الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشهيدان

مازن كم الماز

2016 / 12 / 24
الادب والفن


كانت "الجبهة" بين غزة و إسرائيل أفضل مكان للقائهما , أولا لأنها قريبة من منزليهما , و ثانيا لأنها مليئة بالحفر و الخنادق التي كانت المكان الوحيد الممكن للقاءاتهما .. كان من المستحيل أن يتبادلا أكثر من بعض النظرات الخاطفة عندما يلتقيان في الشارع , كانت تجر أخاها الصغير بينما تبحث عيناها عنه , ما أن تراه حتى تحاول أن تفهمه موعد لقائهما القادم , بأي إشارة ممكنة , بعينيها , أصابعها , مشيتها , و أشياء أخرى لا تخطر على بال أحد سواهما .. كانت تعرف أنه سيذهب باكرا , جدا , لينتظرها هناك , ستمر أولا على "المجاهدين" أو "المرابطين" , و تقدم لهم الطعام و الشاي الذي أعدته هي و أمها , ثم تسير "عائدة" بهدوء و هي تتوقعه عند كل خطوة , كانت تعرف أنه هناك , يرهف سمعه ليتعرف على خطواتها , ينتظرها في حفرة ما , و أن يده ستظهر فجأة و تجذبها إلى داخل تلك الحفرة , و أنه سيحضنها بينما تردد له في كل مرة أنه لا يمكنها أن تتأخر .. أنه سيقبلها , و ستقبله ... لكن قبل أن تسكرها خمرة شفتيه أو عندما سيحاول رفع ثوبها أو عندما ستشعر بقرب انهيار دفاعاتها الأخيرة , كانت ستستجمع كل قواها لتبتعد عنه , و هي تقول له : يكفي , أو تأخرت , أو لننتظر إلى المرة القادمة .. كانت تعرف أنها لعبة خطرة , جدا .. أنها في يوم ما , قد يكون اليوم , ستعجز عن فعل ذلك , و ستكمل معه اللعبة حتى النهاية .. كلما فكرت بذلك ينتابها خوف عابر , سرعان ما يموت , ستقنع نفسها أن هذا لن يحدث , ستردد كل ما يمكنها من أسباب لتذهب إلى هناك مرة أخرى , بينما تحاول في سرها أن تتخيل يده على جسدها , و أن تتذكر , خفية , تلك الأحاسيس التي تستحوذ عليها و هي بين ذراعيه .. كانا أصغر من أن يعرفا أن الأوامر قد صدرت للدبابات كي تتقدم نحو الحفرة التي سيلتقيان فيها هذا الصباح .. عندما كانت تفكر بالعيون التي تخشى أن تكتشف أمرها كانت تسير ببطء و تردد , تتلفت أحيانا و تنظر إلى السماء و كأنها تتفحص طريقها , و كلما تذكرته كانت تسرع في سيرها .. سلمت صرة الطعام للمجاهد الملتحي , كانت تنظر إليه لكنها لم تكن تراه أو تسمعه , كانت تفكر فقط بما سيحدث بعد قليل .. أدارت ظهرها بسرعة , حاولت أن تبدو متماسكة , ثم بدأت تبتعد .. مع كل خطوة كانت دقات قلبها تتسارع , أصبحت بعيدة بعض الشيء عن مكان المجاهدين الذي تركته قبل قليل .. إنها الآن تترقبه مع كل خطوة , تقترب من كل حفرة , تحاول ألا تنظر , لكن عيناها تبحثان عنه في كل مكان .. أين هو ؟ هل ذهبت أبعد مما يجب , هل عليها أن تعود قليلا , أن تذهب قليلا إلى اليسار أو اليمين ؟ مع كل خطوة كانت أفكارها تعذبها أكثر .. فجأة يلتقطها .. تسقط معه في الحفرة .. يحاول تقبيلها بينما تحاول أن تشتمه , كاد قلبها يتوقف من القلق و الخوف , لكن شفتاها سرعان ما تتوقفان عن أية محاولة للكلام أو التنفس , إلا عبر شفتيه .. في مكان ما في قلبها , أو جسدها , كانت تضحك و تفكر بخبث فتي : لعله يفعلها اليوم , لعلنا ... اليوم .. لا يمكن معرفة هل فاجأتهم الانفجارات أم لا .. يقال أن القذائف أو الصواريخ الحديثة تسير أسرع من الصوت , ما كان أجدادنا يصفوه بلمح البصر ... و في الحروب , و كذلك في القصص , لا يمكن لأحد أن يحدد بالضبط أي رصاصة أصابت من و أية قذيفة قتلت من , و أية قذيفة أو صاروخ , الخ , هي التي سقطت بجوارهما في تلك الحفرة .. هل كانت قذيفة ميركافا أم صاروخ قسام , أم ماذا ؟ ..... و لا يمكن لأحد أن يعرف أيضا هل سمحت لهما تلك القذيفة , أو ما لا نعرفه بالضبط , أن يشعرا بالألم لبعض الوقت أو أن يفهما ما كان يحدث أم أن كل شيء انتهى "بلمح البصر" .. الأكيد أنهما كانا تماما وسط الجحيم .. تناغمت أصوات قذائف الدبابات مع المدافع و الطائرات مع صواريخ المجاهدين و الرصاص الطائش في كل اتجاه في موسيقا جنائزية مرعبة , لا نعرف بالضبط هل سمعاها أم كم سمعاها .. هذه أشياء لن يعرفها إلا "رب العالمين" , لذلك من الأفضل ألا نتعب أنفسنا بالحديث عنها .. و لا شك أيضا أن المناظير الكثيرة التي كانت تراقب "ساحة المعركة" قد رصدتهما .. مع ذلك كان تحديد نوع "الهدف" الذي تمت إصابته أمرا صعبا على تلك العيون التي راقبت بصمت موتهما الصاخب .. تقول أهم قوانين الحرب , أية حرب , أن من ليس معنا فهو ضدنا , إنه عدو ... و لما كان من الواضح أنهما ليسا من حماس و لا من جيش الدفاع , فلا شك أن مجاهدي القسام و جنود جيش الدفاع قد افترضوا أنهم أصابوا عدوا "ما" عندما شاهدوا جثتيهما الممزقتين في تلك الحفرة - القبر .. و الأغلب أنهما قد ذكرا مرتين في نشرات الأخبار و البيانات العسكرية : مرة كجندي و جندية من جيش الدفاع و مرة أخرى كمجاهد و مجاهدة ( انتحارية على الأغلب ) من حماس .. و على الأرجح أن عائلتيهما لم تعرفا بالضبط ظروف "استشهادهما" أو زمان و مكان "اختفائهما" , و أنهما قد حصلا بالتالي على المأتم الخطأ , و أن موتهما قد أهدي لصالح "القضية" و أنهما "زفا عروسين" لفلسطين , أن آخر ما قد يخطر على بال أحد أن ما وجد في تلك الحفرة كان أشلاء حبهما الصغير الذي أخفوه بمهارة عن كل العيون .. لن يمكننا أيضا أن نعرف لأي مدى ابتعدت بهما أحلامها الصغيرة , و ما الذي حدث يومها بالضبط , و كم عرفا من متع هذه الحياة , قبل أن يتوقفا فجأة عن الحلم و الحياة إلى الأبد .. و الأهم , أننا لن نعرف أبدا من الذي انتصر على هذين الجسدين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو