الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في التناقض... والحالة المصرية...

حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)

2016 / 12 / 12
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


كل شيء في الحياة يقوم على التناقض؛ أي أن كل شيء يحتوي على الشيء ونقيضه، و الأمثلة على ذلك كثيرة من مختلف الجوانب في الحياة. هكذا قال الزعيم الصيني الراحل "ماو تسي تونج" في كتابه "في التناقض" مقدمًا شرحًا وافيًا لمسألة التناقض انطلاقًا من أفكار "كارل ماركس" و"فريدريك آنجلز" وشروحات "فلاديمير لينين" و"جوزيف ستالين" للفكرة.
ويقول "ماو" في تناوله لمسألة التناقض إن كل شيء يستطيع الاستمرار مع وجود النقيضين في داخله، طالما كان التناقض بينهما بسيطًا. ولكن مع مرور الوقت، يتزايد التناقض بين هذين النقيضين. وعندما يصل إلى درجة حادة، يحدث الانفجار، وينتهي التناقض، ويترتب وضع جديد . ولكن هذا الوضع الجديد يحتوي في طياته على تناقض جديد... وهكذا.
لهذه الفكرة حجيتها ومنطقيتها؛ لأننا نرى في الكائن الحي على سبيل المثال الموت والحياة؛ فهو ينمو ولكن يحمل في طيات نموه بذور فنائه. كما أن الشاعر العربي قال إن الأشياء بضدها تتميز. كذلك فإنها موجودة أيضًا في الفكر الليبرالي بخاصة لدى المحافظين الجدد في الولايات المتحدة تحت مسمى "الفوضى البناءة" بإحداث الفوضى وترك الأمور تأخذ مساراتها التلقائية حتى يترتب وضع جديد، ولكن المشكلة هي أن تطبيق هذه "الفوضى البناءة" كان يرسم مسارات محددة لتأخذها الأمور، ولم يكن يتركها في مسارات تلقائية. كما أن فكر الجماعات المسلحة ينطوي على ما يقارب هذه الفكرة وإن كان يسير في مرحلة تالية وهي مرحلة المسارات؛ حيث يقول أبو بكر الناجي أحد منظري الجماعات المسلحة في كتابه "إدارة التوحش" إن الغرض هو العمل على ترويض الوضع القائم في البلدان التي تحكمها أنظمة متوحشة؛ بحيث يحدث التدخل في الشقوق القائمة داخل هذه الدول والعمل على إشاعة حالة من الفوضى تسمح للتنظيمات المسلحة بالدخول فيها والإمساك بزمام الأمور فيها.
وفي تقديري إن من بين مبررات حجيتها هو انطباقها الكامل على الحالة المصرية، وبصفة خاصة في المرحلة الحالية. لكن... كيف هذا الانطباق؟!
سنحاول في الأسطر التالية إلقاء الضوء على الحالة المصرية ومفاصل التناقض فيها، والقوى اللاعبة في المشهد السياسي المصري ومدى اتصالها بنقاط التناقض المفترضة هذه، والأسئلة التي تفرضها هذه التناقضات.

الحالة المعيشية... تناقض مستمر...
تمثل الحالة المعيشية للمجتمع المصري في مجمله واحدة من أبرز رموز التناقض المصرية وأقدمها ظهورًا على الساحة؛ فالواقع المعيشي المصري يتسم في الفترة الحالية بالتفاوت الكاسح بحيث يكاد ينقسم إلى طبقتين فقط؛ الأكثر ثراءً، والأكثر فقرًا مع انسحاق الطبقة الوسطى بين هاتين الطبقتين الرئيسيتين ثقيلتي الوطء على نفس الألواح المكونة للمجتمع المصري.
فبعد القرارات الاقتصادية الأخيرة الممثلة في رفع أسعار الوقود وتحرير سعر صرف الجنيه المصري، ارتفعت الأسعار بشكل مبالغ فيه فزادت طبقة رجال الأعمال في مجملها ثراءً بينما ازدادت الشرائح الفقيرة فقرًا، وانضمت شرائح من الطبقة المسحوقة إلى الطبقات الأكثر فقرًا.
هذا التناقض مستمر، وقائم، ولا أفق لانتهائه بشكل إيجابي لمصلحة المجتمع. نقول إنه لا أفق لانتهائه بشكل إيجابي، ولكن الأفق مفتوح أمام انتهائه بشكل سلبي انفجاري يعيد ترتيب الأمور بشكل مختلف تمامًا. كيف ذلك؟! يمكن القول بكل راحة ضمير أن هناك من لا يريد للمجتمع المصري — ولا أقول للدولة المصرية فقط — الاستقرار؛ فاتجهت المحاولات للعبث بالوضع الاقتصادي المأزوم من الأساس لدفعه نحو حافة الانفجار بحيث يتأسس على واقع جديد، والواقع الجديد لن يكون واقعًا تلقائيًّا بل سيكون واقعًا مرسومًا مخططًا وضع التصور له تلك الأطراف التي دفعت بالأمور إلى الانفجار.
هل نقول إن مصر مستهدفة وكل هذه التعبيرات البلاغية السائدة في وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من النظام؟! نعم، نقولها وإن كان المقصد ليس هو نفسه. هناك محاولات مقصودة للوصول بالتناقض المعيشي في مصر إلى نهايته؛ بحيث ينفجر وتدخل البلاد في حالة من الفوضى، مع إطالة أمد الفترة الفوضوية مع رسم شكل معين تستقر عليه الأمر بما يحقق مصالح تلك الأطراف.


الجانب الطائفي... تناقض خافت حساس
يمكن القول إن المجتمع المصري لا يعاني من عقدة نقص فيما يتعلق بالطوائف؛ فالكل لديه مصري، والكل لديه مؤمن بالله، ولكن على طريقته الخاصة. هذه الفكرة ليست غريبة، ولا مثالية، ولكنها موجودة بالفعل... مع استثناءات. بدأت هذه الاستثناءات في الظهور على يد الاستعمار البريطاني الذي أدرك أن المصري معتز بدينه؛ فإذا ما لعب على هذا الوتر، انتشرت النغمة بسرعة إلى وجدان المصري، وبدأ يسير على إيقاعها.
ولكن الأمور لم تسر وفق ما خطط الاستعمار؛ لأن فكرة التدين السائدة في نفوس المصريين فكرة حقيقية. وإذا كان المتدين أصيلًا في تدينه، كان من الصعب دفعه إلى تبني رؤى عنصرية؛ لأن العنصرية تتناقض مع أبسط مفاهيم التدين الحقيقي، وليس التدين الزائف.
كذلك كانت ظهور بعض الأفكار في أدبيات تيارات الإسلام السياسي وفي مقدمتها فكرة استحلال المسيحيين وفي مقدمتهم الأقباط في مصر باعتبارهم كفارًا من الحلال استباحتهم إن هم امتنعوا عن أداء الجزية أو "دعَّموا الطواغيت" في إشارة إلى النظم العلمانية والملكية الحاكمة في العالم العربي. وفي ملاحظة جانبية، أشير إلى أنه من الغريب أن اليهود ظلوا بمنأى عن فكرة الاستحلال علمًا بأن اليهود متواجدون في مصر وتونس والمغرب. ملاحظة جديرة بالانتباه، ولا أقصد بها بطبيعة الحال تحريضًا على اليهود، ولكنها ملاحظة!
وفي المقابل ظهرت فئة أقباط المهجر التي تبنتها الولايات المتحدة بزعم محاولة إثارة القضية القبطية في العالم الغربي، والحصول على دعم من القوى الغربية لحماية الأقلية القبطية المستضعفة في مصر من وحش الجماعات المسلحة. وتلقفت الولايات المتحدة هذه الفئة وباتت الطرف الآخر في الصراع الديني المفترض نشوبه في مصر.
لا نقول إن الأمور هادئة في مصر، وإنه لا توجد أية مشكلة بين المسلمين والأقباط؛ فالمشكلات تتواجد، لما كان الجهل والفقر والمرض متواجدًا؛ أي أنها مشكلة من بين مشكلات متعددة يعانيها المجتمع المصري. فالمصري المسلم قد يعتدي على جاره المسلم بسبب سوء فهم، وكذلك قد يعتدي على جاره المسيحي نتيجة لإيغار الصدور. بالطبع الأمور ليست بهذا الابتذال؛ لأن هناك جهدًا ممنهجا للعب على هذا التناقض للوصول به إلى مرحلة الانفجار. وهنا أستعير آخر فقرة في النقطة السابقة بنصها مع تعديل ليلائم النقطة الجديدة:
هل نقول إن مصر مستهدفة وكل هذه التعبيرات البلاغية السائدة في وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من النظام؟! نعم، نقولها وإن كان المقصد ليس هو نفسه. هناك محاولات مقصودة للوصول بالتناقض الطائفي في مصر إلى نهايته؛ بحيث ينفجر وتدخل البلاد في حالة من الفوضى، مع إطالة أمد الفترة الفوضوية مع رسم شكل معين تستقر عليه الأمر بما يحقق مصالح تلك الأطراف.

الحالة السياسية... تناقض مستحدث خطير
تمر الحالة السياسية المصرية بحالة من التناقض الواضح للغاية ما بين نظام حاكم جاء بانتخابات تعددية، وبين معارضة ترفض هذه الانتخابات وتراها جرت في أجواء من القمع أفقدها صفة التعددية فعليًّا. هذا التناقض مراد له أن يستمر ويتفاقم مع ضرب أية محاولات لتحقيق المصالحة وإنهاء هذا التناقض بالطريقة الإيجابية التي تعود بالنفع على المجتمع.
وللمعلومية، فإن هذا التناقض السياسي مستحدث في مصر؛ لأن مصر لم تعرف الانتخابات التعددية إلا بعد ثورة 25 يناير؛ حيث ظلت طيلة الفترة السابقة عليها في حكم الرئيس الأب الذي لا يتخلى عن الحكم ويحظى بكافة الأغطية اللازمة لبقائه في الحكم؛ فقد حظي الرئيس المخلوع "محمد حسني مبارك" على الغطاء الأخلاقي بتحميله المسئولية عن الضربة الجوية في حرب رمضان/السادي من أكتوبر، والتي كان لها أثر كبير في تحقيق الانتصار. وكان هناك الغطاء الديني من الجماعات السلفية والصوفية وكذلك المسلحة بعد "الاستتابة" التي تعرض لها أفرادها في السجون على يد المفكرين وقوات الأمن على حدٍ سواء. وحظي أيضًا النظام المخلوع بالغطاء السياسي من المعارضة الواهية من القوى الليبرالية واليسارية إلى جانب المعارضة الأليفة لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت ترى في النظام الحاكم عدوًا لدودًا بقاؤها مرتبط بارتكابه الأخطاء، مع الإدراك الكامل إلى عدم قدرتها على تولي شئون الحكم، قبل أن يثمل قادة الجماعة من نشوة ما جرى في ثورة يناير ويفقدوا صوابهم، ويقرروا أنهم قادرون على إدارة البلاد بمفردهم، وهو الرهان الذي خاب في حراك 30 يونيو.
إذن، التناقض الحاصل في الساحة السياسية مستحدث، ولكنه خطير للغاية؛ لعدة أسباب من بينها أنه جديد على المجتمع المصري الذي اعتاد الاستقرار ورأى فيه ضمانة لاستمرار حصوله على قوت يومه ومستقبله كذلك باعتبار المجتمع المصري مجتمعًا زراعيًّا تضمن السلطة الحاكمة مواعيد الري وتنظمها وتشتري منه المحصول، إلى جانب الجهاز الإداري للدولة الذي لا تخلو أية أسرة مصرية من وجود عنصر فاعل فيها ضمن أفراد هذا الكيان الأخطبوطي الهائل.
ومن بين أسباب خطورة هذا التناقض أنه يحدث في مخ الدولة بحيث يكون الخطأ فيه قاتل ويؤدي إلى هلاك الدولة مع استمرار المجتمع في حالة من التناحر والتطاحن بين فئاته بغرض تأسيس واقع جديد. ومرة أخرى، أستعير تلك الفقرة مع تغيير ما يلزم.
هل نقول إن مصر مستهدفة وكل هذه التعبيرات البلاغية السائدة في وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من النظام؟! نعم، نقولها وإن كان المقصد ليس هو نفسه. هناك محاولات مقصودة للوصول بالصراع السياسي في مصر إلى نهايته؛ بحيث ينفجر وتدخل البلاد في حالة من الفوضى، مع إطالة أمد الفترة الفوضوية مع رسم شكل معين تستقر عليه الأمر بما يحقق مصالح تلك الأطراف.

ماذا إذن؟!
هذه كانت أبرز التناقضات في المشهد المصري الحالي، وكل تناقض منها له الأداة التي يمكن من خلالها تعميقه ودفعه نحو الانفجار؛ فالحالة المعيشية يمكن تفجيرها من خلال التقييد الكامل للاقتصاد المصري بإرادة المؤسسات الدولية، وهي المؤسسات غير المستقلة إطلاقًا. كما أن الجانب الطائفي يمكن توتيره من خلال العمليات الإرهابية التي تضرب في المكون القبطي من المجتمع المصري والأداة هنا هي الجماعات المسلحة. والجانب السياسي ملتهب من الأساس وغير واضح المعالم، ويمكن القول إن رأس الحربة فيه هو جماعة الإخوان المسلمين وبعض التيارات الليبرالية التي تُستخدم بعلمها أو بدون علمها في إثارة التوتر في المشهد السياسي المصري بهدف تفجيره مع تدعيم النظام القائم وممارساته الديكتاتورية بغرض إيجاد المبرر أمام القوى المعارضة للارتماء في أحضان الخارج.
إذن يمكن القول إن المخطط هو استغلال حالات التناقض الرئيسية القائمة في المجتمع المصري بهدف دفعه نحو حالة من الفوضى وفق مفهوم "الفوضى البناءة" مع استخدام العديد من الأدوات وفقا للدور المخطط لكل أداة والمجال الذي سوف تُستخدم فيه؛ فالمؤسسات الاقتصادية الدولية دورها على سبيل المثال في تفجير التناقض المعيشي، بينما الجماعات المسلحة يأتي دورها في إثارة حالة الفوضى العامة دخولًا من الجانب الطائفي، مع إطالة أمدها عمومًا بينما يأتي دور جماعات المعارضة المصرية والنظام القائم في تفجير المشهد السياسي وهو ما سيكون في النهاية ليمثل ضربة قاضية للدولة المصرية.
السؤال هنا: هل يتحمل جسم المجتمع المصري كل هذه الضربات؟! إلى أي مدى سيستطيع المجتمع المصري تحمل تلك التناقضات ومحاولة تفجيرها؟ هل في المجتمع المصري من الأدوات ما يكفي لنزع فتيل تلك التناقضات وتسويتها بطريقة إيجابية تعود بالنفع عليه في الوضع الجديد الذي سيترتب بعد تسويتها؟!
الأسئلة كثيرة ومتعددة، والإجابات عنها غير يقينية ولا قطعية، ولكن الأمر اليقيني هو أن المجتمع المصري بكل مكوناته ونظمه السياسية والاقتصادية لا يزال صامدًا، وقدم في الماضي أداءً برهن فيه على أنه يستطيع الصمود. المجتمع المصري مطالب حاليًا بتكرار هذا الأداء لمواجهة التحديات الراهنة حتى لا يفرض على نفسه الدخول في مواجهة أكثر صعوبة من الحالية، وهي مواجهة معركة وجود وبقاء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم


.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا




.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ


.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب




.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام