الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية -5-

جميل حسين عبدالله

2016 / 12 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


وقفات مع مقولات من كلام الصوفية ‏
‏-5-‏
وإذا كنا قد عرجنا على بعض الأمور التي لها ارتباط بالزمان، والمكان، فإن ما يرتبط بهذا الموضوع من أقوال المتكلمين قولهم: إنهما ‏‏"متوهمان"، أي لا وجود لنا في الأعيان الخارجية، ولا مقام لها إلا عند امتزاج الصور بالإدراكات الحسية. وهذا لا ينبني إلا على قولنا ‏بصريح البيان: إن لهما بعدان، مادي، ورحي، فالمادي ملامس للذات في خارجها المحدود لحكم في التكليف البشري، بينما النظر إلى ذلك ‏يقتضي أولا تصور الفراغ فيهما، ثم التقسيم والتجزيء لهما، ثم الامتلاء أو الاحتواء معهما. وذلك مما يجعلهما متوهمين في الاتصال، ومنقطعين ‏في الانفصال، لأنهما في ارتباطهما بالأشياء المتحركة محسوسان، وذلك مما يصيرهما في ارتباطهما بالحقيقة القاهرة نسبيين، وفي علاقتهما بالأشياء ‏الساكنة معقولان، وهو عين ما يجعلهما مطلقين. وينبني على هذا في الإطلاع، أن التوهم مقابل للانقطاع، أي أن ما ندركه فيهما متوهم، ولو ‏أيقنا بأننا لا نعيش معه العدم، لأن التوهم لا ينشأ في الذات عن فراغ المحل من العلم بالشيء المقصود بالقضية، لأنه ردة فعل تجاه أمر ‏واضح العلة، ولكنه غير ظاهر لخلل يحصل في جهاز الإدراكات العقلية، أو لاضطراب يحدث في بنية النفس البشرية، أو لقلق يطرأ عند ‏تصادم إمكانات الفعل والعجز عنه في الإرادة الإنسانية. لكن هل التوهم المذكور في كلام المتكلمين منشأه من هذه العلل الذاتية، ‏والعرضية.؟
‏ لو قلنا بذلك، فإننا سنتهم عقولهم بما لا يليق بمقامهم في الإدراك الحقيقي، وسنقطع الصلة بميراثهم المخلد فينا بالأثر الظاهر المعاني. وإذ ‏ذاك ستفصل بينهم وبينهم مسافات طويلة، ومساحات مديدة، لا تدعنا نستلهم منهم روح العقل الباحث بحرية عن الحقيقة المطلقة، ولا ‏طبيعة التفكير في القضايا المقعدة. لأن قولهم بالتوهم، لا يعني عدم نفي العلم، إذ هو يقين ممزوج بشك عرضي، ولذا لم يرد عندهم في ‏الوجود الروحي للشيء، أو المادي، بل في ارتباطه بالمطلق الإلهي. وإذا قلنا باتصاله به، كان مآله عدم الفناء فيه، وإذا قلنا بانقطاعه ‏عنه، كان الزوال سريعا إليه. ومن هنا، فإن التوهم ليس محله في البرهان العقلي الوجودَ من عدمه، بل مقامه البقاء والزوال في التدبير ‏الإلهي له. وعلى هذا، فإن التوهم لا يعني في الزمان والمكان الاتصال بما ينتهي إليه الإطلاق في الزمن الكوني، لأنه هو المشكوك في ‏نتيجته بالدليل العقلي، بل يعني الانبتات الذي هو النهاية لهما، وبداية حياة أخرى بعدهما. وما دمنا لا نرى لهما في الزمن الأرضي بقاء، ‏فالقول بالانقطاع أولى فيهما من الاتصال بلا امتراء.‏
وهكذا فإن الزمن يكاد ينصرف إلى المتحرك المتصل المحدود، والمنقطع، والدهر ينطوي على عنصره الثابت الذي لا ينقطع. وهنا اختلفا في ‏القصد بهما، إما حقيقة لهما، وإما مجازا فيهما، لكون الدهر هو ذلك الامتداد الساكن الجامع لمطلق الأبد الذي لا نهاية له، ولمجرد الأمد ‏الممدود الذي لا بداية له. ويعني ذلك أمران: ‏
الأول: مدته المطلقة بلا سكون، على اعتبار الدهر مكمن الزمن، أي فاعله الذي ظهر من سر ذاته، وأصله الذي فاض على الموجود في ‏الوجود من عينه. وربما قد يستشكل على هذا القول، فيقول قائل: إن المتكلمين والفقهاء لم يصفوا الذات العلية بمشتق هذا الاسم، وهو ‏ذاتي يحمل معنى الأبدي والسرمدي بدليله الأتم. قد يرد هذا الرأي اعتراضا، أو تعريضا، لكن المتكلمين حين نظروا إلى مجرد الدهر الذي ‏لا بداية له، لم يريدوا أن يعبروا به عن مطلقه الذي لا نهاية له، لكونه يتضمن معنى الزمن الذي هو من نبعه، وهو منفي عن الله ‏سبحانه، ولهذا قالوا بالمنع فيه، وهو عين ما ذهب إليه عياض، والقرطبي، وإن كان لأهل الكشف والذوق كابن عربي تحرير جلي، ‏وتدقيق سني، أجازوا فيه أن تسمى به الذات مجازا، على اعتبار المراد منه تجاوزا، وهو المدبر المتصرف سبحانه، والمتفرد بالفعل في ‏خلقه. ومن ثم ورد النهي بعدم سب الدهر في ارتباط أثره بالقدر البشري، على اعتبار مصدره العلوي، ومنبعه السفلي، لأن معتقد ‏المشركين فيه، أن له أثرا على جلب النوازل الحادثة، والقوارع الطارقة. ولا غرابة إذا نسب إليه في مقاييس اللغة المتطورة مع الحدث ‏المعاند، فقيل: الدَّهري لمعتقد أصليته واستقلاله وأبديته وبقائه في الفعل الخالد. ويدل ذلك عند القائل بلازمه في الاعتقاد، على ما يفيده ‏من قدم العالم الذي تاه فيه الفكر قديما وحديثا بلا مرد، ولا معاد.‏
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إننا حين ننأى عن سبة التعطيل، والتجسيم، ونترفع عن معرة التحديد، والتقييد، والتحجيم، لا نلمس إفادة ‏في التراشق بالتهم، والتهارش على القيم، لأن أجلى قيمة في تعاملنا مع قدس الحقيقة الإلهية، هو تنزيه الله عما لا يليق من الأسماء والصفات ‏بذاته العلية، وإن كان ذلك في موفور التكليف محصورا بصورنا الذهنية، ومحدودا بإدراكاتنا البشرية، لأن مقتضى التنزيه عندنا، لا يستلزم ‏سوى ما نطيق أن نعتقده في ذواتنا، وما لم يكن محمولا لجهد طاقتنا، فأمره موكول بالإطلاق إلى صورة الكمال المقدسة عندنا. ومن هنا ‏كان التنزيه منزعا للسادة الأشاعرة حين رأوا عدم تسمية الله بالدهري، وقالوا بالحظر في ذلك على مجريات العقل البشري. لأننا إذا ‏توسعنا في باب الأسماء، والصفات، فالضرورة تقتضي أن نشتق من كل فعل إلهي اسما ملازما له في كل الآيات، ("إني جاعل في الأرض ‏خليقة". يستدعي الجاعل. "وضرب الله مثلا". يستلزم ضارب الأمثال. "ويمكرون، ويمكر الله". يقتضي الماكر. يخدعون الله وهو ‏خادعهم" يستوجب الخادع. وهكذا دوليك.) وإذ ذاك لن تنتهي الأسماء ولا الصفات في العدد، ولا في الإحصاء، ولا في اللزومية، لأنها ‏تابعة لمقتضى الاسم في الاشتقاق، والدلالة. ولهذا اكتفى العلماء في الأسماء بالتوقيف، وبالتواطؤ في الصفات على التأليف، فقالوا بما يدل ‏على الكليات التي تجمع تحتها كل مجزءات الفعل الإلهي، لأنه غير قابل للجزيئة والقسمة إلا في ذهننا البشري، لا في قيمومته بمتعلقات المشيئة ‏بالأمر الأزلي، إذ التجزيء والتقسيم فعل متمحض للعقل، وصوغ مختار للناطق بالقوة، أو بالفعل. ‏
الثاني: مدته المجردة على اعتباره بداية امتداد الزمن في ارتباطه بالأزلية، أي النقطة التي فاض منها الوجود على العوالم المرئية، والخفية. ‏ومن هنا يكون الزمن هو المدة الممتدة الطويلة، أو تلك القصيرة، والدهر هو مطلق الزمن، أو صورة مجرده، لأن المدة كما تدل على ‏قليله، فإنها تدل على كثيره، أو على الغاية منه ومن المكان المعروف معه. وهي في حقيقتها برهة من الدهر، وإن كانت البرهة تدل على ‏الحين الطويل منه كما قال ابن السكيت في رأيه المحبر. والذي يبدو لي أن الألفاظ التي تدل على الزمن متساوقة، لا يمكن تحديدها بوقت ‏محدود بأمارات معلومة، وإن جرى العرف على التقييد رغبة في التأقيت لضروريات الالتزام بالشرع بين مدارات الزمان، والمكان، وهو ‏ملزم في التكليف لمن اعتقد تمام التحديد بما يفهمه عند نطق اللسان بالبيان، والتبيين، لأن مطلق الزمن في حقيقته، لا يمكن دركه، وهكذا ‏مجرده، إذ لا يمكن وضع حقيقة له إلا في اعتبار ما تقوم به صورته في الذهن، وما تدل عليه بماهيتها في مصاديق نفس الإنسان. ولهذا، ‏تصير الألفاظ محتملة لكل الآراء، ما دامت تعبر عن مقامات القائلين بها بلا تسلط، ولا اعتداء، وتفصح عن إدراكهم للمعاني المحدودة ‏بحدود ذواتهم العاقلة، والمعلومة بقيود قدراتهم الفاعلة.‏
وبناء على ما سقناه، يتبين لنا أن قولهم: الصوفي ابن وقته، أي هو ابن زمن مقيد، موجود لفروض معينة بالتحديد.فيلزمه أن يراعي ما ‏وضع فيه من مبنى، ويستسلم لما اختير له من معنى، ويحسن الأدب مع الزمن، ويجري الفعل في مجراه بإذعان، لئلا يفقد سر اللحظة، ‏ويضيع منه ما يموج فيها من بركة، وما يمور معها من مبرة، وإلا، فإن الصوفي إن لم تغلب همته على زمنه، لن يكون له فعل مطالب به ‏في حينه، ما دام قد ضيع مفتاح الزمن الكوني، وانطوى منه الكد على الألم النفسي، وانزوى إلى صور نقش رسومها بالخيال الجانح/، ‏والحلم السارح. وربما غاب في الماضي حتى ضاع منه الحاضر، فلم يظفر في كبده بالفائت المنتحر، ولا بالقادم المنتظر، لأن فرض الوقت ‏في الإلزام المحدود بالقيد الظرفي، هو الطلب النازل عليه الأمر بالحكم الإلهي. وإذا لم ينجز في حينه بحقوقه المستوجبة للتمام، فإن الفعل ‏البشري في استرساله إلى الأمام، لن يجد طريقه إلى اختبار فعل العمارة، والحضارة، والأمن، والسلام. ‏
ومن هنا، فإن الوقت في يقظة المتصوف، يعني ما هو عليه آن الإنسان المكلف، وما يقوم به حاله في زمنه، وما يوجده من فعله. ولذا ‏يكون وقته لازما لدوران مقامه، وكاشفا لسبيله في سير حاله. وحينئذ تصير حركته المقيدة بعلة الاختيار جبرا حاصلا، والزمن المنساب فيه ‏بلا توقف واقعا، وحالا، لا ماضيا يأسف على انقضائه، ولا مستقبلا ينتظر أقصى رغباته، لأنه إما أداة للموت الغالبة، وإما نسمة في ‏الحياة الناعمة، إذ هو موضع للأفعال الإلهية الجارية في واجب الظهور بلا تقاطع، والسارية مع نوازل العلل بتوال، وتتابع. والصوفي في ‏سابغ جهد بحثه، يكتشف منها ما هو محصول له باستعداد طاقته، وينال منها ما هو مهيأ له في تدبيره، وما هو مسخر له في تصريفه. لأن ‏سعيه لا يتوخى به ما سبق له في قدره، وهو أمر موجود فيه، وقد أقره بيقين عقده، ولا يرغب به في عاقبته، إذ انتظارها سوء ظن ‏فيه، لأنه وإن لم يأمن مكر القدر به فيما سيأتي عليه، فإنه لم يبرح دائرة وصفه بالرحمة الدائمة لربه، وهو الضعيف قدره عن تنقيح فعله، ‏والعاجز عزمه عن تفويت حينه، والخائر حزمه عن تمويت ألمه، إذ لولا توفيقه سبحانه إياه، لما مشى منه نظر نحو مشاهدة سمائه، ولا ‏يرجو به وقته، لأنه وإن كان وعاء لفعله، فليس حضوره معه إلا وقوفا عنده، وهو شرك خفي، وعرض دني، إذ الزمن لا ينظر إليه إلا ‏لكونه محضنا للفعل الصالح، أو مظهرا مخزيا للسلوك الطالح، بل يعدو به نحو الصفاء، يخطو به إلى الوفاء. ولولا ذلك، لما تألم لما يحيط به ‏من غفلات، ولما تنبه لما يدهمه من نزوات، إذ هو الراغب في الجمال، والباحث عن الوصال. لأن الصوفي قد أدرك دور الإنسان في ‏تمديد زمنه إلى ما لا نهاية له، وتحديد فعله بما يقتضيه جهده في حال مقامه. ومن هنا، فإنهم تعرفوا بدرك المعنى على طرق صوغ الصور، ‏وتمحيص ما خزِّن فيها من بصر، لأن الصورة المبحوث عنها في الحقيقة المطلقة، ما هي إلا ما وصلت إليه الذات في تركيب معانيها، وترتيب ‏مفاهيمهما. ولذا تحولوا من الذات الملتهبة بدرك الحقائق في طورها المادي، إلى ما يمد لهم من معان على بساط التجلي الإلهي. وذلك ما ‏يبعث في الذات نشاطا، وحدة همة، تعود بهم إلى أصل الفعل الفائض على كل شيء بالفضل، والمنة، لأن الانتهاء إلى نقطة في البداية، ‏هو الذي يختصر التجربة البشرية، لكونها تضع القدم على دهشة المنطلق الغريب، وتكشف ما يذهلنا من وهم متبختر بالزهو، والخيلاء، ‏وما يبعدنا عن حقيقتنا في الغدو إلى نبع النقاء. وذلك ما يمنحها قوة في الحضور بعد الغياب في الطريقة، والشهود بعد الرؤية في الحقيقة. ‏
ولذا لم يتوقف الحد الصوفي عند هذا النظر، بل تجاوزه إلى رؤية رب الأزمنة والأمكنة بلا انحياز منه إلى الأثر. فلا عجب إذا انفرد فيما ‏جربه بفكرة، وتميز فيما حازه بنفحة، فصار منه السعي الواجب موقوتا، والأمل المرغوب ثابتا، لأنه لم يكدر صفحة وجوده بأهوائه، ولم ‏يزين ظاهر أوضاعه بخبث أغراضه، ولم يدبر عزمته برديء أفعاله. ولذا، لم يتميز عن غيره بما هو مشترك للجميع، ولا بما هو مورود في ‏نبعه بلا مانع، بل ثبت حيث يحصل الاضطراب، وسكن حين ينهمر موج الارتياب، وغالب جهله بصحيح علمِه بمقامه، وحارب كثافة حجبه ‏بواضح فعله في مرامه، فلم يخطب الزائل بما بقي من عمره، ولم ينجب في فعله إلا ما هداه من صالح عمله، ولم يخلف في أثره إلا ما صيره ‏كسبا لغيره، فجاءت منه الخلال الحسنة، والخصال السنية، وصارت فيه الأوامر الأزلية صدقا في الطلب، وقوة في الجلب، وغدت فيه ‏المشيئة زهدا في هين الرغبات، ورخيص الشهوات، وغنما لما انطوت عليه المتع الجميلة من لذات طيبات .فلا غرابة إذا كانت العزلة طلبا ‏لمنبع الوحدة، وبحثا عن معين الحضرة، لأنها لحظة مزروعة في كلأ الوقت المخصوص، وعشب الزمن المنصوص، وفرصة موضوعة لقبول ‏فيض العلم، ورفض قحط الحلم، لأن صفاء النظر لا يتهيأ إلا لذي فطنة وافرة، ومعرفة خالصة، ولا يتيسر إلا لمن سبح في يم الحقيقة، ‏وغاص في جمال الطبيعة، وذاب في جمال الكون بعين الرعاية، وامتزج بجود الوجود في فضل العناية. ‏
لكن ما يستشكل هنا، أن الوقت كثر استعماله في الماضي كما ذكر صاحب المحكم، وقل وروده في مجهول المستقبل القادم. والصوفي لا ‏ينظر إلى ما مضى من المنى، وإلى ما سيأتي من الدُّنى، بل غايته في قنص جنوح لحظته بحذر، وإمعان، هو تحصيل ما بين يديه من ‏مقصور الزمن بإتقان، وتدبيره بما تقتضيه الإرادة الأزلية في تدبير الأكوان بإذعان. ومن هنا، فإن الصوفية نظروا إلى اللفظ بدلالته ‏التكليفية، لا إلى ما يقتضيه أصله اللغوي في الدلالة الوضعية، لأن القصد عندهم عند إرادة التحديد، هو ما يتقوم به اللازم في الفعل ‏المحصور بزمنه من حيث الوجود. فلذا نظروا إلى الموسوم بالنهاية، ولم يعبأوا بالمرسوم في البداية، إذ بدايته هي مطلق الزمن بلا ‏التفات، ونهايته ما يصير حدا للشيء المفروض في الميقات.‏
‏ وهكذا، فإن الوقت الصوفي فيما يطويه من يقين، ليس هو ما يفيد عنده المقدار أو الكمية من الزمن، لأنه إذا استعمل بهذا المعنى ‏المقصودِ عند التقييد حدُّه، دل مثل الميقات على مجرد الزمان والمكان كما روي عن سيبويه، بل هو ما وجب كسبه في الآن، وما لزم فعله ‏في اللحظة والحين، لأنه محضن الفعل، ومحله، وظرفه، وحيزه، ومقداره، وقيمته مما يحتويه من سعي حثيث تحصل به براءة الذمة في قدرته، ‏وترعى بها حرمة الأشياء في إرادته. ومكانته بين الأوقات المختلفة الأعراض، هي ما كان نتيجة له في الأغراض. ومن هنا، فإن الصوفي ‏الحريص على وقته، لأنه ملزم بحسن السيرة معه، يرى ما منحه القدر من عمر سببا يتحقق به لطف الاتصال بالعالم الإلهي، على اعتباره ‏القوة النافذة في كل شيء موجود بالأمر الأزلي. وذلك ما يمنح الفعل قوة تمنعه من الضياع، لأنه الشيء الدال على اغتنام الوقت بسني ‏الطباع، وبهي الأوضاع. إذ الأخلاق المحمودة في تعلقها بالمادي، والروحي، تبين مدى الالتئام مع نواميس الزمن الطبعي، واالكوني، ‏وتوضح مقدار التحام العشق بعالم الله الذي يعبد بأسمائه وصفاته الذاتية. ‏
ولذا اختلفت مراتب الصوفية في المقاصد، والمطالب، وتعددت مسالك المدارس، والمشارب، وتفرعت طرق التربية، وتنوعت وسائل ‏التحلية، وأحدثت معالم السير إلى المعرفة، والسلوك إلى الحقيقة، وأقيمت الحضرات المختلفة لجذب الأرواح إلى كمالها، ودفع الأشواق إلى ‏جمالها. إلا أن أعسر الناس طريقا في التسليك لكسب المنال، هو ذلك المستغرق في المعنى الموسوم بالخيال. فهو لم يستهد بالتجربة الأولى ‏في الهداية، ولا بمنطق العقل في كسب روح المناعة، ولا بمعلوم الضرورة في العادة المرعية بالحماية. فهو إذا اهتدى إلى شيء من تلك ‏المعاني حيره، وعصر فيه مهجته، وصهر فيه لغته. وإذا همس بما في وجدانه،ونطق بما في جونه، أتعب لب غيره بغموضه، وأذهل عينه ‏بغرابته. وربما إن لم ينل باب التأويل فيما عُمي عليه، ولم يدرك كنهه، أدانه بحكمه، وأعان على حزنه، وأفسد عليه زمنه. وإذ ذاك يضيع ‏المعنى بين الأصحاب، فيصير التباغض سما زعافا يسقى بين المناكب، ونارا موقدة تشتعل بين المجالب. ومن ثم، يصير الرفيق مفارقا في ‏المعنى، والعدو معاديا للمبنى. لاسيما إذا انكشف شيء من السر لأحدهما دون الآخر، فأخبر حيث يجب التبيين بلا إضمار، فلم يأت منه ‏اللفظ دالا بمعناه على الكلام المحكى، ولا العبارة واضحة المعنى في الفحوى. وهناك، تخلو الأماكن من زمام الوئام، ويحدث الخلاف بين ‏الأعيان بلا التئام. ‏
إن استجلاء هذا العمق في المدى البعيد، هو المعين لنا على ترتيب زاوية الذات بالتفريد، قبل أن تنتظم في الواقع بالتجريد، لأن تحقيق ‏المغزى في معاني التصوف الجامعة، وتحصيل الجدوى في السير نحو الحقيقة اللامعة، لا يصير وعيا كاملا، إلا إذا ميزنا بين ما يكون به ‏الصوفي ذاتا، وعينا، وبين ما يكون به آنا، وحينا، أو بين ما يكون به صورة ظاهرية، وبين ما يكون به حقيقة باطنية، لأن اختلاف ‏النظر إلى حد المعنى المقصود من الكلام بالمجاز، أو بالحقيقة، هو الذي يبني الخلاف في إدراك الأحكام العصية، والأفعال الشقية. إذ ‏التطرف لا يأتي إلا من صميم الذوات، ولا ينشأ إلا بين أحضان التشدد في الدلالات. ومن هنا، فإن عدم التمييز لما تتحقق به المناطات، ‏هو الذي يقطع حبال الوصل بين العبارات، فتغدو الجمل حكما جائرا، ورأيا ظالما، وهي لا تفضل سواها إلا إذا تضمنها خيط الكليات، ولا ‏تكون محل النظر إلا إذا التأمت فيها العبارات، لأنها بدون سياقها، لن تكون بمعناها، إذ هو الذي يمنحها حظ الوجود، وهو الذي ‏يمدها بالخلود، ولولا ما في ذلك من اختصاص المكان بالخبر، لقلنا بوجود المعنى في كل الأنظار التي استوعبت الظاهرة الروحية في سائر ‏البشر، لأنها تحتوي على جل المعاني النازفة من تضارب الأفكار، وإن اختلفت في قوة أدلتها، وحدة براهينها، إذ منتهى النظر في شدة ‏الجهد المقهور، هو هذا الطين الذي نفخت فيه الروح بالقدر المقدور، فكان منه ذلك السر القابل للمعنى المسطور، إذ هو هذا الإنسان ‏الذي تغشاه صروف الزمان الباهر، والمكان الكاسر. ‏
وإذا قلنا إن الصوفي هو ابن وقته، فقد صح القول بهذا الاعتبار في تجربته، لأنه يقوم على أثر الأمر الإلهي عليه، ويقف على مقتضى ‏المشيئة التي تحصر القدرة عن إحداث الإرادة فيه. وإذ ذاك، فما هو قائم به المراد فيه حقيقة، هو السير بشغف إلى رحاب المعاني ‏العلوية، والعروج بشوق إلى قباب الأسرار القدسية، وإن تفرعت الحقيقة إلى فروع في النظام الكلي للطريقة الصوفية، وتعددت السبل ‏في الكشف عن مسالك المعارف الحقانية. إذ اختيار سلم واحد في الصعود إلى دوالي الحقائق، والطلوع إلى عوالي الدقائق، لا يوافي ‏المقام حقه، ولا يمنحه قوته، وهو بعيد الشأو في الهمة، ومتنوع الطرق في الذمة، لأن الوصول إلى هذا السر الكائن فينا بحكم الأصالة ‏المتجذرة، هو الغاية التي نجهر بها حين نلهج بلغات مختلفة، ونصرخ بنداءات متألمة. وسواء فينا من سافر بجناح صقر، أو من حلق ‏بحفيف نسر، فكلهم في اللحظ أمثال، وفي النظر أبدال. لكن لو نزلنا عن هذا الرأي للاختيار، لكي نوجه السؤال في مسار آخر ‏للاختبار، وبنينا منطق القضية على أمر هام يستوعب كل تفاصيل الالتزامات الذاتية، والمسؤوليات الجماعية، وقلنا: كيف يكون الصوفي ‏كائنا يمشي بين الديار بأحاسيسه البشرية، وعلاقاته الإنسانية، ويسري عليه ما يزفر به غيره من غصص الأوجاع، وعضاض الأوضاع، ‏ويغريه ما يعشقه سو اه من نطق الديار بألحان الوئام، وأنغام السلام، ولكنه قد تجاوز مراحل عديدة، وتباعد بمسافات طويلة، وتناءى ‏عن كثير من أحلامه الزائفة، وآماله الزائلة، لعله يمرع بين بساتين الحقيقة القينية، وواحات المعاني الإيمانية.؟ ‏
‏ لو استنطقنا عقل القضية بهذا السؤال المفجر للدهشة، لكنا أقرب إلى درك ملامح السلوك الصوفي في الحقيقة، لأنه إما فعل باطني ‏بضرورة الفطرة، وإما عمل ظاهري بواجب الجبلة، إذ لا يعيش بين عوالمه الباطنية إلا صيرورة حدوثه بين روابطه الخارجية، وما هو ‏متعقل به في نظرته الروحية إلى الأشياء الموضوعية، ليس إلا حدوده العقلية التي تفصل بين رسوم الحقائق عنده، ونزوعه الوجداني إلى ‏عالم مثله المكنون في أمله. وهنا تلتوي مسالك المغاني، لكي تنطوي على أسرار المعاني. فأحيانا تكون اعتدال ذات في واضح السيرة، ‏وأحيانا تكون انحراف قصد عن لاحب الشرعة، لكن الذي يميز بين النظرين في التجربة، ويعرف كل واحد منا بملامحه القوية، هو مدى ‏عمقنا في استبراء كنه الحقيقة. ومن هنا، فإن قولنا: الصوفي ابن وقته، لا يعني سوى أنه يقبض على الأشياء في قفص حالها، ويضم ‏الحقائق في حدود زمنها ، لأنه يصنع من التناقض معنى مركبا، يمتزج فيه ما كانت روحه فوحا ساريا، أو ما صارت مادته فعلا جاريا. ‏
ولذا يكون الصوفي ابن وقته، لأنه يعايش حاضره في وجوده، لا في عدمه، ويساكن غامض واقعه في هدوئه، لا في صخبه، لأن ما هو ‏موجود فيه من معانٍ، قد وجد في غيره بلا توان، فلا استقلال له بشأنه، ولا استفراد له بأمره. وبناء على هذا، يكون التصوف وعيا ‏سابغا، وعملا سائغا، لأنه نمط في التفكير، وسياق في التدبير، أو يكون تجربة ينفصل فيها الحد البشري عن المطلق الإلهي، وينعزل فيها ‏بارز الدنيوي عن ضامر الأزلي، وينزاح فيها المعنى إلى مساق واحد، ومسار محدد، وهو الانجذاب نحو سمو الروح بمعرفة ماهية ‏الذات وهويتها، ومدارات الأفعال وعليتها، ومقامات الأخلاق ومراتبها، وضرورات الغايات وواجباتها.‏
وإذا كان وقت الصوفي مترعا بالعشق لفيوضات السماء، فإنه في الخطوة نفسها إدراك للحظة التي تسمو فيها الذات عن علائق الأرض ‏الغبراء، وإحساس بالإرادة التي تتجاوز المراحل، لكي تتفاعل مع حركة التاريخ بأجمل ما تحمله من منازل، وتفتعل مع قيم الحضارة بأكمل ما ‏تقطعه من مراحل، وتلتحم مع معاني الإنسانية بأعلى ما كمن فيها من مشاتل. وذلك ما يصيرها في حواسها تجربة واقعية، وإن كانت في ‏عمق قلبها مثالية، لأنها تحترم خاصية الزمان، والمكان، ثم تتخلص من نسبيتهما بما هو مطلوبٌ في الحال، والآن، لكي تتصل براهن السياق ‏بداية، وتنتهي بحتمية الانفصال عن لازمه نهاية. إذ هي ما ينبذ الانقطاع في حقيقة الزمن الدائم، وما يتدفق من معان في العلم القائم. ‏وعلى هذا تكون تجربة عرفانية حية تكسر الأطواق، وتخرق الآفاق، لكي ترتحل على صهوة البراق، وترتجل على فراش الإيوان، وتنتشي ‏في جمال الديوان، وتنبعث صحوتها في عشق المنان. ‏
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا