الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخير والشر من منظور علماني

صليبا جبرا طويل

2016 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



كم من خير كان هدفه شر، وكم من شر ظهر بمظهر الخير.
ما لم نهذب الشر فينا، ونُغلب الخير ستنهار قيمنا الإنسانية.


في أعماق كل انسان، منذ فجر التاريخ، قوتان ابديتان تلازمانه طوال حياته، وتسيطران على أفكاره، واعماله، واقواله هما الخير والشر. لو تخيلنا عالما خاليا من الشر سيكون عالما مملا لا شعور ولا احاسيس بشرية فيه، ولو كان خاليا من الخير سيكون عالما مملا أيضا لا شعور ولا احاسيس بشرية فيه. فمن لا يختبر الشر لا يعرف قيمة واهمية الخير، ومن لا يختبر الخير لا يعرف دناءة الشر. لذلك يتأرجح الانسان في اعماقه بين الخير والشر. ما يُغلبه يصبح سيدا بلا منازع. ان غلب الشر تنعدم المحبة وتموت العدالة والحرية والسلام بين البشر. وان غلب الخير تتفتح ازهار المحبة لتزهر عدالة وحرية وسلاما بين البشر.

سؤالان ازليان، يترددان في كل العصور والحضارات الإنسانية، كيف دخل الشر الى العالم؟ وكيف دخل الخير الى العالم؟ لا وجود لإجابة شافية تفسر هذا السر الفلسفي، الوجودي، العميق الذي تدور حوله حياة ومستقبل الجنس البشري. لم نتلقَ سوى بعض إجابات، واجتهادات وصلت الينا من خلال الفلاسفة، والاساطير، والصور الرمزية في الكتب الدينية، التي ظهرت منذ فجر بدء الحياة على الأرض لتنسجم مع تفكير ومعرفة اهل زمان ومكان كل حقبة تاريخية منها. اجتهادات جاءت من كل الشعوب المنتشرة في قارات العالم. كما ان العلم حتى هذه اللحظة بتطوره لم يقدم لنا تفسيرا او دليلا علميا على كيفية وصولهما الينا. نستنتج اذن ان الحياة والكون كلاهما لا بد وان قاما على الاضداد، الشيء مقابل نقيضه، مثال: الحياة يقابلها الموت، السعادة يقابلها الحزن، المحبة يقابلها الكراهية، الصحة يقابلها المرض، الليل يقابله النهار الخ...

الخير والشر مفهومان لا ماديان، يتسببان بالكثير من المصائب المادية والمعنوية، ولقيمهما اثار نفسية عميقة على الانسان وعلى البشرية. يلد الانسان ومخزونه الفكري فارغ - لا يحتوي شيئا -، عقله يحمل غريزة البقاء، حتى هذه الغريزة ما لم تجد من يرعاها لدى البشر كالأبوين وبشكل خاص غريزة الامومة – أعدها مصدر امان لاستمرار الجنس البشري- فلا قوة للرضيع ان يواجه الحياة لضعفه، خلال فترة نموه الجسدي والعقلي يتعلم قيم ومفاهيم يطرحها مجتمعه، ليحملها بوعيه ويبني عليها قيم الخير والشر من منظوره الخاص ان استطاع الى ذلك سبيلا، نلمس لاحقا أثرهما في تصرفه وسلوكه. للثقافة أيضا دور في تهذيب هذه المفاهيم. فمن يعش في عالم ضيق في عالمه الخاص، دون إدراك وجود حضارات أخرى واستيعاب دورها الإبداعي، من العسير أن ينسجم وعيه مع كل ما هو انساني عالمي، ولن يتمكن من احداث نقلة حضارية. سيكون الانحطاط سابقا لانهياره، والتطرف والعنف البربري مقدمة لسلوكه الشرير.

الأنظمة الاستبدادية شر، تدمير بيوت العبادة والسينما والمسرح وقتل من فيها شر، تهريب وزراعة المخدرات شر، صناعة أسلحة الدمار الشامل والمتاجرة بها شر، تدمير الطبيعة شر، تجويع الشعوب وترويعها شر، الفقر شر، التمييز العنصري شر، التعصب الديني شر، منع الحريات شر الخ... الخير يعنى المساواة والعدالة، والحرية. يعنى الاهتمام ومعالجة قضايا النساء والأطفال والمحرومين والفقراء. الخير يعني توزيع عادل لموارد الدولة بين المواطنين. يعني عدم احتقار الناس وتفضيلهم لانتمائهم الديني او السياسي او العرقي الخ.... يعني رفع الظلم عن المقهورين. يعني قضاء عادل. يعني تعليم جيد. الخير يعني محاربة العنصرية. ومحاربة كل ما يميز بين البشر الخ... فمن لا يجد هذا الخير في ذاته وفي مجتمعه ويبقى صامتا بالتأكيد يعيش في نفاق وشر أبديين. لن يتحقق الخير في غياب اهتمام، ورعاية، ومحبة الجنس البشري بعضهم لبعض، وللطبيعة التي عليها يقيمون. ما لم ندعم كل فكر إيجابي انساني بناء سيكون الشر سيد العالم، وسيفه مشرعا يهلك البشرية.

مصالح الدول العظمى وبشكل خاص المنتجة للسلاح والراعية للتطرف والإرهاب ترى الخير لها في تأجيج الصراع والحرب بين الشعوب في العالم من اجل زيادة دخلها المالي لخير شعوبها. اذن أولى واجبات البشرية هو توسيع مساحة الخير وتضيق مساحة الشر بين كل الدول الغنية منها والفقيرة، وزرع قيم الخير في الفرد والمجتمع من خلال نظام تربوي تعليمي سليم، ونبذ واقتلاع كل المسببات المدمرة التي تدعوا وتساند التمييز العنصري بكافة اشكاله، ونتخلص من فكرة تفوق امة على امة، او شعب على شعب، او عقيدة على عقيدة بين البشر.

الخير والشر كلاهما يدفع الشعور والاحاسيس والاعمال والافعال والاقوال عند الانسان صوب هدف معين من اجل غَلبة الخير في بعض الأحيان او الشر أحيانا أخرى، تدفعنا بقوة دوافعنا الإنسانية المرتبطة بالوجود البشري واستمرار الحياة على الأرض. فالتربية هي المسؤولة الكبرى عن تفوق أحدهما على الاخر. السياسة وبعض العقائد تبيح استخدام أحدهما او كلاهما من اجل نصرتها. بذلك تفوق أحدهما على الاخر. أيضا عدم البحث عن القيم في الذات والوعي الذي يشكل مبنى وجودنا بضمير صالح لا يمكننا من ان نخرج منتصرين على ذاتنا. لذلك يبقى الانسان متأرجحا ناصرا أحدهما على الاخر وفق معايير يحددها وعيه المجتمعي. إعادة تشكيل هذه القيم بين الناس ممكن في مجتمع علماني يتجه نحو العدالة والمساواة.

تجاربي في الحياة أكدت لي، بمجال لا يدعوا للشك ان كل الشر لا يحمله الأشرار فقط، وان كل الخير لا يحمله الاخيار فقط. لقد وجدت عند من يدعى الفضيلة والايمان من علمانيين ورجال دين شرورا مثل الإساءة والكذب والسرقة الخ... يجملون النجاسة بالقداسة. وبنفس الوقت يدافعون عن مبادئهم متسترين بثوب الايمان...لا ننسى ان لكل قاعدة شواذ، والشواذ لا يعمم. اذن المؤمن كالملحد يحمل في اعماقه الخير والشر. لذلك لا تربطوا الخير والشر بالإيمان او عدمه، مع ان الايمان كأخلاق يعزز الخير ويقدسه.

كيف يمكن إيقاف الشر ومنعه؟ ... الانسان يحمل بداخله بذور الخير والشر. فلا تكون الغلبة الا للذي يتم تغذيته أكثر. تميل البشرية الى ترجيح الخير على الشر ولكن مصالحها التي هي جزء من وجودها يحتم عليها فعل الشر. لا يقاوم الشر بالشر... مقاومة الشر لا تأتي الا بتغير نمط التفكير لدى الانسان، وعدم التلاعب بعواطفه وشعوره، وهذا أيضا لن يتم الا من خلال تربية سليمة منفتحة على كل الاختلافات في المجتمع الواحد. من العقل والقلب تخرج الأفعال الشريرة والخيرة، لتتظافر جهود الحكومات والمؤسسات الدينية والتربوية يشكل خاص، ولتضاعف العمل وترجح كفة الخير وتقلص كفة الشر الذي لا يمكن الغاءه لأنه جزء من الطبيعة الإنسانية تتحكم فيها الانانية لتحقيق منافع ذاتية حتى لو كان ذلك على حساب وسمعة وحياة الاخرين، ولكن يمكن الحد من اثاره وتقليلها ان كان سعينا صادقا لمحاربة الشر.

مهما استرسلنا في الكلام وتعمقنا في الفلسفة والايمان، فلا جدل ينفع ما لم نجعل الحديث عن الخير نبعا لحرية فكرنا الإنساني كي لا يتسلط الشر ويدمر انسانيتنا وحضاراتنا البشرية. فحرية الفكر ليست ثرثرة عقلية ذاتية انها نظام قائم على بناء معرفي مسبق. كل منا يستطيع ان يعتز بأفكاره، فالإنسان لا يحتاج الى شهادة جامعية كي يكون مفكرا، او تابعا لمؤسسة ما... التفكير مع الجرأة يمنحان الانسان القدرة على تغيير مجرى التاريخ من الحوادث الفظيعة التي يمكن ان تحل بشعب في اللحظة المناسبة في الزمن والمكان المناسبين. الهروب من تحقيق ذلك يعطل تقدم البشرية ويرخى الشر بظلاله على البشرية.

لا تقلقوا، لا تخافوا من التفكير، ناضلوا من اجل افكاركم، لا ترهبوا أحدا...هذا الشعور لا يتقبل الخسارة. الفكر يعنى الحياة والحيوية وبناء جسور الأمان بين البشر على أساس الخير العام للجميع. ابنوا دول الحرية والعدالة، ابنوا دولا علمانية، ابعدوا عن عقولكم فكرة إقامة دولة لله على الأرض، هكذا دولة لن يحكمها سوى بشر مثلنا – وليس الله سبحانه وتعالى- يحملون التناقضات التي نحملها، فليس بين البشر من يحمل الخير المطلق. فالله – العقل الكوني- المحبة لا يبحث عن حكم بل يبحث عن خلاص الجنس البشري من الشرور. الدول الدينية تسعى لان تكون دول يوتوبيا - دول مثاليه - دول من المستحيل اقامتها في عالم مليء بالمتناقضات. اجتهدوا في بناء الدول العلمانية، فهي أقرب الى واقع واستقرار المجتمعات البشرية. لا تستخدموا الدين لان قداسته وجوهره خير ومحبة وتسامح بين الانسان واخيه الانسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا