة بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالي بعد الاستقلال! ولو كانت تلك الأحزاب قد أوفت بوعدها للجَّنوبيين، وفق ما نصحها به، جهرة، حسن الطاهر زروق، نائب الجَّبهة المعادية للاستعمار، ولم تنكص عن عهدها، وفق ما حذَّرها منه، لأمكن أن يشكِّل ذلك نموذجاً في الاستقامة بشأن تلبية الأشواق الوطنيَّة لـ (الآخرين) من النوبا وغيرهم، دونما حاجة لإشعال كلِّ هذا الحريق على امتداد نصف القرن الماضي. لكن النكوص عن ذلك العهد شكَّل، للأسف، بداية (درب الآلام) الشَّائك الطويل الذي ما زلنا نقطعه بأقدام حافية!

(4)
تصدَّت برجوازيَّة المستعربين المسلمين الصغيرة (الجَّلابة)، ومكوِّنها الأساسي من الانتلجينسيا، لقيادة الحركة السِّياسيَّة الشَّماليَّة منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السِّياسي. وطوال ذلك التَّاريخ لم يكف تيَّارها (العقلاني/التَّوحيدي)، بمختلف مدارسه الفكريَّة، وانتماءاته السِّياسيَّة، عن اجتراح مختلف الأطروحات حول قضيَّة (الهُويَّة). لكن، ولأن صعوبات معرفة (الآخر)، القائمة في حواجز اللغة والثَّقافة والمعتقد، والتي لا يحفل بها، غالباً، التَّيَّار (السُّلطوي/التَّفكيكي)، تشكِّل إغواءً شديداً بالركون للشَّائع عن هذا (الآخر) في الذِّهنيَّة العامَّة، فقد ظلت أطروحات التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي) تصطدم، في كلِّ مرَّة، بتلك الصُّعوبات، فيجري استسهال تفسيرها "كحواجز صناعيَّة أقامها المستعمرون لتجزئة القطر الواحد" (محمد فوزي مصطفى؛ 1972م)، أي كمحض مؤامرة استعماريَّة قطعت الطريق أمام التحاق الإثنيَّات الأفريقانيَّة، خصوصاً في الجَّنوب، بالاستعراب والتَّأسلم اللذين استكملا نموذجهما الأمثل، حسب زاوية النَّظر هذه، في الشَّمال والوسط.
وبإزاء مصاعب البناء الوطني بعد الاستقلال، وبدفع من الجَّامعة العربيَّة والمنظمات الإسلاميَّة التي انتمى إليها السُّودان، ضربة لازب، بعد 1956م، والتي أناطت به مهمَّة (تعريب) و(أسلمة) الأفارقة على مبدأ القهر والغلبة (عبد اللـه علي ابراهيم؛ 1996م)، ولأن الاستسهال يقود للمزيد منه، فقد أفرغ التَّيَّار (العقلاني التَّوحيدي) معظم أطروحاته حول (الهويَّة)، على تنوُّع منطلقاتها، وبالأخص وسط القوى التَّقليديَّة التي ورثت السُّلطة عن الاستعمار، في برامج وسياسات من هذا القبيل، وكمثال:
أ/ أعلنت (العربيَّة) لغة رسميَّة، فى ما أسماه بعض نُقَّاد هذه السِّياسة "بالجَّبر اللغوي" (المصدر). وقد شكَّل ذلك إهداراً لكلِّ ثراء البلاد من جهتي التَّعدُّد والازدواج اللغويَّين، حيث توجد في السُّودان ممثلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة، ما عدا لغات الخويسـان فى جنوب أفريقـيا (سـيد حامـد حـريز ـ ضمن عبد الله على ابراهيم؛ 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التي يتحدَّث بها أهل السُّودان تبلغ المائة وأربع عشرة لغة ، نصيب سكَّان جنوب السُّودان منها حوالى الخمسين لغة. ويتحدث 51% من جملة السكَّان البالغة آنذاك 10,262,536 اللغة العربيَّة، ويتحدَّث 17,7% اللغات النيليَّة (11% منهم بلغة الدينكا)، ويتحدَّث 12,1% بغير العربيَّة في الشَّمال والوسط (المصدر). وقد صنَّف جوزيف غرينبيرج كلَّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة فى أربع أسر. وباستثناء الأسرة الخويسانيَّة، فإن الأسر الثَّلاث الأخرى جميعها متوطنة فى السُّودان، وهى: أسرة اللغات الأفريقيَّة الآسيويَّة، ومنها العربيَّة والبجاويَّة، وأسرة اللغات النيجركردفانيَّة، ومنها لغة النُّوبا الكواليب والمورو والفولاني، وأسرة اللغات النيليَّة الصَّحراويَّة التى يُعتبر السُّودان الموطن المثالي لكلِّ أفرعها، وهى ميزة لا تتوفَّر في أيِّ قطر أفريقي آخر. وينتمي إلى هذه الأسرة ما يربو على 70% من اللغات المحليَّة المتحدَّثة فى السُّودان، بل ويتمتَّع بعضها بموقع معتبر فى خارطة البلاد اللغويَّة من حيث عدد متحدِّثيها، وسعة انتشارها الجُّغرافي، كمجموعة اللغات النُّوبيَّة في جبال النُّوبا وشمال السُّودان وحلفا الجديدة ، ومجموعة اللغات النيليَّة، ولغة الفور، ولغة الزَّغاوة، على سبيل المثال (الأمين أبو منقة؛ الأضواء 16/2/2004م). وتزداد أهميَّة لغات هذه الأسرة، بالنِّسبة للسُّودان، لجهة اشتراكه في عدد منها مع جميع البلدان المجاورة. بل إن خارطته اللغويَّة تضمُّ لغات نيليَّة صحراويَّة مهاجرة من بلاد بعيدة فى غرب أفريقيا، كلغة صنغاى السَّائدة فى مالي والنيجر، ولغة الكانوري السَّائدة فى بلاد برنو (نيجيريا) والنيجر وتشاد. وتكمن أهميَّة مثل هذه الحقائق في أنها تشير إلى عمق الصِّلات التَّاريخيَّة بين السُّودان وجيرانه القريبين والبعيدين، كما وأنها تشكل عنصراً مهماً في تواصل السُّودانيين مع هذه الشُّعوب (المصدر).
ب/ ومثلما جرى، فى الشَّأن الدَّاخلي، استسهال السِّياسات التي تتمحـور حول الدِّين الواحد (الإسلام) واللغة الواحدة والثقافة الواحدة (العربيَّة)، مِمَّا أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثَّقافيين واللغويين، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثَّقافة، وأحالها إلى مجرَّد هدف للأسلمة والتَّعريب، فقد جرى، فى الشَّأن الخارجي أيضاً، استسهال إدراج السُّودان كله، بعين البعد الواحد، تحت شعارات (العروبة) و(القوميَّة العربيَّة) و(الوحدة العربيَّة) وما إليها، واعتبار ذلك بمثابة (الممكن) التَّاريخي الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة السُّودانيَّة)، فإذا بمردوده العكسي الفاجع يتمثَّل في تحوُّله لدى ذهن (الآخر) غير المستعرب إلى محض ترميزات ناجزة بنفسها للتَّيئيس من هذه (الوحدة)، وحفز الميل لـ (الانفصال/الاعتزال/الاستقلال)، مِمَّا دفع ببعض المفكرين العرب، حتى مِمَّن يرون أن "القوميَّة العربيَّة .. ما تزال قوَّة حيَّة ومحرِّكة"، لأن يدقُّوا أجراس التَّنبيه إلى هذه "الخاصِّيَّة القطريَّة .. في التفكير القومي العربي، وما تقدمه لذلك الفكر من أمثولة هو بأشـدِّ الحاجــة إليهـا" (إيليـا حريق؛ مقدِّمة فى: عـبد الله عـلى ابراهيم، 1996م). فالفكر القومى العربى "عالج .. تلك المشكلة بشئ من الخفَّة إن لم نقل العداء .. (و) التَّجاهل أو التَّهوين .. مدَّعياً .. أن الأقليَّات لا تخـتلف في الرأي عن النَّهج القومى العام .. (لكن) الطريق القويم للقوميَّة العربيَّة اليوم .. هو احترام الفروق القائمة في المجتمع والدَّولة القطريَّة ومساعدتها على التَّكامل والنُّمو والازدهار لكى تستطيع .. تشييد البناء القومى على قاعدة وحدات من الدُّول القطريَّة. فبدل أن نسعى للقضاء على الدَّولة القطريَّة وعلى خاصيَّتها ، فالأحرى بنا أن نعمل للاحتفال بها والاعتماد على مقدراتها، فهي الأساس الذي نرتقي منه نحو البناء القومى الأعلى" (المصدر).

(5)
كان لاستسهال إدراج السُّودان ضمن أجندات (التَّعريب) و(الأسلمة) مقدِّمات فكريَّة لا تخفى، وقد بلورتها، قبل الاستقلال، الميول الغالبة على فكر وثقافة نخب المستعربين المسلمين، والحركة الوطنيَّة عموماً، وإنتلجينسيا (الجَّلابة) بالأخص:
أ/ ففي 1921م كرَّس الشَّيخ عبد اللـه عبد الرَّحمن الأمين كتابه (العربيَّة في السُّودان) لإثبات (نقاء) اللسان العربي في البلاد!
ب/ وفى ذات الاتِّجاه انطلق الشِّعر، كصورة رئيسة للفكر وقتها، من خلال الموالد، وفعاليَّات الخرِّيجين، والمناسبات الدِّينيَّة والاجتماعيَّة المختلفة. وتتجلى المفارقة، هنا، فى كون على عبد اللطيف، نوباويُّ الأب دينكاويُّ الأمِّ، يتزعَّم الحركة الوطنيَّة في عقابيل الحرب الأولى، بينما شاعرها الأكبر خليل فرح، نوبيُّ الأصل، يمجِّد الثُّوار بأنهم:
"أبناءُ يعرب حيث مجدُ ربيعةٍ ××× وبنو الجَّزيرة حيث مجدُ إياد"!
ج/ وفى 1941م حدَّد محمد احمد محجوب، أحد أبرز مثقَّفي تلك الحقبة، وأميز قادة الفكر السِّياسي فيها، ومن زعماء حزب الأمَّة الذين تقلدوا الوزارة لاحقاً، شروط المثل الأعلى للحركة الفكريَّة في "هذه البلاد" بأن "تحترم تعاليم الدِّين (الإسلامي) الحنيف، وأن تكون ذات مظهر (عربي) في تعبيرها اللغوي، وأن تستلهم التَّاريخ القديم والحديث (لأهل) هذه البلاد وتقاليد (شعبها). هكذا يمكننا أن نخلق أدباً (قوميَّاً)، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبيَّة فيما بعد إلى حركة سياسيَّة تفضي إلى الاستقلال السِّياسي والاجتماعي والثَّقافي" (أقواس التَّشديد من عندنا ـ ضمن: أسامة النور؛ مصدر سابق). ومن نافلة القول أن المحجوب كشف، بقوله هذا، عن أنه لم يكن يرى، فى طولِ البلاد وعرضها، سوى (تاريخ) و(ثقافة) و(لغة) المستعربين المسلمين! لذا، ربَّما تكتسى دلالة خاصة عودة الصَّادق المهدى، زعيم حزب الأمَّة بعد ما يربو على نصف قرن، لينتقد (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السِّياسيَّة الشَّعبيَّة التي حكمت السُّودان بعد الاستقلال "مِمَّا أدَّى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادَّة" (ورقة "تباين الهويَّات ..").
د/ ورغم أن السُّودان لم يُشرَك، أحياناً، في بعض التَّرتيبات العربيَّة بسبب وضعه الطرفي، أو لعدم حسم مسألة العروبة فيه (محمد عمر بشير، 1991م)، إلا أن العروبة والإسلام ترسَّخا، مع ذلك، في سياساته الرَّسميَّة، لا كخيمة تسع قضيَّة الوحدة والمثاقفة بين مُكوِّنات التَّنوُّع، وإنما كأيديولوجيا طبقيَّة قامِعة في أيدى (الجَّلابة) ونخبهم الفكريَّة والسِّياسيَّة. هكذا تمدَّد تيار (التَّعريب) و(الأسلمة) اقتصاديًا وسياسيَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً، جاعلاًً من (الإسلام) إطاراً وحيداً لمنظومة القيم فى كل البلاد، ومن (العربيَّة) لغة وحيدة للصَّحافة والراديو والتلفزيون، ودواوين الحكومة، ومناهج التَّربيَّة والتَّعليم، كما جرى "تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مِمَّا) أعاق .. فرص الأقليَّات التي لا تتوافق مع النَّموذج السَّائد في مجالات التَّطوير الذَّاتي .. و .. تكوَّن حاجز نفسي/سلطوي .. فى وجه أيَّة مراجعة .. للشَّأن الدَّاخلي يُظنُّ أنها قد تمسُّ جوهر الانتماء العربي" (يوسف مختار الأمين؛ ARKAMANI).
هـ/ زاد الأمر تعقيداً عجز هذه النُّخب عن إنجاز القدر المطلوب من التَّنمية، وتأسيس نظام للحكم يلبِّي طموحات الأغلبيَّة. وفى ظلِّ أوضاع التَّخلف، وتدهور الاقتصاد والظروف المعيشيَّة، وارتفاع معدَّلات النُّموِّ السُّكاني، تتوسَّع تلقائيَّاً بؤر الصِّراع الإثني والجِّهوي والثَّقافي، مِمَّا يتجلى فى تبنِّي مواقف سياسيَّة وثقافيَّة مغايرة للسَّائد، بحمل السِّلاح في مواجهة السُّلطة المركزيَّة، وإشعال الحروب الأهليَّة والصِّراعات القبليَّة التي تتفاقم أبعادها وآثارها يومًا بعد يوم (المصدر).
و/ أمَّا الثَّقافات (الأخرى) غير المنسجمة، و(المربكة) للسِّياق، فقد جرى إقصاؤها عمليَّاً، أغلب الأحيان، كما في حالتَي الدِّين واللغة، أو محاولة إدماجها قسراً assimilation في (أفضل!) الأحوال، على طريقة الاستعمار الفرنسي! وقد يكفي أن نشير في هذا السِّياق، من بين جمهرة النَّماذج الماثلة التي لا حصر لها ، إلى نموذجين ساطعين:
أ/ يتمثل الأوَّل في فرقة الفنون الشَّعبيَّة على أيام نظام (مايو)، حيث غالباً ما كانت العروض من الشَّرق والغرب والجَّنوب تتماهى مع إيقاعات وحركات الشَّمال والوسط الرَّاقصة، ترميزاً مزعوماً لـ (وحدة) مدَّعاة، فتتحوَّل خشبة العرض إلى (مولدٍ) سياحىٍّ (زائطٍ) بالأزياء، والألوان، وجلود الحيوانات، على أجساد الراقصين والراقصات، والعازفين والعازفات، وصنوف الخرز والسُّكسُك والسيور على الأعناق والمعاصم والسِّيقان، قبل أن يجرى ، منذ مطلع التِّسعينات الماضية، (تحجيب) إناث الفرقة بمقايسات (الزِّى الاسـلامي)، أو (تغييبهنَّ) بحظـر العـروض، ذاتهـا، نهائيَّاً، وكفـى الله المؤمنين القتال!
ب/ أما النَّموذج الثانى فيتمثَّل فى ما يُعرف بـ (الأوركسترا القوميَّة!) و(فرقة البالمبو). فأما بالنِّسبة للأولى فقد كفانا قائدها نفسه، د. الفاتح حسين، مئونة التَّدليل على كونها لا تعكس جماع الثَّقافات الموسيقيَّة السُّودانيَّة، ومن ثمَّ فهى لا قوميَّة ولا يحزنون (الصحافة ، 18/4/04). وأمَّا بالنِّسبة للأخرى فقد كنت أبديت تخوُّفى قبل زهاء ربع قرن (SUDANOW, February 1980) من خطة د. خالد المبارك، مدير معهد الموسيقى والمسرح، أوان ذاك، لتكوين أوركسترا (قوميَّة!) يلعب العازفون فيها على آلات من مختلف أقاليم البلاد. وقد استندت فى مقالتى بعنوان (Avoiding Crusades ـ حذر المجابهات الصَّليبيَّة) إلى عِلم وخبرة الموسيقار الماحى اسماعيل، مؤسِّس ذلك المعهد، وأوَّل مدير له، ومدير قسم الموسيقى العربية بإذاعة كولون بألمانيا، في التَّنبيه لكون هذه الآلات تنتمى، في الأصل، إلى بيئات ثقافيَّة شتَّى، وأنها، لهذا السَّبب، سوف تحتاج لأن تُعاد دوزنتها، بالضَّرورة، أي لأن تُنتزع، عمليَّاً، من قلب تربتها الثقافيَّة، تمهيداً لـ (إرغامها) على الأداء (المنسجم!) مع بعضها البعض، فيكون النَّاتج، بدلاً من جماع ثقافات، جماع أصفار كبيرة! ودعوت لتأمُّل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر فادحة على مستقبل حوار الثَّقافات، وتساكن القوميَّات، حين يستحيل إلى محض تنضيد قسري لرموز وإشارات وأشكال تفتقر، أوَّل ما تفتقر، إلى الرُّوح. وقد أحزننى أن أرى تلك الخطة العقيم تُبعث مجدَّداً، خلال السَّنوات الماضية، بعد إذ قبرت في مهدها! فلئن كانت دعاوى (الوحدة فى التنوُّع) و(التنوُّع فى الوحدة) و(حوار المكوِّنات الثقافيَّة) هي، فى جوهرها، سيرورات، لا محض إجراءات، فإن الفهوم الإداريَّة الميكانيكيَّة تهدر كلََّّ معنى لهذه الجَّدليَّات، حين تنتهي بها، وسط (الكركبة) و(الضَّجيج)، إلى مجرَّد مسوخ شائهة تُخضِع ثقافات الجَّنوب (باعتبار ما كان)، والشَّرق والغرب والجَّنوب الشَّرقي الموسيقيَّة لمقتضى دوزنات الشَّمال والوسط، فلا يُصار إلى أكثر من إعادة إنتاج الأزمة النَّاشبة بين (المركز) و(الهامش)، وإنْ في سياق آخر!

(6)
لعلَّ أدقُّ ما يمكن أن توصف به هذه (المشكلة) هو قول جوزيف قرنق عنها إنها ”مشكلة وطنية في ظروف التخلف ـ national question under backward conditions“ (جــوزيـف قــرنـق؛ 1970). وقد كان من الممكـن، بهذا الفهـم، تناولها، منذ أوَّل أمـر الاستقلال السِّياسي، وبناء الدَّولة الوطنيَّة، لا في مستوى التَّنظير، فحسب، وإنما التَّطبيق أيضاً، في ما لو كان قُدِّر للعقلانيَّة أن تسود، باكراً، علاقات التَّساكن السُّوداني، أو قُدِّر للكلمة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة أن تكون مسموعة في موقع اتِّخاذ القرار، مثلما كان من الممكن اعتبار "التخلف الاقتصادي"، أو "التَّنمية غير المتوازنة”، بمثابة السَّبب "الوحيد" للمشكلة، بحيث لا يحتاج علاجها، نهائيَّاً، لأكثر من تخطيط وتنفيذ مشروعات تنمويَّة مختلفة. على أننا نكاد، الآن، نكون نسينا الأسباب الهيكليَّة لاندلاع الحرب، بينما راحـت تتفجَّــر فـي وجـوهنا، مـع كـرِّ مسبحـة السَّـنوات، منظومـة المُـدركات والتَّصـوُّرات والفهـوم السَّـالبة perceptions لهويَّتي (الذات) و(الآخـر)، كإحـــدى أخطـــر النتائــج المترتِّبة على الحرب نفسها، لتشكِّل، بذاتها، (سبباً مستقلاً) لمفاقمتها (محمد سليمان؛ 2000م)، رغم أن هذه المنظومة ما تنفكُُّّ تتخفَّى، أغلب الأحيان، خلف التَّعبيرات الدِّينيَّة، كصورة للوعى الاجتماعي المقلوب الذي لطالما غَّذته أيديولوجيا التَّسلط والاستعلاء، وعزَّزته العدائيَّات في الذهنيَّة العامَّة.
لذلك، وبالمقارنة مع السَّلاسة النِّسبيَّة للحلول التَّنمويَّة الاقتصاديَّة التي كان يمكن اجتراحها، منذ مطالع الاستقلال، على صعيد البنية التحتيَّة infrastructure، كي تؤتي أفضل أكلها، اليوم، على صعيد البنية الفوقيَّة superstructure، فإن هذه الحلول قد تستنفد منَّا، الآن، أعمار أجيال بأكملها دون أن تكون كافية، بمفردها، لتشكيل مخرج مرموق، في الوقت الرَّاهن، من أزمة (الاستعلاء والتَّهميش) المستفحلة، رغم أنه لا يبدو، للمفارقة، أن ثمَّة أساساً صالحاً سواها نبدأ منه باتِّجاه هذا المخرج.
وللمزيد من الدِّقَّة، فإن من أهمَّ الحقائق التي ينبغي أخذها فى الاعتبار بشـأن مشكلة (الاستعلاء والتهميش) هو أنها لم تبدأ بانقلاب الثَّلاثين من يونيو 1989م، وإن كان استيلاء التَّيَّار العربوإسلاموي الأكثر غلوَّاً على السُّلطة في ذلك التَّاريخ قد ألهب أوارها بالحدِّ الأقصى.
إن غالبيَّة الجَّماعة المستعربة المسلمة في السُّودان تنتسب، تاريخيَّاً، بثقلها الاقتصادي السِّياسي، والاجتماعي الثَّقافي، إلى العنصر النُّوبي المنتشر على امتداد الرُّقعة الجُّغرافيَّة من الشَّمال النِّيلي إلى مثلث الوسط الذَّهبى (الخرطوم ـ كوستي ـ سنار)، وهو العنصر الذي ينتمى إليه غالب (الجَّلابة)، أي الطبقات والشَّرائح الاجتماعيَّة التي تمكَّنت، منذ (السَّلطنة الزَّرقاء)، قبل زهاء الخمسة قرون، من تركيز القسم الأكبر من الثَّروة في أيديها (ساندرا هيل ـ ضمن ب. ودوارد، 2002م)، والتي تَشكَّلَ في رحمها، تاريخيَّاً، التَّيَّار (السُّلطوي/التَّفكيكي) المستعلي على الآخرين فى الوطن بدين (الإسلام)، وعِرق ولسان وثقافة (العرب). فعلى الرُّغم من الأصول النوبيَّة للمنتمين لهذه القوى الاجتماعيَّة، إلا أنهم استعربوا، ولم يعودوا يستبطنون الوعى بهذه (الهويَّة) التي استحالت، هي نفسها، إلى (هامش)، وإنما راحوا ينتحلون تشكُّلهم كنموذج (قومي*) محدَّد بـ (الإسلام) و(العروبة). مع ذلك فالمشكلة لا تكمن في هذه السَّيرورة الهويويَّة نفسها بقدر ما تكمن في الأسلوب القامع الذي اتبعته هذه القوى الاجتماعيَّة في (الاستعلاء) بـ (استعرابها) و(تأسلمها) على كلِّ من أضحت تتوهَّم أنهم (دونها)، ضربة لازب، من سائر أهل الأعراق، والأديـان، والثقافات، واللغات الأخرى. لقد ذوت الهويَّة القديمة، إلى حدٍّ بعيد، في وجدان هذه القوى، ولم يعُد لنوبيَّتها أيُّ معنى حقيقي، لكنها انطلقت، مع ذلك، تقدِّم نفسها كنموذج (قومىٍّ) أو ثقافة (قوميَّة) تستند إلى (الإسلام) واللغة والثَّقافة (العربيَّتين)، دون أن تستوفى أشراط تشكُّلها كنموذج كلىٍّ يعبِّر عن (مجموع) الثَّقافات السُّودانيَّة، أو يعكس منظومة (التَّنوُّع) السُّوداني، فما تزال تعبِّر فقط عن محض "إدراك وفهم نيلىٍّ شماليٍّ لهذه الهويَّة السُّودانيَّة" (دورنبوس، في بارنت وكريم ـ ضمن المصدر).
لقد شهد انهيار الممالك المسيحيَّة وتأسيس السَّلطنة الزَّرقاء، مطلع القرن السَّادس عشر الميلادي، تشكُّل القوى الاجتماعيَّة لـ (الجَّلابة)، وبداية مراكمة الثَّروة في أيديهم، وذلك في ملابسات النَّشأة الأولى لنظام التِّجارة الدَّاخليَّة البسيط، على نمط التَّشكيلة ما قبل الرَّأسماليَّة، وازدهار التِّجارة الخارجيَّة تحت إشراف ورعاية سلاطين سنار (ك. بولاني ـ ضمن تيم نبلوك؛ 1990م)، على غرار قوافل التِّجارة الموسميَّة في مكَّة مع بدايات الانقسام الطبقي، واكتمال انحلال النِّظام البدائي خلال القرنين الخامس والسَّادس الميلاديين (بيلاييف؛ 1973م). كما شهد ذلك العصر اندغام مختلف شرائح التِّجار والموظفين والفقهاء وقضاة الشَّرع (أهل العلم الظاهرى)، أو الطبقة الوسطى قيد التَّكوين الجَّنيني آنذاك، فى هيكل (السُّلطة الزَّمنيَّة)، من باب الدَّعم الذي كانوا يقدِّمونه للطبقة الأرستقراطيَّة العليا من السَّلاطين والمُكوك وحكَّام الأقاليم، والفائدة التى كانوا يجنونها من امتيازات تحلقهم حول مركز السُّلطة بما كانوا يحصلون عليه، ويعيدون استثماره، من أنصبة صغيرة من الذَّهب والرَّقيق وخلافه (أوفاهى وسبولدنق والكرسني والبشرى ـ ضمن ت. نبلوك؛ 1990م).
وبعد دخول الاستعمار وجدت هذه الفئات والشَّرائح دفعة كبيرة من الإدارة البريطانيَّة (1898م ـ 1956م)، عندما احتاجت هذه الأخيرة إلى اصطناع (مؤسَّسة سودانيَّة) تدعمها في المجتمع المحلي، وعلى رأسها فئة كبار التِّجار مِمَّن مكَّنتهم خدمتهم لرأس المال الأجنبي في السُّوق المحلى من مراكمة ثروات أعادوا، عقب الاستقلال، استثمارها، بالأساس، في مجال الاستيراد والتَّصدير، وفي بعض الصِّناعات التَّحويليَّة الخفيفة، قبل أن يتفرَّغوا نهائيَّاً، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، للمضاربة في العقارات والعملات؛ بالإضافة إلى الأرستقراطيَّة القبليَّة والطائفيَّة التي جرى تمكينها من التَّصرُّف في الأراضي والثَّروات، والشَّريحة العليا من بواكير خريجي كليَّة غردون الذين لعبت دخولهم العالية نسبيَّاً، بالمقارنة مع الشَّرائح الدُّنيا، دوراً مهماً في تشكيل نزعاتهم المحافظة (ت. نبلوك، 1990م).
بلور ذلك كله الخلفيَّة التَّاريخيَّة لنشأة رأسماليَّة المستعربين المسلمين الطفيليَّة الرَّاهنة التي فرضت قيادتها على سائر أقسام الرَّأسماليَّة السُّودانيَّة، كما أفضى إلى نشأة التَّيَّار (الاستعلائي/السُّلطوي/التَّفكيكي) الذي تمكَّن من فرض نمط (تديُّنه)، والمستوى الذي يناسبه من الثَّقافة واللغة على سائر المجتمع.
بالمقابل كان العصر السِّناري قد شهد نشوء قوى الإنتاج البدوي في قاع المجتمع، المُكوَّنة من الرَّقيق، ورعاة الإبل والماشية، وحِرَفيي الإنتاج السِّلعي الصَّغير في القرى، ومزارعي الأراضي المطريَّة والرَّي الصِّناعي، الرَّازحين بين مطرقة السَّيطرة المطلقة للسَّلاطين وسندان النُّفوذ الاقتصادي للتِّجار، على نظام "الشِّيل"، حيناً، وعلى نظامَي "السُّخرة" أو "المشاركة" في الإنتاج، بحسب الحال، نتيجة لاستحواز كبار التِّجار والمتنفِّذين على الأراضي في مرحلة لاحقة من صراع المصالح. وتنتسب إلى قاع المجتمع هذا، بالأساس، قبائل الجَّنوب، وجبال النُّوبا في جنوب كردفان، والفونج في النِّيل الأزرق، مِمَّن اعتُبروا مورداً رئيساً للرَّقيق والعاج وسلع أخرى "كانت تُنتزع بالقوَّة .. مِمَّا جعـل لهـذه العـمليَّة تأثيراتهـا السَّـالبة على المناطق المذكورة" (المصدر).

(7)
كان لا بُدَّ لتلك التَّأثيرات من أن تلقى بظلالها السَّالبة أيضاً على جبهة الثَّقافة واللغة. فعلى حين لم يُفض انهيار الممالك المسيحيَّة إلى (محو) المسيحيَّة نفسها، كديانة وثقافة سائدتين، بضربة واحدة، كما يعتقد بعض الكتَّاب خطأ (مثلاً: جعفر بخيت؛ 1987م)، دَعْ الدِّيانات الأفريقيَّة وما يرتبط بها من ثقافات، كانت قد بدأت في التَّشكُّل خصائص الفضاء الرُّوحى لذلك النَّشاط المادِّي، وفق المعايير الثَّقافيَّة لمؤسَّسة (الجَّلابي) السَّائدة اقتصاديَّاً واجماعيَّاً، والمتمكِّنة سياسيَّاً، مثلما بدأت فى التكوُّن هويَّة ما يطلق عليها (الشَّخصيَّة السُّودانيَّة)، من زاوية هذه المعايير الثَّقافيَّة نفسها، أي شخصيَّة (الجَّلابي) المنحدرة من العنصر المحلى النُّوبي المستعرب بتأثير العنصر العربي الذي ظل ينساب إلى داخل الأرض السُّودانيَّة منذ ما قبل الإسلام، وبتأثير الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة التي ظلت تشقُّ طريقها، منذ 641م، عبر المعاهدات، وعمليَّات التَّبادل التِّجاري، ثمَّ، لاحقاً، البعثات الأزهريَّة، والفقهاء الذين استقدمهم مكوك سنار من مصر، والمتصوِّفة ومشايخ الطرق الذين قدموا من المشرق والمغرب.
مع مرور الزَّمن أخذت تلك الخصائص تتمحور حول النَّموذج (القومي) المتوهَّم وفق المقايسات الهويويَّة لذهنيَّة ووجدان (الجَّلابي)، في مجابهة الأغيار المساكنين أو المجاورين، وجُلهم من الزنج الذين يجلب إليهم ومنهم بضاعته مُلقياً بنفسه في لجج مخاطر لم يكن لديه ما يتَّقيها به سوى التَّعويل، حدَّ التقديس، لا على الفقهاء وقضاة الشَّرع (أهل العلم الظاهري)، فهؤلاء وجدهم يجوسون معه في عرصات الأسواق، وأبهاء البلاط، فباخت هيبتهم في نفسه، وإنما للسُّلطة (الرُّوحيَّة) لدى الأولياء والصَّالحين وشيوخ المتصوِّفة (أهل العلم الباطني)، المنحدرين، بالأساس، من ذات جماعته الإثنيَّة المستعربة المسلمة، والزَّاهدين في ذهب السَّلاطين ونفوذهم، والقادرين وحدهم على أن (يلحقوا وينجدوا) بما يجترحون من كرامات، وخوارق، ومعجزات ترتبط عنده، غالباً، بصيغ (لغويَّة) تتمثَّل فى ما (يقرأون) و(يكتبون) و(يمحون)، فيمسُّه (بقولهم) ما يمسُّه من خير أو شـر، من فائدة أو ضُر(!) الأمر الذي زاد من تشبُّثه بـ (العلم الباطني) لتينك (اللغة) و(الثَّقافة)، وضاعف من رهبته بإزاء الأسرار الميتافيزيقيَّة الكامنة فيهما (راجع "الطبقات" لود ضيف اللـه)، كما فاقم من استهانته (برطانات) الزَّنج و(غرارتهم)، وأسَّس لاستعلائه عليهم.
لقد مهَّد ذلك كله، بمرور الزَّمن، لحجاب حاجز كثيف بين هذين العنصرين في الوعي الاجتماعي العام، حيث استعصم العنصر الزَّنجي مع لغته وثقافته بالغابة والجَّبل، وحدث الشئ نفسه تقريباً في سلطنة الفور ومملكة تقلي (محمد المكي؛ 1976م). ولئن كان ذلك كله محدوداً بظروف تلك الممالك المتفرِّقة، فقد جرى تعميم النَّموذج مع الحكم التُّركي المصري عام 1821م، وتأسيس الدَّولة الموحَّدة الحديثة التي "تمتلك أدوات تنفيذ عالية الكفاءة، فبرز النَّهج الاستتباعي للثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة بشكله السَّافر" (أبَّكر آدم اسماعيل؛ 1999م).

(8)
يضئ الكثير من المؤرِّخين والباحثين، كماكمايكل وترمنغهام وهاميلتون ويوسف فضل وسيد حريز وغيرهم، تلك الوضعيَّة المقلوبة التي تنزع للتَّأكـيد المتوهَّـم على نقاء العِرْق العربي، وكذا اللغة والثَّقافة، والتي استقبل بها (الجَّلابة)، لاحقاً، صورة (الوطن) ومعاني (الوطنيَّة) و(المواطنة)، بالمفارقة لحقائق الهجنة التى ترتَّبت على خمسة قرون ميلاديَّة ـ بين التاسع والرابع عشر ـ من اختلاط الدِّماء العربيَّة الوافدة بالدماء المحليَّة، النُّوبيَّة منها بالأخص، وإن بنسب متفاوتة ".. فالعرب الأقحاح لم يكن عددهم كبيراً .. في أي وقت من الأوقات، وقد اختلطوا حيث أقاموا وتزاوجوا مع السُّكَّان المحليين، سواء كانوا من النُّوبيين أو من البجة أو من الزُّنوج" (Hamilton, 1935). رغم تلك الحقيقة التاريخيَّة، بل رغم أن “الهجين الماثل للعيان”، بمجرَّده، “لا يجعل منهم عربًا خلصاً” (يوسف فضل، 1988م)، إلا أن سياحـة عجـلى فـي (طبقـات ود ضـيف الله)، أو (كاتب الشُّـونة)، أو أيٍّ من سلاسل الأنساب وأشجارها، وجُلها مختلق، أو موضوع لاحقاً، كوثائق تمليك الأرض لدى الفونج، مثلاً، أو ما إلى ذلك من المصادر التَّاريخيَّة للممالك والمشيخات الإسلاميَّة فى البلاد، قد تكفى للكشف عن مدى ما أهدر (الجَّلابة) من جهد، ووقت، وعاطفة فى (تنقية) أصولهم من العنصر المحلى، وإرجاعها، ليس فقط لأعرق الأنساب القرشيَّة فى الجَّزيرة العربيَّة، بل وإلى بيت النُّبوَّة نفسه! وقد حاول بعض الكتاب تفسير هذه الظاهرة من منطلقات معرفيَّة مختلفة؛ حيث أحالها البعض، على سبيل المثال، إلى مجرَّد (الخـطأ عن جهل)، أو محاولة الاتِّكاء على سند حضاري بعد هزيمة المهديَّة (يوسف فضل؛ 1975م). سوى أن من الصَّعب الموافقة على تفسير الذِّهنيَّة الجَّمعيَّة، وبخاصة حين تشكِّل نزعة ممتدَّة فى التَّاريخ، أو تنتسب إلى طبقات وشرائح اجتماعيَّة بمثل هذا الحجم والأثر فى مجرى التَّطوُّر العام لأمَّة بأكملها، بمجرد (الخطأ) أو (الجهل)! كما وأن تاريخ النَّزعة نفسه يعود، كما قد رأينا، إلى ما قبل هزيمة كرري بقرون. ويسمى بعض الكتَّاب هذه النزعة بـ (أيديولوجيا الأصالة)، ويجترح مدخلاً طريفاً لمقاربتها من بوابة علم النفس الإكلينيكي، بإحالتها إلى مجرد (عقدة نقص) تجاه الوضعيَّة التَّراتبيَّة لأصول المصادر في الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة؛ فمستعربو السُّودان، من هذه الزَّاوية، ظلوا يواجهون نظرة التَّشكيك فى عروبتهم التي تُعتبر من الدَّرجة الثَّالثة، حيث "العرب الأصلاء في الجَّزيرة العربيَّة والشَّام، والعرب من الدَّرجة الثَّانية في مصر والمغرب العربي، والبقية في السُّودان وموريتانيا والصُّومال" (أبَّكر آدم اسماعيل؛ 1999م). ويذهب الكاتب إلى أن الظاهرة مرتبطة "بظروف تاريخيَّة معيَّنة، حيث أن الأغلبيَّة السَّـاحقة للنَّاقلين للثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة عبر تلك القرون الطويلة هم من الأعراب الذين يمثِّلون القبائل الهامشيَّة فى الجَّزيرة العربيَّة والمناطق العربيَّة الأخرى. وهم ليسوا ذوى جاه ولا علم بالإسلام وما نتج عنه من فكر، فكان من الطبيعي أن ينقلوا معهم واقعهم مؤطراً، وبالتالي اختلاط الحقيقة بالادِّعاء على مستوى الفكر والأنساب" (المصدر). مهما يكن من أمر، فإننا نتفق حول حقيقة أن الهجنة واختلاط الدماء العربية والنوبية (نركز على العنصر الذي انحدر منه غالب الجَّلابة) تبدو "ماثلة للعيان" بقوة لا تحتمل المغالطة (يوسف فضل؛ 1988م). وإلى ذلك يجدر التَّعاطي معها كحقيقة معرفيَّة لا ينتقص من قيمتها أن دعواها، في أصولها العرقيَّة عند ماكمايكل، وتجليَّاتها الثَّقافيَّة عند ترمنغهام، متهومة لدى بعض المفكرين بأنها "تنطـوي عـلى فرضـيَّة انحـطاط" (عـبد اللـه على ابراهــيم؛ 1996م).
لقد انطلق (الجَّلابي) يسقط وعيه، بعِرقه المحض، الخالص، والمُنتحل هذا، على صورة الوطن، آنذاك، ومستقبلها، لا كما هي عليه في الواقع، بل كما صاغها هو في (وهمه) الفخيم، مستنداً إلى مراكمته الأوليَّة للثَّروة، مِمَّا سلف ذكره، وفاتحاً الطريق لنشوء وتسيُّد تيَّار الاستعلاء (السُّلطوي/التفكيكي) في السِّياسة والاجتماع والثَّقافة. ونجد، على هذا الصَّعيد، صعوبة بائنة في الاتِّفاق مع أبَّكر آدم اسماعيل في أن هذا "الاستعلاء"، و"الاستتباع"، و"التَّشدُّد" إنَّما يرجـع إلى الثَّقافـة العـربيَّة الإسـلامـيَّة نفسهـا، وإن بقـي ناعمـاً benign، بسـبب افتقــاره، وقتهـا، حسب أبَّكر، لسلطة الدَّولة التي لم تتوفَّر له إلا مع نشوء الممالك الإسلاميَّة (أبكر آدم اسماعيل؛ 1999م). فالمشكلة أن أبَّكر يتناول "الاستعلاء/الاستتباع/التشدُّد"، هنا، كفكرة كامنة، وناجزة بنفسها، في الثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة، ضربة لازب، وكل ما تحتاجه للظهور فى أي مكان هو "سلطة الدَّولة"، فلا جذر لها في واقع النَّشاط المادِّي للمجتمع المعيَّن. وليت الكاتب حاول تأسيس فرضيَّته هذه على معطى تاريخي وثيق، حيث الثَّابت، معرفيَّاً، أن حركة (الاستعراب) و(التَّأسلم) حفرت مجراها العميق بصورة طبيعيَّة في بعض أجزاء البلاد، خصوصاً على الشَّريط النِّيلي من الشَّمال إلى الوسط، وبالذات خلال القرون التي تلت صلح البقط عام 652م، بالتَّزاوج مع هجنة الأعراق، وسلاسة التَّديُّن السِّلمي، وانسياب اللغة والتثاقف والتمازج بين الإسلام وبين عناصر روحيَّة وماديَّة في الموروث المحلى.
إن أيَّ تقدير سليم لحركة (الاستعراب) و(التأسلم) التَّاريخيَّة في بلادنا لا بد أن يقوم على النَّظر إليها، ابتداءً، كمصدر إثراءٍ مفترض، ليس فقط للخارطة الإثنيَّة السُّودانيَّة، بل وللثَّقافة العربيَّة الإسلاميَّة فى المنطقة بأسرها. فلا الهجنة مطعن في جدارة الانتماء لهذه الثَّقافة، ولا الانتماء لهذه الثَّقافة يلغى شيئاً من خصائص هذه الهجنة، دَع أن يحول دون الحوار السِّلمي مع غيرها من مكوِّنات ما يؤمَّل أن يشكِّل، مستقبلاً، ما يمكن أن يطلق عليه (الثَّقافة السُّودانيَّة) و(الأمَّة السُّودانيَّة)! وإذن، فالمشكلة ليست فى الاستيعاب المعرفي لخصائص الهجنة أو حقائق الثَّقافة، بل، على العكس من ذلك، في جحد هذه الخصائص والحقائق، أو تزييفها أيديولوجيَّاً، ثم تسويقها، بهذه الصُّورة، فى الوعي الاجتماعي العام! لقد أفرزت الهجرات العربيَّة إلى سودان وادي النِّيل ".. تحوُّلاً جذريَّاً اتَّسم بقدر من الدَّيمومة في التَّوازن الإيكولوجي بين الصَّحراء والأرض المزروعة، وأدت .. إلى إحداث تبدل رئيس في بنية الثَّقافات السُّودانيَّة المحليَّة (و) شكَّل التمثُّل الثَّقافي والعرقي الذي نتج عن تلك الهجرات عمليَّة ذات جانبين: جانب .. السُّودانيين المحليين، وجانب .. العرب الوافدين (حيث) الغالبيَّة العظمى من الوافدين كانوا بدواً، (و) كان تأثيرهم .. على السُّكَّان المحليين أحادياً .. بينما أظهر السُّكَّان المحليون .. تشكيلة متنوِّعة من الثَّقافات واللغات، ومن ثمَّ كان تأثيرهم على العرب الوافدين بالقدر نفسه من التَّنوُّع .. لقد أدَّت عمليَّة التَّمثُّل إلى ظهور مركَّب فسيفسائي من الأقوام والثَّقافات يتمثَّل القاسم المشترك الأعظم لغالبيتها فى (الدِّين الإسلامي)، وأصبحت (اللغة العربيَّة) مع مرور الوقت، وترابط المصالح الاقتصاديَّة، هي اللغة الجَّامعة بين تلك الأقوام والثَّقافات” (أسامة ع. النور؛ 14 أبريل 2004م).
وإذن، فمن أهمِّ عوامل تحقُّق هذه (الفسيفساء)، من زاوية الحقيقة المعرفيَّة، وقوع الهجنة في بعض أجزاء البلاد دون أجزاء أخرى. أما من زاوية الحقيقة الأيديولوجيَّة، فعلى الرغم من أن تيار الاستعلاء (السُّلطوي/التَّفكيكي) قد ظلَّ يعتبر هذه (الفسيفساء) نقمة، إلا أن الأقسام الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة المتقدِّمة من التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي)، وبالأخص بين المبدعين والمفكرين، قد اعتبرتها، دائماً، نعمة! ولعلَّ هذا، بالتَّحديد، هو ما وعته، وإن بدرجات متفاوتة من السَّداد والثَّبات، وما سعت لتلمُّسه، وتمثُّله، والتَّعبير عنه، وإن بمستويات مختلفة من الاتِّساق ووضوح الرُّؤية، أجيال من المفكِّرين، والأدباء، والشُّعراء، والفنَّانين المستعربين المسلمين، منذ دعوة حمزة الملك طمبل: "يا شعراء السُّودان أصدقوا وكفى!"، مروراً بتيَّارات عديدة أشهرها (الغابة والصَّحراء)، و(مدرسة الخرطوم) في التَّشكيل، وجماعة (أبادماك)، فضلاً عن الجُّهود الفكريَّة التي انطلقت مع أواخر سبعينات ومطالع ثمانينات القرن المنصرم، تحت عنوان "السُّودانوية"، نحو مقاربة للإشكاليَّة من زوايا سوسيوبوليتيكانيَّة وسوسيوثقافيَّة أكثر شمولاً واتساعاً.

(9)
خلال وقائع القرون الثَّلاثة التي تلت القرن السَّادس عشر الميلادي، وعلى حين راحت تتبدَّد في ذلك المفصل التَّاريخي، مع غروب شمس سنار، واحدة من بواكير الفرص النادرة كي توحِّد البلاد أقاليمها، وتصوغ ذاتها، وتنتمي لنفسها، كان (الجَّلابي) مشغولاً في ملابسات صراع الثَّروة والسُّلطة:
أ/ بأسلاب المملكة التي كان قد نشط فى تفكيكها بالتَّواطؤ مع التِّجار الأجانب، يحصِى ما آل إليه، وما يمكن أن يؤول، من تركة (الكَكَر) الضَّخمة: تجارة داخليَّة وخارجيَّة طليقة من تحكُّم السَّلاطين، وأراض شاسعة خرجت من قبضة الدَّولة المرتخية فحازها ذلك (الجَّلابي) بثروته ونفوذه.
ب/ وبتأسيس منظوره الخاص للبلاد التي لم تعُد، من أقصاها إلى أقصاها، غير كنف موطأ لامتيازه وحده بالأرض والزِّراعـة والماشية والتِّجارة والعبيد، وامتيازه، تبعاً لذلك، بالعنصر، واللغة، والثقافة، ونمط التديُّن، أمَّا كلُّ ما (دون) ذلك فصقعٌ خلاء، أو محض مشروع لـ (الأسلمة) و(التَّعريب)!
ج/ وبتعميق رؤيته الفادحة للذَّات وللآخر، حيث أصله وحده العريق، ولسانه وحده الكريم، أما كلُّ من عداه فعبيد غلفٌ، وألسنتهم كذلك! وحده دمه الحرام، وعِرضه الحرام، وماله الحرام، أما (الآخر) فكافرٌ لا حرمة له! لون (الآخر) إما أسود أو أزرق، أما لونه هو فذهبي تارة، وقمحي تارة، وعسلي تارة، وتارة (خاطف لونين)، حتى إذا دَكِنَ، وصار إلى سَجَم الدَّواك أقرب، فتلك (خدرة دُقاقة) أو (سُمرة) تتدوزن بفتنتها أعواد المدن وطنابير السَّواقي! فصودُ (الآخر) على الجَّبين وشمُ رجرجةٍ مُعتم، أما شلوخه هو فتضئ على خدَّيه مطارق، وتي، وإتش، و"حلو درب الطير فى سكينة"، أو كما ظلَّ يصدح، ليلَ نهار، عبر مذياع الحكومة وتلفازها، مغنيه الذي لا مات ولا فات، حتى يوم النَّاس هذا! يتمعَّن الكفَّين، يتشمَّم الإبطين، يتأمَّل الأنف، يحدِّق في (الشَّلاليف)، يتقصَّى حتَّى باطن (الأضان) تحاشياً لِمَن فيه (عِرق)، وذاك مبلغ ما عَلِمَ من قوله (ص): "تخـيَّروا لنطفكم فإن (العِرق) دسَّاس"، كضرب من إخضاع النَّصِّ الدِّيني لأيديولوجيا الاستعلاء! فرغم "اعتبار الدِّين الإسلامي لمثل هذه الِّاتجاهات جاهليَّة ممقوتة"، إلا أن (الجَّلابي) راح يفسِّر الحديث الشَّريف تفسيراً إثنيَّا، مع أنه "واضح في حثِّ المؤمنين على تخيُّر الزَّوجة من منبت صالح بمفهوم أخلاقي وديني وليس إثنيَّاً بحال” (الصادق المهدى؛ 23 مارس 2004م). يفعل (الجَّلابي) ذلك كله منشغلاً بـ (الأعمام) و(العمَّات)، دون أن يشغل نفسه، للحظة، بالسُّؤال عن (الخال) أو (الخالة)، أو عن أصل جدَّته الأولى التي تزوج بها، قبل مئات السنوات، عربي مسلم وفد إلى هذه الأنحاء عبر البحر أو النهر أو الصَّحراء! ولا عجب، فتلك سيرة يمقتها، ولذا يدعها ترسب في قاع لاوعيه، علها تذوى في صمت!
د/ وبتكريس هذا كله استعلاءً جهيراً في حمولة الوعى الاجتماعي العام من (حِكَم) شعبيَّة وصياغات لغويَّة “تشكِّل حاجزاً نفسيَّاً بين أهل السُّودان .. أمثال: جِنِسْ عَبِدْ مِنُّو الخير جَبِدْ ـ عَبْدَاً تَكُفْتُو بَلا غَبينَة ـ سَجَمْ الحِلةْ الدَّليلها عَجَمِي وفَصِيحَها رَطانْ ـ الهَمَلةْ السَوَّتْ العَبِدْ فَكِي .. الخ” (الصادق المهدى؛ 6 ـ 7 مارس 2004م).
وثمَّة ملاحظة جديرة بأن ننوِّه بها هنا، وهي أن هذه النَّزعة (الاستعلائيَّة/ السُّلطويَّة/ التَّفكيكيَّة) ليست، في أصلها، شعبيَّة، وإنما أصبحت كذلك، تاريخيَّاً، بفعل ثقل تصوُّرات قوى (الجَّلابة) الطبقيَّة التي سادت في بلادنا، اقتصاديَّاً وسياسيَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً، وبدفع من (نخبها) التي سيطرت على مفاصل السُّلطة في كلِّ مستويات الحكم والتَّعليم والإعلام وما إلى ذلك من وسائط توجيه الرأي العام. وبالتالي فإن هذه النَّزعة لا تعكس ثقافة (شعبيَّة) أصيلة، بقدر ما تعبِّر عن تأثير فكرى وثقافي (نخبوي) يُظهر قدراً مما يُعرف في الأنثروبولوجيا بمصطلح (المركزويَّة الإثنيَّة**) التي تعكس نزعة الاحتقار وسوء التَّقدير داخل ثقافةٍ ما تجاه الثَّقافات الأخرى (أسامة ع. النور؛ ARKAMANI). ويشدِّد د. أسامة عبد الرحمن النور على أن هذه التَّسميات لا تعبِّر عن واقع (شعبىٍّ) فِعلىٍّ بقدر ما تعبِّر عن واقع (نخبوىٍّ) فكرىٍّ يُظهر قدراً مما يُعرف فى الأنثروبولوجيا بمصطلح (الاثنية المركزية)** التى تعكس نزعة الاحتقار وسوء التقدير داخل ثقافةٍ ما تجاه الثَّقافات الأخرى (موقع "ARKAMANI" على الشَّبكة العالميَّة). ومع تحفظنا، بوجه عام، على هذه الدَّلالة في استخدام علم الاجتماع البرجوازي لمصطلح (النُّخبة ـ elete)، مِمَّا يخدم الإعلاء من شأن كتلة (الصَّفوة الممتازة) على كتلة (العامَّة)، ونسبة الفضل كله، من ثمَّ، في تحريك التَّاريخ، للكتلة الأولى، إلا أننا نستطيع أن نلمح بيُسر أن استخدام هذا المصطلح هنا إنَّما يقتصر على الإشارة لمسؤوليَّة الفئات والشَّرائح المزوَّدة بمستويات عليا من المعرفة المتخصِّصة عن التَّرويج النَّشط لإزكاء نزعة (الاستعلاء) من موقع الانحياز إلى الطبقات الاجتماعيَّة ذات المصلحة في شيوع هذا (الاستعلاء) واتِّخاذه طابعاً شعبيَّاً، وإن يكن زائفاً. ولذلك نتفق مع الباحث في أن هذه النزعة، وإن كانت معروفة في كلِّ الثَّقافات، إلا أنها، بفعل الانحيازات والتَّوجُّهات الأصوليَّة المتطرِّفة للتَّيَّار المتغلب، والأكثر غلوَّاً، والذي تمثله، حاليَّاً، (النُّخبة) الممسكة، فعليَّاً، وسط النُّخبة الإسلامويَّة الحاكمة، بزمام السُّلطة في السُّودان، أصبحت تتهدَّد، أكثر من أىِّ وقت مضى، قضيَّة وحدة البلاد، وسلامة أراضيها، بخطر حقيقىٍّ داهم، مِمَّا يستوجب انطلاق (عقلانيِّى/توحيديِّى) الجَّماعة المستعربة المسلمة من موقف أكثر جرأة في ما يتَّصل بنزع جميع الأقنعة، وتعرية كلِّ المسكوت عنه في تاريخنا الاجتماعي والإثني، فالحقُّ أن "ما يفرِّق السُّودانيين هو ما لا يُقال" (فرانسيس دينق؛ ضمن المصدر)، الأمر الذي يلقى على عاتق الحركة الفكريَّة والثَّقافيَّة (العقلانيَِّّة/التَّوحيديَِّّة) بمهمَّة العمل على إزالة "التَّناقض الدَّاخلي" الذي "هو مبعث حيرة أهل الجَّنوب والشَّمال، أغلبهم، حول ماهيتهم" (منصور خالد؛ ضمن المصدر).
ويلزمنا، أيضاً، بإزاء هذه التَّحدِّيات، "أن نعترف، نحن العرب المسلمين، أن ثقافتنا مارست استعلاءً ثقافيَّاً على الآخرين (رغم أن) الاستعلاء الثَّقافي في أوحش صوره بضاعة غربيَّة، وقد مارسته كلُّ الثَّقافات المركزيَّة (المركزويَّة) في عالم الأمس، ولكن الإنسانيَّة أدركت مضاره وبدأ مشوار الاستقامة والعدالة" (الصَّادق المهدى؛ 6 ـ 7 مارس 2004م). كما وينبغي، كذلك، تجاوز محض الاعتراف إلى "النفاذ القوى برقائق الرُّوح وسهر الثَّقافة إلى خبايا الاستضعاف المؤسَّسي، الاجتماعي التَّاريخي، لأقوام الهامش السُّوداني .. (كيلا نصبح) عبئاً على حركة المستضعفين لا إضافة لها، فبغير (ذلك) .. لا ينفذ الشَّمالي المدجَّج بامتيازاته التَّاريخيَّة إلى مشاهدة قبح نفسه في مرايا تلك الامتيازات الظالمة" (عبد اللـه علي ابراهيم؛ 17 مايو 2004م).



(10)
إن أكثر ما يقلق، رغم الوعي بضرورة كلِّ تلك الواجبات والنِّداءات، هو الهشاشة الغالبة على التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي) وسط الجَّماعة المستعربة المسلمة، وتقاصر طاقات (النُّخب) المختلفة التي تمثِّله عن النُّهوض بمهامها الفكريَّة الثَّقافيَّة والسِّياسيَّة التي لا غنى عنها في منازلة التيَّار (السُّلطوي/الاستعلائي/التَّفكيكي)، بمستوى من الاقتدار المطلوب لتبرئة ذمة التيار الأول من القسط من المسئوليَّة الذى يتحمله حتى الآن:
أ/ على صعيد مظالم (الهامش) التي زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها، وولدت كلَّ هذه البغضاء للجَّماعة المستعربة المسلمة، ورموزيَّاتها الثَّقافيَّة واللغويَّة، مِمَّا تدلُّ عليه العديد من الشَّواهد، لدرجة أن تيَّاراً (استعلائيَّاً/تفكيكيَّاً) مضاداً أصبح لا يعدم التعبير عنه، منذ وقت طويل، وسط حركة (الهامش) الاحتجاجيَّة، الأمر الذي لم يشحن، فقط، نفوس الجَّنوبيين، مثلاً، بإحنة التَّصويت لصالح الانفصال، في استفتاء يناير 2011م، بل وأضحى يتهدد مشروع (الوحدة الوطنيَّة) كلها، تهديداً جدياً، هذه المرَّة، بالفناء والعدم.
ب/ وعلى صعيد مظالم الجماعة المستعربة المسلمة نفسها، كون تيَّارها (السُّلطوي/الاستعلائي/التَّفكيكي) ينفرد، تحت سمعها وبصرها، بادعاء التَّعبير عمَّا يعتقد هو أنه (رسالتها) التَّاريخيَّة (المقدَّسة) في (تعريب وأسلمة) الآخرين، بكل ما يحمله مضمون هذه العمليَّة من معاني القسر والقهر والجَّبر التي ينبغي أن تدمي ضمائر كلِّ مفكِّري ومثقَّفي التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي)، بمختلف أجيالهم، وتجعلهم يطأطئون رؤوسهم خجلاً مِمَّا كانوا يحسبونه جهداً مرموقاً بذلوه، ووقتاً ثميناً صرفوه، فـي إنتاج ونشر الوعي الدِّيموقراطي بقضايا الهويَّة، والوحدة في التَّنوُّع، والتَّنوُّع في الوحدة، وحقوق الأقليَّات في التَّميُّز الثَّقافي، وما إلى ذلك، فإذا بالنَّاتج قبض الرِّيح، في نهاية المطاف، بل خراباً مأساويَّاً كاملاً!
لقد بدأت كثير من الأقسام التَّقليديَّة ضمن هذا التيار (العقلاني/التوحيدي) تستيقظ، وإن بتردُّد وتثاقل، منذ أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن المنصرم، أى مع بواكير الارهاص الجِّدِّى بتدشين مشروع الدَّولة الدِّينيَّة الذى استكمل، لاحقاً، أهم خطواته التحويليَّة بانقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، على فداحة الخطر الذى باتت خطة الأسلمة والتَّعريب تتهدَّد به، لا معتقدات (الآخرين) ولغاتهم وثقافاتهم فحسب، وإنما مستقبل الاسلام نفسه في البلاد، علاوة على اللغة والثقافة العربيَّتين ذاتهما، أي وجود الجَّماعة المستعربة المسلمة بأسرها. وأخذت هذه الأقسام تتشكَّك فى تلك الخطة القديمة كطريق مفضي إلى (الوحدة الوطنيَّة)، بعد أن لمست فشلها في بلورة رؤية تجتذب ولو إجماع المستعربين المسلمين أنفسهم، دَع (الآخرين) الذين أثارت لديهم من الشُّكوك في مقاصدها ما جعلها تبدو، على نحو أو آخر، وسواءً أرادت أم لم ترد، كمورد إضافي يتغذى عليه، في المحصلة النهائيَّة، تيار الاستعلاء (السُّلطوي/التَّفكيكي)! ومن ثمَّ بدأت، وسط هذه الأقسام، حركة انعطاف (عقلانيَّة) ملحوظة نحو تفهُّم قضايا (الآخر) المهمَّش، إنطلاقاً من اقرار جهير بأن "بلادنا بحاجة ماسَّة للَّتعامل مع تباين الهويَّات على أساس التَّعايش والتَّكامل لا الصِّراع" (الصَّادق المهدى ؛ "تباين الهويَّات .."، مصدر سابق). هذا في الوقت الذى ما زال فيه (السُّلطويون/التَّفكيكيون) على شروطهم المتعلقة، ليس، فقط، بتهميش، أو بإدماج، أو، حتَّى، بمحو هذا (الآخر)، فحسب، بل وبإعادة ترسيم خارطة الوطن نفسه جغرافيَّاً وسكَّانيَّاً، إن دعا الحال، كى يُمسي ملائماً لمقايساتهم! وليس أصدق في التعبير عن تأذِّيهم براهن هذه الخارطة التى تثير المصاعب أمام حركتهم من تذمُّر قديم للترابي بقوله: ".. كان (قدرنا) (نحن) في السُّودان أن (نُبتلى) ببلد مركَّب معقَّد البناء يكاد يمثِّل كلَّ الشُّعوب الأفريقيَّة بلغاتها وسحناتها وأعراقها وأعرافها" (أقواس التشديد من عندنا: م/الصياد).
وكفى بذلك إفصاحاً عن المُضْمَر تجاه قضيَّة (الوحدة) حتى في المفاوضات التي أفضت لاتفاق (نيفاشا)!
أما من جانب ما يمكن تسميته بـ (الضَّمير) السِّياسي الوطني الدِّيموقراطي وسط التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي)، والذى تمثِّله، في رأينا، قوى اليسار بكلِّ أقسامها، وتحديداً الحزب الشِّيوعي باعتباره أعرقها فكريَّاً وسياسيَّاً وتنظيميَّاً، فإن تمظهرات ذلك الاستعلاء شكَّلت، منذ وقت باكر، صدمة عنيفة بالنِّسبة له، وأفدحُها جوراً اعتبارُ كلِّ مَلمَلةِ احتجاج فى (الهامش) إمَّا حركة تمرُّد في الجَّنوب، أو مؤامرة عنصريَّة فى الغرب، خصوصاً في جبال النوبا ودارفور. فكان المؤمَّل أن يصبح التَّيَّار (العقلاني/التَّوحيدي) اليساري (نقيضاً) هادماً لرؤى وسياسات وبرامج التَّيَّار الآخر (الاستعلائي/التَّفكيكي) اليميني، لا محض (خصم) معترض عليه.
وما من شكٍّ في أن جهوداً فكريَّة وسياسيَّة كبيرة قد بُذلت في هذا الاتِّجاه، خلال السَّنوات الخمسين الماضية، فعلى سبيل المثال:
أ/ أقرَّت الجَّبهة المعادية للاستعمار في بيانها بتاريخ 28 سبتمبر 1954م حقَّ (الحكم الدَّاخلى)، لا لقوميَّات الجَّنوب فحسب، بل ولكلِّ القوميَّات السُّودانيَّة (محمد سليمان، 1971م ـ ضمن: عبد الله علي ابراهيم، 2001م). و(الحكم الداخلى) هو ما أصبح يشار إليه لاحقاً بـ (الحكم الذَّاتي الإقليمي) كحلٍّ جذري، في رأي الحزب، من كلِّ الجَّوانب السِّياسيَّة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة Socio-politico Economic. وتطبيقه يستتبع، بالضَّرورة، أن يؤخذ في الاعتبار رأي المعارضين له وسط المجموعة القوميَّة المعيَّنة. ومن هذه الزَّاوية بالتَّحديد فإنه لن يكون ثمَّة مناص من طرحه للاستفتاء، أي لشكل من أشكال (تقرير المصير).
ب/ ومن جهته شدَّد عبد الخالق محجوب، أيضاً، فى مطلع عام 1971م، على أن (الحكم الذَّاتي الإقليمي)، كحلٍّ ديموقراطي شامل، يجب أن يفضي إلى (تقرير المصير) لحسم الصِّراع بشأن قضيَّة الوحدة نهائيَّاً (حول البرنامج 1971م، 2002م). ويجدر التَّنويه بأن هذا الوسع فى الرؤية قد أدرج، كذلك، ضمن خيارات (إعلان كمبالا) الصَّادر عن (ورشة الخبراء حول مستقبل التَّرتيبات الدُّستوريَّة في السُّودان)*** التي نظمها، من 26 إلى27 يناير 2004م، (مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان) بالتعاون مع (حركة عموم أفريقيا) اليوغنديَّة، حيث انصبَّ ثقلٌ معتبرٌ من خيارات أولئك الخبراء على "ضرورة النَّص في الدُّستور الانتقالي، وفي الدَّساتير التَّالية، على الحقِّ الدَّائم لجميع القوميَّات الموجودة في السُّودان في (تقرير المصير) متى ما رأت ذلك، باعتباره حقَّاً أساسيَّاَ، وضمانة لحقوق الشُّعوب المهمَّشة، وأكدُّوا أن ذلك هو السَّبيل الدِّيمقراطي لخلق وحدة طوعيَّة وعادلة في السُّودان".
ج/ وفي مساهمته المشار إليها باتِّجاه المؤتمر الخامس للحزب، وفي ما يتَّصل بالتَّجمُّعات القوميَّة والقبليَّة، عُنِي عبد الخالق بتركيز بعض الموجِّهات البرامجيَّة، مثل ضرورة "التَّشجيع الفعلي للنُّموِّ الحُرِّ لثقافات هذه المجموعات"، مشدِّداً على أن ذلك لن يكون "إلا إذا بُعثت لغات ولهجات هذه المجموعات، وعَمَدَت الدَّولة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة بجديَّة إلى تشذيب تلك الأدوات والتوسُّل بها فى التَّعليم، وفي النَّهضة الثَّقافيَّة الشَّاملة"، على "أن تصبح هذه الثَّقافات جزءاً من المكوِّنات العضويَّة للثَّقافة السُّودانيَّة" (حول البرنامج 1971م، 2002م). سوى أن عبد الخالق لم يعلق هذه الموجِّهات في فراغ، بل عَمَدَ إلى تقعيدها، جدليَّاً، ضمن جملة أشراط إقتصاديَّة اجتماعيَّة وسياسيَّة لا تقوم لها قائمة بدونها، وتتمحور، أساساً، حول الدِّيموقراطيَّة الشَّاملة: ديموقراطيَّة في علاقات الانتاج، في الحقوق السِّياسيَّة للجَّماهير الكادحة، وفي النِّظام السِّياسي (المصدر).
د/ وكان حسن الطاهر زروق، ممثِّل الجَّبهة المعادية للاستعمار فى البرلمان الأوَّل 1954 ـ 1957م، قد طالب "بألا نعلم اللغة العربيَّة، ولا الدِّين الإسلامي، في الجَّنوب، لأنهما غـريبان على أهـله" (محمـد سـليمان، 1971م ـ ضمـن عـبد الله على ابراهيم، 2001م). ودرءاً لسوء الفهم في ما يتَّصل بتعليم العربيَّة والإسلام فقد ظلَّ الشِّّيوعيون يحذِّرون دائماً من خطورة دعاوى (الأسلمة والتَّعريب) القائمة في مناهج الإدماج القسري، أي التي ترمي إلى كسر (الآخر)، تمهيداً لإعادة قولبته وصياغته ضمن السِّياق العربي المسلم، كما ظلت فكرة التَّدرُّج والتَّراضي الطوعي، والقبول الثَّقافي المتبادل، أو ما يُعرف اختصاراً بـ (التَّثاقف الطبيعي)، هي شاغلهم منذ ذلك الوقت الباكر. أما في ما يتَّصل بالفهم السَّليم لموقف الحزب من قضيَّة (الدِّين) فلا بُدَّ من قراءة مطلب حسن الطاهر مقترناً، على الأقل، بالنَّقد الذي سبق أن سدَّده، هو نفسه، للتَّجربة السُّوفيتيَّة، قبل انهيارها المدوِّي بنحو من نصف قرن، حين ألمح، بصفة خاصَّة، إلى الخلل الأساسي فيها من جهة "عدم تقدير دور (الدِّين) في حياة الشُّعوب" (السُّودان الجَّديد؛ 1 سبتمبر 1944م ـ ضمن: محمد نوري الأمين، رسالة دكتوراه ـ وانظر أيضاً مقالتنا: "مثار النقع"، بجريدة "الصَّحافة").
هـ/ وورد في (تقرير لجنة التَّحقيق حول الاضطرابات التي حدثت بجنوب السُّودان في أغسطس 1955م) أن الجَّبهة المعادية للاستعمار قامت، ضمن نشاطها السِّياسي في ديسمبر 1954م، بتوزيع منشوراتها بلغة الزَّاندى في مركز الزَّاندى والمورو وبين عمال صناعة القطن ونقاباتهم (التَّقرير، الخرطوم 1956م ـ يوسف الخليفة أبوبكر فى حريز وهيرمان بل، 1965م ـ ضمن عبد الله على ابراهيم، 2001م).
و/ وعاد جوزيف قرنق، عضو اللجنة المركزيَّة، ووزير الدَّولة بوزارة شؤون الجَّنوب في حكومة مايو الأولى، ليُعِدَّ، من واقع برنامج الحزب تجاه قضيَّة الجَّنوب، بيان 9 يونيو 1969م الذي ارتكز على الاعتراف المستقيم بالحقائق الموضوعيَّة لتلك القضيَّة القائمة بالأساس في الفوارق التَّاريخيَّة والثَّقافيَّة بين الشَّمال والجَّنوب، والاعتراف، من ثمَّ ، بأن من حقِّ شعبنا في الجَّنوب أن يبنى ويطوِّر ثقافاته وتقاليده في نطاق سودان اشتراكي موحَّد (راجع نصَّ البيان ضمن محمد عمر بشير، 1970م). وفي سياق تطبيق ذلك البرنامج طلب جوزيف قرنق من مستشاره الفنِّي للتَّدريب والتَّعليم أن يدرس إمكانيَّة تبنِّى لغة من لغات الجَّنوب، كالدينكا التي هي أوسع اللغات الجَّنوبيَّة انتشاراً، لتكون لغة الإقليم القوميَّة، وأن يحدِّد العوامل الجَّديرة بالاعتبار لتلك الغاية، وأن يستقرئ النَّتائج الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة التي ستترتَّب على ذلك في القطر وفي الإقليم، وردَّ الفعل المتوقَّع من الجَّنوبيين الذين يتكلمون لغات أخرى، وأن يدرس كذلك إمكانيَّة اختيار أكـثر من لغـة لنفـس هـذا الغـرض (عبد الله على ابراهيم، 2001م). ولو كان قُدِّر لتلك الخطة أن تطبَّق بنجاح، لشكَّلت، منذ ذلك الحين، نموذجاً صالحاً للاقتداء به في جبال النوبا وفي غيرها.
على أن كلَّ ذلك السَّداد بقي، للأسف، حبيس الشِّعار البهىِّ الذي قد يثير الاعجاب، أو يهدهد الخيال شيئاً، على غرار شعارات (الحكم الذَّاتي الإقليمي) و(حقِّ القوميات في التَّطوُّر والازدهار). سوى أن من شأن الاقتصار عليه وحده أن يحوِّله إلى محض ترميز يُراد له أن يكون ناجزاً بنفسه، محض (تميمة) أو (تعويذة) أو (رُقية)! وهذا ما ظل يحدث، للأسف، بالنسبة لكلِّ تلك الأطروحات الفكريَّة، والإشارات البرامجيَّة التى تحنَّطت، أو كادت، في أسر الدِّيباجات العامَّة، دون أن تتحوَّل كما ينبغي، حتى لدى الخبراء والمتخصِّصين من الشِّيوعيين والعناصر الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة، إلى علم سودانىٍّ ثورىٍّ نافع يتعهَّدونه بالمراجعة، ويثرونه بالإضافة، ويزدادون قدرة على استنطاق حقائقه التَّفصيليَّة، ويتوسَّلون به لتغيير بنية الوعي الاجتماعي عبر جدل الكدح اليومي وسط الجَّماهير من مختلف القوميات والتَّكوينات الإثنيَّة، أي الجَّماهير التي لا يمكن الاقتراب من أيِّ مستوى لتثوير أوضاعها بغير الطلب الحثيث لمعرفة أفضل بهذه الأوضاع. أما (استصعاب) هذه المعرفة فمن شأنه أن يغوي بالتَّراجع حتَّى عن مستوى النَّظر المفتاحىِّ السَّديد الذي كان بلغه الفكر الثَّورى في فترات سابقة. فعلى سبيل المثال، ومقارنة بتلك الاستنارة الباكرة التى دفعت الحزب الشِّيوعى عام 1954م لترجمة منشوراته السِّياسيَّة إلى لغة الزاندي قبل توزيعها في مراكز الناطقين بها، لم تكترث حملة تعريب الثَّانوي عام 1965م، بقيادة الحركة الدِّيموقراطيَّة وسط المعلمين، لوضع اللغات المحليَّة في المناهج الدِّراسيَّة، مِمَّا اعتبره باحثون شيوعيون**** اعتداءً على صلاحيَّات اللغات الأخرى التي ربَّما صلحت كوسيط للتَّعليم، أو كمادَّة دراسيَّة للنَّاطقين بها تمهيداً لتصبح ذلك الوسيط، كما وأن المؤتمر القومى للتَّعليم (أغسطس 1969م) لم يصدر بشأن لغة التَّعليم في الجَّنوب أكثر من توصية باتِّخاذ اللغات المحليَّة، بعد تدوينها بحروف عربيَّة، وسيطاً للتَّعليم في السَّنتين الأوليين في مدارس المناطق الريفيَّة، على أن تحلَّ العربيَّة مكانها ابتداءً من السَّنة الثَّالثة (عبد الله على إبراهيم، 2001م).
وهكذا نرى أن (استسهال) السَّائد في الوعي الاجتماعي، والمترتِّب على (استصعاب) المعرفة بـ (الآخر)، يمكن أن يستدير ليفعل فعله حتى في الفكر الثَّوري، إذا لم يجابَه بالقدر اللازم من اليقظة والانتباه!

***

الإشارات:
* غالباً ما يشيع فى التَّقليد (الجَّلابى) استخدام هذه الكلمـة وقرينتهـا (وطني/وطنيَّة) بصـورة ملتبسة، وبمدلولات مبهمة، خصوصاً فى حقل السِّياسـة، وبخاصَّة أكثر حين يكون المُراد ابتزاز ذهنيَّة ووجدان العامَّة لتسويق أوضاع غير سويَّة (وفاق وطني، زي قومي، شخصيَّات قوميَّة .. الخ).
** يستخدم البعض مصطلح (المركزيَّة) الإثنيَّة/الثقافيَّة، لكنَّنا نفضِّل استخدام مصطلح (المركزويَّة) الإثنيَّة/الثقافيَّة لانطوائه على دلالة التَّحفظ على الممارسة.
*** وقد شارك الكاتب فيها.
**** كان عبد الله علي إبراهيم ما يزال كادراً متفرغاً بالحزب الشِّيوعي حين أنجز بحثه القيِّم بعنوان (الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان)، والذي صدرت طبعته الأولى في سلسلة (كاتب الشُّونة) ضمن إصدارات الحزب عام 1977م.

المراجع:
(1) أبَّكر آدم اسماعيل؛ "حول مسألة التَّعريب في السُّودان"، ورقة ضمن مداولات "مؤتمر واقع ومستقبل التَّعليم العالي في السُّودان" ـ أوراق مختارة، تحرير محمد اﻷمين التُّوم؛ رابطة الأكاديميين السُّودانيين، القاهرة 1999م.
(2) أسامة عبد الرحمن النور؛ موقع "ARKAMANI" على الشَّبكة.
(3) أسامة عبد الرحمن النور؛ "مشروع السُّودان الجَّديد وإعادة كتابة تاريخ السُّودان"، صحيفة سودانايل الإلكترونيَّة، 14 أبريل 2004م.
(2) الأمين أبو منقة؛ صحيفة "الأضواء" السُّودانيَّة الورقيَّة، 16 فبراير 2004م.
() الشيخ عبد الله عبد الرحمن الأمين؛ العربيَّة في السُّودان، 1921م.
(4) الصَّادق المهدي؛ "تباين الهويَّات في السُّودان: صراع أم تكامل"، ورقة في ندوة مركز دراسات المرأة بقاعة الشَّارقة بالخرطوم، 23 مارس 2004م.
(5) الصَّادق المهدى؛ “المصالحة وبناء الثِّقة في السُّودان”، ورقة في ندوة "السَّلام بين الشَّراكة والمشاركة"، قاعة الشَّارقة بالخرطوم، 6 ـ 7 مارس 2004م.
() طبقات ود ضيف الله بتحقيق يوسف فضل حسن، دار جامعة الخرطوم للنشر.
(6) بيلاييف ي. أ؛ العرب والإسلام والخلافة العربية، الدَّار المتَّحدة للنَّشر، بيروت 1973م.
(7) تيم نبلوك؛ صراع السُّلطة والثَّروة في السُّودان، مطبعة جامعة الخرطوم، 1990م.
(8) جعفر محمد علي بخيت؛ الإدارة البريطانيَّة والحركة الوطنيَّة في السُّودان (1919م ـ 1939م)، المطبوعات العربيَّة، الخرطوم 1987م.
(9) جــوزيـف قــرنـق؛ The Dilemma of the Southern Intelligentsia ـ متاهة الانتلجينسيا الجَّنوبيَّة، وزارة شؤون الجَّنوب، الخرطوم 1970م.
(10) حسن التُّرابي؛ مجلة "الصَّيَّاد"، ع/مايو، بيروت 6/5/1988م.
(11) عبد اللـه علي ابراهيم؛ الثَّقافة والدِّيموقراطيَّة في السُّودان، دار الأمين، القاهرة 1996م.
(12) عبد اللـه علي ابراهيم؛ الماركسيَّة ومسألة اللغة في السُّودان، دار عزَّة، الخرطوم 2001م.
(13) عبد اللـه علي ابراهيم؛ جريدة "الصَّحافة" الورقية السُّودانية، 17 مايو 2004م.
(14) قناة الجزيرة؛ حوار احمد منصور مع علي كرتي، وزير خارجيَّة السُّودان، 10 مايو 2012م.
(15) كمال الجزولي؛ جريدة الصحافة 2 يناير 2001م.
(16) KAMAL ELGIZOULI SUDANOW, February 1980
(17) محمَّد فوزي مصطفى عبد الرحمن؛ الثَّقافة العربيَّة وأثرها في تماسك الوحـدة القوميَّة في السُّودان المعاصر، الدَّار السُّودانيَّة، الخرطوم 1972م.
(18) محمَّد المكِّي إبراهيم؛ الفكر السُّوداني: أصوله وتطوُّره، مصلحة الثَّقافة، الخرطوم 1976م.
(19) محمَّد سليمان؛ حروب الموارد والهويَّة، دار نشر كيمبردج، لندن 2000م.
(20) محمَّد عمر بشير؛ تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان (1900 ـ 1969)، الدَّار السُّودانية، الخرطوم1991م.
(21) وكالات؛ 19 ديسمبر 2010م.
(22) Hamilton J. (Editor) The Anglo Egyptian Sudan from Within

(23) يوسف مختار الأمين؛ موقع ARKAMANI على الشبكة.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل