الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القيامة الآن , أو نهاية العالم

مازن كم الماز

2017 / 1 / 2
الادب والفن


القيامة الآن , أو نهاية العالم


1
اقترب الشاب و هو يلف حزاما ناسفا حول جسده , كان الناس يبتعدون عنه , بعضهم كان يفر , بعضهم يصرخ فيه , لكن أحدا لم يجرؤ على الاقتراب منه .. كان يصرخ بهم قائلا "اتركوني , لا أريد إيذاءكم" .. "لقد جئت من أجله فقط" .. كان يقترب بهدوء و إصرار من الكعبة .. صرخ به البعض "يا كافر" .. "ستموت" .. ثم "ستموت كافرا" .. و صرخ أحدهم "الله أكبر" , لكن أحدا لم يجرؤ على الاقتراب منه .. وصل رجال الشرطة على الفور تقريبا لكن لم يكن معهم بنادق أو مسدسات , و بدا أن شيئا لن يوقفه و هو يقترب من الكعبة .. "اتركوني , لن أؤذيكم" .. "سأقتله هو فقط , هو فقط" , و هو يشير إلى الكعبة .. "ابتعدوا !! دعوه يدافع عن نفسه" .. "لا تتدخلوا بيننا" , هكذا قال لرجل شرطة أسمر شاب و طويل كان يراقبه بقلق , و للشاب الذي كان يشتمه بأعلى صوته و لذلك الذي صاح الله أكبر .. فجأة شاهدته حاجة مصرية , تملكها الخوف و رجته ألا يؤذيها .. قال لها و يده على الحزام الناسف "ابتعدي لو سمحت" .. انبطحت السيدة مع آخرين و أخريات , بعضهم ثبت نظره على الشاب و بعضهم أغمض عينيه و هو يتمتم .. في استوديوهات فضائيات عدة بدأت أصوات المذيعين ترتفع .. "الله أكبر" .. "يريدون إطفاء نور الله و الله تام نوره" .. و أشياء من هذا القبيل .. ارتفع الصراخ و ارتفعت الحرارة في تلك الاستوديوهات لدرجة أن بعض المذيعين طلبوا من العمال الذين كانوا يراقبون معهم صورة الرجل المتحركة ببطء على شاشة هائلة ليزيدوا من قوة أجهزة التبريد .. فجأة دوى صوت حاد جدا و قوي .. و فجأة سقط الرجل على الأرض و انبثق من رأسه خط أحمر صغير فوق رخام المسجد الحرام الأبيض .. بلغ التوتر ذروته في تلك الاستوديوهات : "الله أكبر" .. "الله قصم عمر هذا الكافر" .. "مليار مسلم يهتفون الآن : الله أكبر" .. وقفت الحاجة المصرية , بينما تقدم رجل الشرطة الشاب الأسمر من الجثة , و اقترب أيضا الرجل الذي هتف للتو "الله أكبر" .. فجأة تبادلوا النظرات فيما بينهم , و ألقوا نظرة أخيرة على الرجل النائم على الأرض , ثم نظروا جميعا في نفس اللحظة تقريبا إلى السماء , و ذهبوا دون أن ينبسوا بأي حرف .. و لم يصلوا ليلتها في المسجد الحرام

2
عاد ألبرت , الحلاق في القاعدة العسكرية الأمريكية في نيفادا إلى بيته .. الحر قائظ و هو متعب و يريد أن يستحم و ينام .. يقترب من عشيقه الرقيب جون , يحاول أن يحتضنه و أن يقبله على شفتيه .. لكن جون ينظر إليه بتعب و تردد .. أخيرا يتفاعل مع شفتي عشيقه و ينهي قبلتهما سريعا .. "سأستحم , ثم نتعشى" .. وضع الحلاق الوسيم حقيبة سوداء على الطاولة و بدأ ينظر إلى المرآة و يفكر : لم يعد يحبني كما كان .. و قال لجون : تفكر كثيرا هذه الأيام .. "قد أكون مكتئبا" , رد جون بلا مبالاة .. و عاد لينظر في لابتوبه .. يبتعد ألبرت عن المرآة و يقول لجون بتعب ممزوج بالشك : "لم تعد تحبني كما كنت" .. نظر إليه جون , و قال "أنا متعب فقط" .. ثم انتبه فجأة إلى الحقيبة التي على الطاولة .. ما هذه يا ألبرت ؟ .. لا أدري , لقد نسيها ترامب هذا الصباح في المكتب .. ثار فضول جون , و نهض ليستكشف الحقيبة .. بدت مهمة , كانت سوداء , ثقيلة و كبيرة بشكل غير معتاد , و عصية على الفتح أيضا .. كان على جون أن يتذكر تلك الألاعيب التي عرفها في الماضي عندما كان يفتح حقائب مشابهة .. أخيرا فتحت الحقيبة , و بدأ بقراءة الأوراق التي في داخلها .. بعد بعض الوقت , ضحك جون فجأة ضحكة صفراء و بدا وجهه سعيدا و مشرقا كأنه قد خرج للتو من البحر .. "إنها الشيفرة" .. "أية شيفرة ؟" .. "شيفرة الصواريخ النووية" .. "إذن دعني آخذها بسرعة إلى مكتب الجنرال" .. "كلا , أحتاجها" .. نهض ألبرت المتعب باتجاه جون , عانقه بتعب , و قال "حبيبي , سيطردوني , و ربما أسوأ أيضا .. علي أن أعيدها" .. أغلق جون الحقيبة و احتضنها , ثم ذهب معها و هو يعانقها بكلتا ذراعيه كأنها حبيبته , إلى غرفة النوم و فتح الخزانة و أخرج مسدسا و رصاصات , ثم مر بألبرت في طريقه إلى الخارج "سأعيدها أنا" .. و اختفى وراء الباب

3
عندما وصل جون إلى مقر القيادة في القاعدة العسكرية , قال للحراس "لدي شيء مهم جدا للجنرال" .. رد عليه الحارس النعسان "عد في وقت آخر , إنه يرتاح الآن" .. لكن جون لم يتزحزح : "شيء مهم جدا للجنرال" .. ثار الحارس , ربما بسبب الحر أو بسبب النعاس , "عد فيما بعد ... لا توجد أشياء مهمة هنا في نيفادا" .. "بلى" .. أشار جون إلى الحقيبة .. لسبب ما قرر الحارس ألا يجادله أكثر .. إذا كان الأمر تافها , كما يتوقع , فسيسجن جون و يبعد هو من هنا و ربما ذهب إلى ما وراء البحار أو إلى مكان ما قرب شاطئ أزرق يمكنه فيه أن يستحم و يلهو متى شاء و ستكون هناك شقراوات أيضا .. راقت له الفكرة فوقف , و توجه إلى غرفة الجنرال دون أن ينظر إلى جون .. أطل وجه الجنرال الهرم بعد دقائق .. كان واضحا أنه لم ينم , بل بدا نشيطا .. تفرس الجنرال في جون , نظر إليه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه .. سأل بشيء من الغضب "بحق الشيطان , ماذا هناك ؟" .. "سيدي ... أرجو أن أحادثك على انفراد" .. "انفراد ؟" تساءل الجنرال .. لم يكن قد انتبه بعد إلى الحقيبة السوداء الكبيرة التي كانت مع جون .. استدار و اختفى ببطء خلف الباب .. مضت دقيقتان أو أكثر ثم سمع جون و الحارس صراخه "تعال إلى هنا" .. كان جون قد زار مكتب الجنرال من قبل , و يعرفه تقريبا .. انتظر حتى جلس الجنرال , على كرسيه و أشعل سيجارة .. عندما نظر الجنرال باتجاه جون فوجئ بفوهة مسدس مصوبة نحوه مباشرة .. "ما هذا ؟" قال الجنرال بعفوية و دهشة .. "أريدك أن تقودني إلى مقر إطلاق الصواريخ" .. لم تكن كلمات جون مهذبة و لا مفهومة .. أحس الجنرال بخفة غريبة و قال "هل جننت ؟" .. "أرجو أن تفهمني جيدا , سنذهب معا إلى غرفة إطلاق الصواريخ" .. لوح جون بالمسدس في وجه الجنرال .. فجأة بدا كل شيء حقيقيا .. لكن ماذا يريد هذا الشيطان .. إطلاق صواريخ و مسدس و رقيب يخاطبه بلهجة آمرة ؟ ما عساه يكون .. ربما بدافع الفضول أكثر منه بدافع الخوف وقف الجنرال و مشى أمام جون , الذي أبقى المسدس باتجاهه دائما , و سار خلفه مباشرة .. لم يفهم الحارس ما شاهده : كان الجنرال يسير أولا يتبعه ذلك الرقيب الذي اعتقد أنه سكران و هو يحمل مسدسا .. أشار إليه جون ألا يتحرك , و هو يهز مسدسه .. ركب جون و الجنرال سيارة الجيب إلى مقر إطلاق الصواريخ .. وصلا إلى هناك دون أن يتبادلا اية كلمة .. فجأة عندما توقفت السيارة "هل أنت ثمل ؟" , قال الجنرال .. "أعطني المسدس و أعدك أني لن أعاقبك" .. نظر جون بحزم نحو الجنرال "سندخل دون أن تتفوه بكلمة" .. اختفت الابتسامة الساخرة عن وجه الجنرال , و شعر فجأة بانقباض في بطنه .. سار بهدوء و وراءه جون و بينهما المسدس .. أشار الجنرال للحراس أن يبتعدوا , و يفتحوا الأبواب .. أطاع الحراس قائدهم دون أن يفهموا ما الذي يحدث و من هذا الذي يسير خلف الجنرال و هو يحمل مسدسا .. استقل جون و الجنرال مصعدا مصفحا , و بدآ يهبطان إلى الأسفل , إلى مقر إطلاق الصواريخ النووية .. توقف المصعد , فتح الباب .. و أطلت امام جون ردهة طويلة بدت نصف مظلمة رغم إنارتها الكثيفة .. ربما كان ذلك لأن أعينهم اعتادت شمس المساء القوية في نيفادا أو لأنهما كانا على عمق كبير تحت الأرض أو بسبب طول الردهة و لون جدرانها القاتم .. أشار جون إلى الجنرال بأن يتقدم .. سار الجنرال و تبعه جون .. بعد دقائق وقف الاثنان أمام باب معدني هائل , يشبه أبواب الخزائن الكبرى في أضخم مصارف العالم .. أدخل الجنرال الرقم السري الخاص به , و فجأة فتح الباب المعدني ببطء ..

4
دخل الجنرال و جون القاعة الكبيرة .. كانت هناك شاشات صغيرة في كل مكان و شاشة كبيرة جدا على الحائط الذي وقفا أمامه .. وقف الضباط لتحية الجنرال .. قبل أن ينطق أحدهم بأية كلمة قفز جون إلى مكان يمكنه منه أن يرى الجنرال و جميع الموجودين .. لوح بالمسدس في وجوههم .. لم يفهم أحد ما الذي يجري .. فجأة صرخ جون بصوت مرتجف "اخرجوا جميعا" .. نظر ذلك الضابط إلى الجنرال متسائلا و حاول أن يعترض "لكن سيدي , لا يمكن .. لا يمكن" .. لم يرد الجنرال .. لكن جون كرر بحزم أقوى "اخرجوا !! الآن !!" ... بقي الضباط جالسين , نظروا إلى جنرالهم , لكن دون جدوى .. بتردد , أمام المسدس المصوب نحوهم و أمام نظرات الجنرال الحائرة وقفوا ثم خرجوا واحدا تلو الآخر من الباب المعدني الهائل .. نظر الجنرال إلى جون "و الآن ؟ هل ستوقف مسرحيتك البائسة ؟" .. أشار جون إلى الباب .. "أغلقه أولا" .. تقدم الجنرال نحو الباب و أدخل رقمه السري مرة أخرى فتحركت تلك الكتلة الضخمة من المعدن حتى أحكمت إغلاق الباب .. فجأة فتح جون الحقيبة السوداء .. لأول مرة انتبه الجنرال إلى تلك الحقيبة , و على الفور عرف ماذا تكون .. "ماذا تفعل بهذه الحقيبة ؟ من أين حصلت عليها ؟" .. رد جون و هو يحاول أن يبقي المسدس موجها نحو الجنرال و هو يجول بنظره بين الجنرال و الحقيبة "سندخل الشيفرة السرية" .. "ماذا ؟" .. "سندمر العالم" .. تجمد الجنرال لدقيقة , ثم انهار على أقرب كرسي ..

5
"لا شك أنك مجنون" .. لكنه قال بعد تفكير "لكنك مجنون يمكنه بالفعل تدمير العالم" .. قيد جون الجنرال بالكرسي الذي جلس عليه , ثم وضع مسدسه جانبا و بدأ يدخل الشيفرة السرية .. كان يعمل بهمة غريبة , لا تتناسب مع الكسل الذي يصيب الجميع عادة في نيفادا في مثل هذا الوقت المتأخر من اليوم .. كان الجنرال يعرف أن الشرطة العسكرية تحاصر البناء الآن لكنها لن تدخله , و ستنتظر من الجنرال أو جون أن يتحدث معهم ليفهموا ماذا يجري و ماذا يريد .. و للحظة تمنى ألا يلتزم عناصره بالأوامر و التعليمات و أن يقتحموا عليهما المكان و يقتلوا هذا الرقيب التافه الذي أفسد عليه مساءه .. لكنه كان يدرك أيضا جسامة الوضع الذي هو فيه .. لقد سمع جون و هو يهدد بتدمير العالم لكنه لم يفهم لماذا .. و فكر : إذا كان هذا الرقيب مجنونا فسنكون جميعا من الموتى , جميعا .. و مع اقتراب جون من إنهاء عمله لم يعد الجنرال يفكر كيف وصلت الشيفرة إلى جون , كان يهمه أن يفهم هذا الشخص الذي يريد , و يستطيع , تدمير العالم .. كانت يداه موثوقتين بقوة إلى الكرسي و كان جون يجلس بعيدا عنه و المسدس إلى جانبه , و نظرة واحدة على جسد جون الفتي تكفي لتؤكد أنه لا يملك أية فرصة في التغلب على خصمه .. عليه أن يفهمه أولا ثم سيحاول أن يقنعه بطريقة ما .. بقي الجنرال هادئا , رغم فداحة الموقف .. و عندما استدار جون نحوه , و حدق فيه بعينين تشعان بريقا غريبا , شعر الجنرال لأول مرة أنه ربما يتوقف عليه الآن في هذه اللحظة مصير الجنس البشري بأكمله .. و أخيرا بدأ جون بتحدث ..

6
"أعرف أنك ستستمع لي الآن , ليس أمامك أي خيار آخر" .. نظر جون في الفراغ ثم نظر مباشرة في عيني الجنرال "نعم" , "نعم" , "أريد أن أنهي العالم" .. بدا جون متوترا , وقف و أخذ يذهب جيئة و ذهابا .. ثم قال للجنرال "ستعرف كل شيء للتو" .. "ستسمعه كما سيسمعونه في واشنطن" .. رفع جون سماعة التلفون و قال للسنترال "واشنطن" .. "البنتاغون أو البيت الأبيض" .. فكر قليلا ثم قال "البيت الأبيض" .. "فورا" .. لم يمر وقت طويل حتى رن الهاتف مرة أخرى .. رفع جون السماعة , عرف من يحدثه على الطرف الآخر .. قال محتجا "أريد أن أحادث ترامب مباشرة" .. "يجب أن يسمع ما سأقوله , و يجب أيضا أن يستمع كل مستشاريه" .. "و الأفضل أن يكون وزير الدفاع و الخارجية هناك أيضا" .. "سأعطيكم عشر دقائق" .. احتج الصوت القادم من واشنطن "لا يمكن .. هذا سيحتاج إلى ساعات على الأقل" .. "أمامك خمسة عشرة دقيقة فقط" .. و أغلق الهاتف .. حاول الجنرال أن يبدأ حديثا مع جون , لكن جون كان يسير في الغرفة بسرعة و كأنه يغلي .. كان يرد فقط بنفس العبارة "ستعرف كل شيء عما قريب" .. بدا و كأن جون يحاول تنظيم أفكاره , ربما ليقنع نفسه مرة أخيرة أو ليفهم أكثر ما الذي يفعله , و كان واضحا أن أفكاره تلك كانت تستفزه بشدة , و تدفعه إلى حركة دائمة لا تهدأ .. مرة واحدة التقت عينا جون بعيني الجنرال .. كان الأخير ينظر باتجاه المسدس .. ابتسم جون .. قال للجنرال "صدقني , لا أريد أن استخدمه" و ضحك بعصبية , ثم أضاف "سينتهي كل شيء .. كل شيء .. عما قريب ... لن نحتاج إلى شيء متوحش كالمسدس" .. ابتسم الجنرال أيضا , ساخرا , "مسدس ؟ و من يحتاج مسدسا و هو يملك كل هذه الصواريخ" .. فكر الجنرال أنه لم يكن عليه أن يسمح لجون باقتياده إلى هنا , لكن من أين له أن يعرف أنه قد حصل على الشيفرة , لقد خدعه , ليس الذنب ذنبه .. مرت الدقائق الخمسة عشرة كأنها دهر بأكمله .. أخيرا رن الهاتف , عند الوقت المحدد تقريبا .. سمع جون صوتا يخاطبه "معك ترامب من البيت الأبيض" .. ثم بعد صمت قال ذلك الصوت "من أنت و ماذا تريد ؟" .. قال جون "أرجو أن تفتح السبيكر , و أنا أيضا سأفتح السبيكر , سيكون أسهل علي أن أتحدث و أنا أسير" .. ثم تابع مبتسما "كما أني أريد من الجنرال هنا أن يسمع ما سأقوله و ستقولونه" .. ثم عاد إلى مشيه السريع .. ثم أخذ نفسا عميقا و بدأ يتحدث

7
"لقد بحثت كغيري عن السعادة" .. ضحك ضحكة حزينة .. "أو عن الحقيقة , أو عن الخلاص كما يسميه قساوستنا .. أو عن الحب , و المال , عن كل ما يتحدثون عنه في الأفلام و القصص و تلفزيون الواقع و عظات الأحد و الحملات الانتخابية , لكني لم أجد سوى الأكاذيب في كل مكان" .. كانت مشيته تزداد عصبية , و هو يفكر و يحاول أن ينتقي كلماته في نفس الوقت .. كان الجنرال يراقبه عن كثب , يتابع كل خطوة من خطواته , و يحاول ألا تفوته كلمة .. "و شيئا فشيئا أصبت بالاكتئاب" .. "كان من المنطقي أن أنتهي سكيرا أو مدمنا أو قاتلا أو مغتصبا أو متشردا ... أو مجنونا" .. تنهد تنهيدة عميقة , و زفر بقوة .. "و استحوذت علي أخيرا فكرة الانتحار" .. "نعم" .. "شيء واحد فقط يمكن أن يحول بيني و بين الانتحار , أن أجد ما كنت أبحث عنه" .. "أن أجده فعلا" .. تأمل الجنرال جسد جون الفتي و وجهه المرتعد و تساءل عن السبب الذي قد يدفع بشاب كهذا للانتحار .. و لم يفهم بالضبط ما كان جون يقوله , لكن مشيته و نبرة صوته أقنعته أن جون على صغر سنه قد مر بتجارب مؤلمة لا شك أنها قد أنهكته و تدفعه الآن لارتكاب شيء خطير كهذا .. "أعترف أنه لا يحق لي أن أفرض خياري على ستة مليارات إنسان" .. "لكن قررت أن أقدم لهم خيارا واضحا .. شديد الوضوح" .. "أن أضعكم و أضع الجميع أمام خيار واضح , ثمنه باهظ جدا : إما السعادة أو الموت" ... "إما أن يثبتوا أنهم جديرون بالحياة ... كبشر .. أو أن أدمر هذا العالم" .. صدر صوت غاضب من سبيكر التلفون "من أنت أيها الجرذ لتقرر هذا" .. كان واضحا أن هناك من يحاول أن يقنع صاحب ذلك الصوت بالهدوء و الإصغاء إلى النهاية .. ثم حل السلام مرة أخرى .. ابتسم جون , و لسبب ما , ابتسم الجنرال أيضا .. ثم عاد جون إلى مشيته السريعة .. "سأمنحكم ست ساعات" .. "ست ساعات" .. كرر جون بعينين زائغتين كأنه يحاول أن يرى أبعد من تلك الجدران المنيعة أو أن يحدس ما يجري في مكان أو زمان بعيدين عن هذا المكان و الزمان .. "لتقرر شعوب العالم حل كل الجيوش و إزالة كل الحدود بينها" .. "و لتدمر كل أسلحة الدمار الشامل نهائيا" ... "و لتعلن سلاما كاملا أبديا بينها" ... زفر جون أخيرا بقوة "إلى الأبد" .. حل الصمت .. بدا ثقيلا للغاية .. أحس الجنرال بأن كلمة الأبد التي تفوه بها جون للتو هي نذير شر قادم , شر مستطير لا سبيل لإيقافه .. ارتجف جسد الجنرال كمن أصابته الرعشة فجأة .. ثم شعر بدوار ..

8
"هل هو مجنون ؟" .. "يبدو عاقلا إلى حد ما و هذا أفضل من أن يكون مجنونا" .. "لكنه بائس و مكتئب و يود الانتحار" .. "هذا سيء جدا" .. فكر الجنرال و هو يتابع حركة جون الدوؤبة .. "لكنك لا تملك الحق في أن تقتل البشرية كلها معك ؟" .. صرخ الجنرال فجأة .. "أنت يائس .. تريد أن تموت .. أما نحن فلا نريد أن نموت" .. ابتسم جون .. ثم قال بهدوء "أثبتوا أنكم جديرون بالحياة" .. "لن أقتل بشرا جديرين بالحياة" .. "بالحياة بسلام و حب و سعادة" .. و أضاف "سأكون مجرما إذا فعلت" .. لكن الجنرال أجابه بعصبية : "غريب ألا تعتبر نفسك مجرما و أنت تريد أن تقتل ستة مليارات إنسان , ان تدمر البشرية و الأرض إلى غير رجعة ؟" .. حاول الجنرال أن يعطي وزنا أكثر لكلماته , فأضاف "أنت أسوأ مجرم على الإطلاق" .. "لن أقول في التاريخ , لأنه لن يبقى شيء اسمه تاريخ إذا نفذت تهديدك" .. لم يغضب جون , بل بدا جديا .. "نعم , سأفعل" .. "يجب ألا يخامركم أي شك في أني سأفعل" ..... "لقد فكرت طويلا , جدا , في مغزى حياتنا" .. "حياتي و حياتك يا جنرال , و حياة ترامب و الآخرين" .. "في كل أوهامنا و أكاذيبنا" .. "تلك الأوهام التي نستخدم كلمات طنانة لوصفها , كالحياة و الحب و الله و الحرية و أشياء أخرى ليست أكثر من تفاهات" .. "لو أنكم سعداء أو ستعيشون إلى الأبد لكان ما أفعله جريمة بالفعل ... أنا لا أخلصكم من بؤسكم و تفاهتكم فقط , بل و أساعد الله و الطبيعة الذي حكم أحدهما علي و عليكم بالموت ذات يوم , قريب .. قريب جدا .. أن نتحول إلى عدم , لا شيء ... ما الذي يضركم لو متم بهذه الصواريخ أو متم قهرا أو بجلطة قلبية أو بحادث سيارة أو قتلا على يد إنسان بائس" .. "أنا لست مجرما" .. "إلا إذا كان الله و الكون نفسهما مجرمين"

9
فجأة انقلب العالم رأسا على عقب .. عرف العالم أنه مهدد بالزوال خلال ساعات , و تحدث ترامب مع بوتين , و دعا لاجتماع عاجل لمجلس الأمن .. رد عليه بوتين ببرود , أنتم أغبياء .. كيف يحدث هذا عندكم .. استفزته توسلات ترامب كيلا يرد على الضربة الأولى ليعطي البشرية فرصة ما في النجاة , و رد بغضب , إذا هاجمتمونا سندمركم .. افعل شيئا يا ترامب , لا يعقل أنه لا يوجد حل .. لكن العلماء و كبار الضباط أكدوا بالفعل أنه لا يوجد هناك أي حل .. جاؤوا بكل خبراء الكومبيوتر و الشبكات في العالم ليحاولوا أن يوقفوا تفعيل الصواريخ الموجهة إلى روسيا و الصين و أوروبا , لكن محاولاتهم باءت بالفشل .. لقد صمم نظام التحكم و الإطلاق بحيث لا يمكن إيقافه أو التسلل إليه إطلاقا .. و أكد الخبراء أن قاعدة الصواريخ في نيفادا منيعة حتى على الضربات النووية , ستبقى معظم الصواريخ بحالة جيدة للإطلاق .. لقد صممت الحكومة الأمريكية و صنعت نظاما لا يمكنها إيقافه أو اختراقه الآن , نظام كامل بحيث أنها لا تستطيع الآن أن تمنعه من القضاء عليها و على البشرية كلها في نفس الوقت ... في مجلس الأمن كان الجميع موحدين , لن يرضخ كبار العالم لرقيب مجنون .. في موسكو و واشنطن أعدت قوائم سريعة بأسماء من سيتوجهون إلى المخابئ المضادة للأسلحة النووية , و بدأ الجيش بمصادرة كميات هائلة من الطعام و الشراب , بما في ذلك النبيذ , و نقلها إلى تلك المخابئ , و صدرت أوامر حازمة بتشديد الحراسة على هذه الملاجئ و إطلاق النار فورا على كل من يقترب منها , أيا تكن رتبته , إذا لم يحمل تصريحا من أعلى سلطة سياسية و عسكرية في البلد .. استيقظ زعماء العالم في كل مكان , حتى الكسالى منهم , و بدأت على الفور اجتماعات محمومة لدراسة "الأزمة" , و انتقل بعض القادة فورا إلى ملاجئ مخصصة للطوارئ و حاول آخرون الاتصال بواشنطن و موسكو دون توقف محاولين تدبير مكان ما في الملاجئ الروسية أو الأمريكية المضادة للأسلحة النووية .. و ترك الموظفون مؤسساتهم و هام الناس في الشوارع يبحثون عن أحبائهم أو عن ملجأ , و تركت المتاجر و المخازن و الفنادق الفاخرة دون حراسة , و رغم أن الفقراء هاجموا في البداية كل هذه الأماكن التي كانت محرمة عليهم في السابق , لكنهم سرعان ما تركوا كل شيء و انصرفوا , و فقد الناس أية رغبة في الحصول على جهاز تلفزيون أو لابتوب أو ثوب جديد الخ , و تدريجيا مع ثبوت جدية تلك الأنباء عن قرب نهاية العالم اختفى رجال الشرطة من الشوارع و الأطباء من المستشفيات , الخ .. كان الجميع , في كل مكان , يبحث عن ملجأ ما من الكارثة القادمة

10
رن الهاتف في مقر إطلاق الصواريخ النووية في نيفادا .. رفع جون السماعة .. كان ذلك مدير السي إن إن يعرض على جون أن يناظر البابا على الهواء مباشرة .. جرى الإعداد للمناظرة فورا , سيراها جميع الناس , كل الميارات الستة التي تعيش على الأرض و الذين يأملون أن يتمكن البابا من أن يعيد جون إلى رشده .. أصبح كل شيء جاهزا , و سمع صوت يخاطب جون , سنكون على الهواء خلال عشرة ثواني .. عشرة .. تسعة ... واحد .. و فجأة سمع جون و الجنرال صوتا هادئا يخاطبهما .. "ابني العزيز جون , هداك الله" .. "جميعنا نخطئ و لكن الله معنا دائما" .. "إنه مستعد ليسامحنا دائما" .. "علينا فقط أن نتوجه إليه" .. جاء صوت جون هادئا هو الاخر "إنه يسمع و يرى , يسمعنا و يرانا الآن , أليس كذلك ؟" .. "بلى يا بني , عليك فقط أن تخاطبه و سيجيبك" .. فسأله جون "و هو أقوى من هذه الصواريخ و رؤوسها النووية ؟" .. "بلى" .. لكن صوت البابا بدأ بالاضطراب و فقد هدوئه السابق .. "حسنا , إذن , أنت تقول أنه يستطيع أن يوقفني متى شاء .. إذا شاء" .. صمت قليلا ثم أضاف "إذن ما الذي تخشاه يا أبتاه ؟" .. لم يرد البابا لبعض الوقت .. ثم جاء صوته متوسلا "ابني , يجب أن تستمع إلى يسوع , و هو سيهيدك" .. "لكن كيف أستمع له ؟ ... أسمعك الآن جيدا , لكني لا أعرف كيف يمكن أن أسمع يسوع ؟" .. جاء رد البابا بعصبية و نفاذ صبر "أستغفر الله ! .. يا بني ! أنت تريد أن تدمر البشرية كلها .. لا تملك الحق في ذلك" .. "لكن إلهك يملك الحق في أن يبيدنا عندما يشاء" .. "هو خلقنا يا أخي" .. "لم أطلب منه ذلك .. لا يستطيع أن يحاسبني على أفعاله أو اختياراته هو" .. صمت البابا ثانية , ثم عاد للحديث , كان منهارا , و بدأ يتوسل "ابني .. لا أريد أن أموت .. لا اريد أن أموت .. أرجوك" .. "لكنك ستموت في كل الأحوال يا أبتاه" .. و عاد الصمت .. "لكن هناك فرق" .. "هلا شرحت لي ما هو هذا الفرق ؟" .. لم يرد الصوت القادم من الفاتيكان .. سمع جون و الجنرال صوت شخص فهموا أنه عالم أو فيلسوف ما , خاطب جون بصوته المرتجف "جون .. أنت لا تملك الحق في قتلنا جميعا .. أفهم أنك مكتئب و لا تفهم لماذا و ترى أشياءا سيئة و تكرهها و تقف عاجزا أمامها , لكننا لا نريد أن نموت .. لا يوجد مثلك إلا قلة فقط , قلة قليلة , الآخرون يعيشون بسعادة و يستمتعون بحياتهم على عكسك .. لا تملك الحق في أن تحرمهم من ذلك و تفرض عليهم اكتئابك و تعاسة حياتك" ... بدا وجه جون متأثرا .. نظر إلى الجنرال , ثم بدأ يتحدث : "يقول القساوسة و رجال الدين أن هذا العالم سيدمر بأمر من خالقه" .. "سنباد جميعا , بأمر من نفس الشخص الذي خلقنا" .. "و يقول العلماء أن الحياة أو الكون الذي ظهر منذ ملايين السنين في طريقه إلى الموت بعد ملايين السنين" .. "الأهم من كل هذا أني سأموت ذات يوم" .. "و أنت" , خاطب الجنرال بعينيه .. "و أنتم" , كان يخاطب على الأرجح أولئك الذين يستمعون إليه في واشنطن , و أيضا الستة مليارات إنسان في كل أنحاء الأرض .. "حسنا" .. "هل يفهم أحدكم إذن لماذا نحن هنا ؟" .. "و الأسوأ , لماذا نضيع تلك السنوات القليلة المتاحة لنا في تفاهات و أفعال غبية لا تنتهي" .. "حسنا , سأعطيكم تحد آخر" .. "إذا اكتشفتم سبب أو معنى لوجودنا على هذه الأرض" .. "سببا أو تفسيرا أو مغزى لموتنا الحتمي , المؤجل , تفسيرا منطقيا لتصرفاتنا , الغبية و التافهة , سأستسلم لكم فورا" .. "إذا أكدتم لي أنكم سعداء بحياتكم , أنكم لستم بائسين مثلي , فسأتراجع فورا" ... حبس ستة مليارات إنسان أنفاسهم و هم يستمعون للصوت الآتي من نيفادا .. أما جون ففكر قليلا ثم قال "يقولون أن مذنبا أو كوكبا ما يمكنه تدمير أرضنا و إبادتنا جميعا" .. "و ينشغلون بحساب احتمال أن يتحقق ذلك فعلا" .. "أنا أيضا ظاهرة طبيعية , مثل ذلك المذنب و تلك النيازك تماما" .. "لم أخلق نفسي" .. "و لم أصبح هكذا باختيار مني" .. "إما أن الطبيعة أو إله ما خلقني هكذا , خلقني لسبب لا أعرفه و لا تعرفوه أنتم أيضا" .. "حسنا , أنا مثل ذلك المذنب" .. "ظاهرة طبيعية تماما" .. "و احتمال نجاحي في تدمير العالم يعادل تماما احتمال اصطدام الأرض بذلك المذنب" .. "المصيبة في الاحتمالات أنه حتى احتمال ضئيل جدا كواحد من مائة مليون قد يحدث فعلا , لسبب لا نعرفه" .. "قد يقع" .. "و هو ما يحدث الآن فعلا" .. "و إذا كان الإله موجودا و يستطيع أن يوقفني فلا شك أنه سيفعل إذا شاء" .. "و إذا كان موجودا و إذا كان هو من خلقني هكذا و أتاح لي أن أصل إلى هنا و رتب كل شيء , كما تقولون , فهو يريدني أن أكمل إذن" .. "لم أخلق الموت و لا الحياة" .. "لكني أستطيع أن أقتل , و أنتم أيضا , و أنت يا ترامب , و أنت أيها البابا , و كل إنسان , تستطيعون أن تقتلوا و تقتلون أحيانا و أحيانا دون إراقة أية دماء , و هذا ليس خطأكم .. إن الحياة هشة جدا .. أما السعادة التي تتحدث عنها فهي وهم" .. "لماذا نزيف حقيقتنا إذا كنا مجرد حيوانات غبية , و نمارس دور المفترس و الفريسة دون أن نعترف و نصطنع أسماءا لا تنتهي لما يمارسه الأسد و الغزال في الغابة .. هذا هو التحدي الثاني أيها السادة" .. و فكر الجنرال "يبدو أنه مجنون , هناك أنواع من الجنون لا يكتشفها الإنسان بسهولة عند هؤلاء" .. و بدا غير مرتاح أبدا لاكتشافه الجديد , و أخذ يفكر , ثم بصق لاعنا "اللعنة ! لم أحب الباباوات يوما" .. نظر إليه جون مبتسما هو الآخر "ولا أنا" ... فكر الجنرال "قد يكون مجنونا , لكنه على حق أحيانا" , و ابتسم و هو يقول الكلمات الأخيرة في سره .. في روما , خرج البابا إلى ساحة الفاتيكان ليصلي مع المؤمنين طلبا للرحمة .. و فجأة دوى صوت قوي .. انبطح بعض الكرادلة على الأرض و اختبأ بعضهم تحت الطاولة الكبيرة , و جفل البابا , و كل المؤمنين تقريبا .. عندما ظهر أن شيئا لم يحدث و بقي كل شيء على حاله , انتبه الجميع لطفل صغير كان يلوح ببقايا بالونه .. "آسف , لقد انفجر" .. ابتسم البابا و وقف ليكمل صلواته , بينما ظهرت بقعة كبيرة من البلل وسط ثوبه تماما , بينما استدار كبير الكرادلة , و انفجر من الضحك

11
كان الوضع في البيت الأبيض متوترا للغاية .. درست كل الاحتمالات التي ثبت أنها بلا جدوى تماما , و كرر قادة العالم و الكونغرس و مجلس الشيوخ رفضهم لتهديد جون و مطالبه , و لم تتوقف محاولات وزير الخارجية لإقناع الروس بالامتناع عن الرد , و أخيرا جيء بعالم قصير متوسط العمر إلى القاعة الرئيسية في البيت الأبيض , قيل لهم أنه يعرف كل شيء .. و بدأ استجوابه من قبل الحاضرين .. هل يمكن تدمير القاعدة و لو بضربة نووية ؟ جاء رد "العالم" الهادئ : "لا" .. "إنها مضادة للضربات النووية" "ستبقى غالبية الصواريخ بحالة قابلة للإطلاق و ستكفي لتدمير العالم" .. و جاء السؤال التالي "و هل الشتاء النووي حتمي في هذه الحالة ؟" .. "بالتأكيد" .. "حتى إذا لم يرد الروس , ستكفي صواريخنا لندخل في شتاء نووي طويل في كل مكان , حتى الأماكن التي لم تصبها الصواريخ" .. "سندخل في مرحلة تصبح فيها الحياة على الأرض مستحيلة , ربما لعدة قرون .. الماء سيكون ملوثا و قاتلا , و سيختفي الطعام , أما الناس الذين سينجون من آثار الضربة الأولى و الأشهر أو السنوات الأولى بعد حلول الشتاء النووي فسيموتون من الأمراض الإشعاعية و شح الطعام و سيضطرون لأكل بعضهم البعض , و سيموتون موتا بطيئا و شنيعا في الملاجئ" .. قال العالم بلهجة هادئة جدا و صارمة , و حيادية تماما "لن ينجو أحد" .. "إذن ما العمل ؟" .. "لقد أعددنا عدة مركبات فضائية و هي ستنطلق تباعا باتجاه الفضاء في الساعات القادمة , حملناها خلايا حية و نباتات بدائية و حتى نطاف و بيوض إنسانية مجمدة , ربما تجد مكانا صالحا في هذا الكون لتعيد إنتاج نفسها و لكن فرصتها في ذلك ضئيلة جدا" ... "جدا" .. "جدا ... لكنه الأمل الأخير في إنقاذ الحياة في هذا الكون" .. "لكننا لا نريد إنقاذ الحياة , نريد إنقاذ أنفسنا ؟" .. فكر الرجل القصير قليلا , و قال "عليكم أن تفعلوا ما طلبه ذلك السيرجنت" .. "لا يوجد أمل آخر" .. و ساد صمت طويل

12
في فيلته الفاخرة بالرياض كان الشيخ العريفي وحيدا .. لقد غادر الجميع .. لم يستأذنوه .. حتى امرأته , ذهبت إلى أهلها دون أن تخبره .. نظر إلى سيديهاته و كتبه , و أحس بالفراغ .. ثم بالفزع .. "يا إلهي , ارحمني" .. لكن صوته لم يجد إلا الصدى .. أراد أن يدعو أو أن يصلي لكنه كان مضطربا بشدة .. لم يكن قادرا إلا على الجلوس بغباء أمام شاشة التلفزيون و ينتظر .. و أخيرا عجز لسانه حتى عن ترديد اسم الله .. و أخيرا نسي الله كليا و هو يستمع إلى أحاديث المحللين عن الشتاء النووي القادم , و أحس بيأس لا يقاوم .. حاول أن يقف فعجز .. ثم حاول أن يصرخ فعجز عن الصراخ .. ثم حاول أن يذكر اسم شيء كان يفترض أن يذكره , لكن كل ما استطاع تذكره أو فعله هو التمتمة بأشياء لا معنى لها , و تحجرت عيناه المذهولتين تراقبان شيئا مفزعا في الفراغ , ثم اختلج الشيخ , و سقط ميتا

13
في الدوحة كان فيصل القاسم قد اجتمع مع رفاقه جميعا في مبنى قناة الجزيرة يتابعون بقلق آخر الأخبار من نيفادا و موسكو و واشنطن .. كان الجميع ملتصقين إلى الشاشة الكبيرة و إلى لابتوباتهم و كان الجميع دون استثناء يبحث عن نفس الشيء "أعمق ملجأ أو قبو في الدوحة" .. وحده مدير قناة الجزيرة بقي ينتظر في منزله بقلق مكالمة مفترضة .. كان تميم قد وعده أن يصحبه إلى واشنطن حيث وافق الأمريكيون على استقبال عدد محدود جدا في ملاجئهم المضادة للاسلحة النووية .. كان تميم قد وعد والدته أيضا , و حتى أباه , أنه سيصطحبهم معه إلى واشنطن .. لكن الطائرة التي تحركت بكل سرية من الدوحة باتجاه واشنطن كانت تحمل ثلاثة أشخاص فقط : تميم و سكرتيره الشخصي , و الطيار .. و عندما وصلت واشنطن سمح لاثنين فقط بالنزول منها , تميم و سكرتيره الشخصي ... ليس بعيد عن المدرج كان جنرال أمريكي ينتظر القادمين .. بإشارة من الجنرال , أوقف الحراس تميم و سمحوا فقط لسكرتيره بالوصول إلى حيث يقف .. ابتسم السكرتير البدين للجنرال و قال له "اشتقت إليك يا توماس" .. أمسك الجنرال بيد السكرتير و سارا معا , بقي تميم يصرخ و يصرخ , بينما كان الحراس يأخذونه إلى سجن المطار العسكري

14
في أحد أكبر شوارع المدينة وقف رجل كهل بشعر منكوش و ابتسامة بلهاء و ملابس مهترئة "أنا يسوع" "تعالوا إلي" .. "تعالوا إلي" .. و عندما لم يلتفت إليه أي من المارة الذين كانوا يسيرون بسرعة غير عادية , افترش الأرض إلى جانب عجوز آخر .. و انتصبت أمامهما الكثير من علب البيرة و زجاجات الويسكي الفاخرة .. شرب الاثنان و شربا و شربا .. كانا يضحكان و يتحدثنا كصديقين قديمين .. "لقد جن العالم يا أخي .. انظر إليهم كيف يسيرون كالمجانين ... هئ هئ" ... "ليتهم يستمعون ليسوع الناصري .. لقد جئت لأخلصهم" .. "أنا أيضا جئت لأخلصهم .. و الله يا أخي" .. "لماذا ؟ من تكون ؟" .. "أنا الإمامو علي يا يسوع" .. و يشربان و يضحكان , و يجلسان بهدوء على ناصية الشارع بينما يركض الآخرون بفزع

15
رن الهاتف في مقر قيادة إطلاق الصواريخ في نيفادا .. كان المتصل يتحدث الانكليزية بلكنة عربية .. اتضح أنه أبو بكر البغدادي .. ضحك جون , و ضحك الجنرال أيضا .. "أتوقع أنك من بين كل زعماء العالم مسيو أبو بكر الوحيد الذي ستفهم موقفي" .. "كلا , أرجوك أن تتراجع" .. "لا أفهمك مستر أبو بكر" .. "أرجوك أن تتراجع .. مستر سيرجنت .. أي معنى لأي شيء إذا دمرت العالم" .. "لكنكم انتحاريون مستر أبو بكر" .. "لكننا لا نريد تدمير العالم مستر سيرجنت" .. "إني أفعل بالضبط ما تفعلونه أنتم يا مستر أبو بكر .. الفرق الوحيد بيننا هو أنني وضعت للبشرية كلها حزاما ناسفا واحدا و أني من سيضغط على هذا الزر" .. جاء الصوت منهارا "أرجوك لا تفعل مستر سيرجنت .. ليست هذه قواعد اللعبة .. ما قيمة أي شيء إذا كان سينتهي .... و إذا كان سينتهي هكذا" .. "لكنك ترسل آلاف الانتحاريين للموت , وتقول لهم أن بانتظارهم حوريات و أشياء أخرى .. ألا تتشوق لجنة إلهك و حورياتك يا مستر أبي بكر" .. "لا أريد أن أموت .. لا أريد أن أموت .. أرجوك" .. أقفل جون الهاتف .. و لعن الجنرال " يا له من وغد" .. علق جون قائلا "سون أوف ذا بيتش" ..

16
شيئا فشيئا مل الناس البحث عن ملجأ .. بل على العكس بدأ كل فرد بالتوجه إلى منزله أو إلى منزل شخص ما يحبه أو أحبه أو يعتقد أن يحبه , و بدأ الناس يتقبلون فكرة نهاية العالم بشكل غريب , و ذهب كثيرون على الفور إلى منازل حبيباتهم أو أحبائهم و اعترفوا لهم بحقيقة مشاعرهم , تارة كانوا يطردون و أحيانا كانوا يجدون ردا مشابها و صارح الكثير أيضا بعضهم البعض بأشياء أخرى , بأنهم لا يحبونهم أو أنهم خانوهم أو أن الولد الثاني أو البنت الثالثة هي من عشيق آخر , و كرت السبحة , و بدا كأن البشرية فجأة تحاول أن تعيش ساعاتها الأخيرة بأكثر ما يمكنها من سعادة و حب , حقيقيين .. بدا ذلك كمعجزة وقعت فجأة .. لكن كل شيء سينتهي قريبا , لم يستطع أحد أن يجيب على تحدي الرقيب جون و رفضت كل الحكومات شروطه , و لم يتبق الكثير قبل أن يضغط ذلك السيرجينت أخيرا على الزناد

17
اتخذ القرار في البيت البيض بإرسال العالم إلى مقر إطلاق الصواريخ في نيفادا , سيحاول أن يشرح لجون أنها ستكون نهاية العالم بالفعل إذا ضغط على زر الإطلاق .. وافق جون على استضافة العالم في غرفة القيادة .. وصل العالم خلال ساعة إلى المكان .. و نزل على الفور إلى حيث يوجد جون و الجنرال .. استمع جون للعالم , و قال أخيرا "إذن هي النهاية فعلا" .. جاء رد العالم حاسما و مقتضبا "بكل تأكيد" .. "و ماذا يعتقدون في واشنطن ؟" .. "لا شيء" .. ثم أضاف ردا على نظرات جون و الجنرال المتسائلة "لن يفعلوا شيئا" .. "سيذهبون إلى الملاجئ النووية و يتركون الناس تموت , ثم يموتون هم ببطء أشنع موتة في تلك الملاجئ" .. أحس جون بشيء من السعادة , "لن يتمكنوا من النجاة , هه ؟" .. "أبدا" .. "هل تستطيع أن تؤكد لي ؟" .. "بشكل قاطع" .. "حسنا , لننتظر حتى انتهاء المهلة" .. لأول مرة سأله العالم مباشرة في عينيه و بدون أن يرف له جفن "و ماذا تنوي أن تفعل ؟" .. أخذ جون شهيقا عميقا , و قال "سأدمر العالم" .. "حسنا , أعتقد أني سأذهب إذن" .. وقف جون ليودع العالم .. لكن العالم تردد و فكر قليلا ثم قال "كلا , سأبقى إن لم يكن عندك مانع .. أريد أن أكون هنا عندما يحين الوقت" .. "طبعا , ابق إن شئت" .. أصبح الجنرال و جون يشعران تجاه بعضهما كأصدقاء قدامى .. شعر جون بالحرج من قيود الجنرال و تقدم نحوه و فك وثاقه .. حاول أن يعتذر بنظراته للرجل الكهل ذا البنية القوية , لكن الجنرال رد على نظراته بابتسامة , كأنه كان يسامحه ..أثار فضول العالم شك جون الشديد , كان العالم يتجول في كل مكان و يقرأ الأسماء و الكلمات و حتى التواريخ على كل شيء , على الكومبيوترات و الآلات و حتى الطاولات و الجدران .. بقي جون يراقبه بصمت و حذر .. لم ينتبه إلى أن الجنرال كان قد تسلل إلى الطاولة و وصل أخيرا إلى المسدس .. استفاق جون و العالم على صوت خافت , لقد حرر الجنرال أمان المسدس و أصبح جاهزا للإطلاق .. أخذت المفاجأة جون , نظر برعب إلى الجنرال و هو يحمل المسدس , و يتأمله كصديق قديم .. لم ينطق جون بحرف , تسمر مكانه و ثبت نظره على الجنرال .. كانت المسافة بعيدة بينهما , كان من المستحيل حتى أن يحاول انتزاع المسدس من يد الجنرال , و أدرك فداحة خطئه عندما وثق به .. فجاة ابتسم الجنرال ابتسامة عريضة .. "هل تظن أني سأعفيك من مهمتك القاتلة أيها السرجنت ؟" .. "كلا" .. "سيكون عليك أن تقرر ماذا ستفعل بعد قليل" .. "بالنسبة لي , لقد زهدت الحياة منذ وقت طويل .. منذ أن فقدت أول نور في حياتي .. منذ خنت أول إنسانة أحببتها .. جعلت حياتها جحيما و دفعتها للهرب مع تافه .. حاولت أن أقنع نفسي أني سعيد .. أن أتمرغ في أحضان السكرتيرات و أسكر حتى الثمالة" .. "لكني مجرد نذل" .. "كانت شفافة و رائعة" .. "آه كم أحببتها" .. "لو أني أستطيع أن أقول لها فقط" .. "أن أراها و لو لمرة" .. "أخيرة" ... قال و هو يوجه المسدس إلى رأسه "أريد منك كلمة شرف يا جون" .. "اتصل بها و قل لها أني أحببتها و أني مت و أنا أذكرها و أنا نادم على الآلام التي سببتها لها .. أعرف أنها تكرهني , لو كنت أعتقد أنها ستفعل لكنت ركعت عند قدميها و انتظرت شتائكم النووي و أنا أقبل شفتيها , لكن هيهات .. آه كم افتقدتها" .. "أرجوك لا تفعل يا سيدي" .. ضحك الجنرال .. "شكرا يا جون .. كان علي أن أفعل ذلك منذ زمن .. كنت أؤجله دائما .. و لا أعرف متى كان يمكنني أن أعترف لنفسي أولا ثم لها أنني أحببتها و أني آسف لأني كنت وغد معها ... و لأني فقدتها" ... "وداعا , لا تنسى وعدك" ... نظر جون بعينين حزينتين إلى الجنرال "أعدك يا سيدي" .. ثم دوى صوت حاد و قوي و سقط الجنرال ككتلة واحدة على الأرض دون أن يصرخ .. هرع جون إلى الهاتف "أريد الحديث مع زوجة الجنرال" .. "فورا" .. "أقول لك فورا" ... دقائق و رن الهاتف .. كان صوتا نسائيا .. "هل أنت زوجة الجنرال ؟ حسنا أنا جون .. السيرجنت جون .. أقصد أنا الذي يريد تدمير العالم" .. "الجنرال معي هنا , و هو يريد أن يقول لك أنه يحبك و يسألك الغفران عن الآلام التي سببها لك .. أنا آسف .. قال أنه يحبك و يذكرك" .. كان واضحا مدى الصدمة على المرأة , صمتت ثم بدأت تنتحب بهدوء .. أخيرا قالت "قل له أني أحببته جدا , و أني ..... عفوا , هل يمكن أن أكلمه .. سأقول له بنفسي .. أعطني بوبي لو سمحت" .. "أنا آسف , لقد قتل نفسه .. لقد مات يا سيدتي" .. "ماذا تقول ؟ أقول لك أعطني بوبي من فضلك" .. "لقد انتحر يا سيدتي .. لكنه ذكرك قبل أن يموت , و طلب مني أن .." .. "ماذا تعني انتحر ؟ بوبي مات !! ماذا تقصد يا هذا ؟" .. ثم لم يعد يسمع شيئا إلا صوت بكاء مر .. انهار جون باكيا , بينما اكتفى العالم بمراقبته بصمت

18
دق جرس الهاتف في مقر القيادة .. كان ألبرت .. "ماذا تفعل أيها المجنون ؟" .. "جون , توقف عن كل هذا" .. "كنت أحاول الاتصال بك لكن أحدا لم يصغ إلي" .. "هيا تعال , لقد أعددت الحساء الذي تحبه يا جون" .. "لا أستطيع يا ألبرت" .. "ماذا تعني أنك لا تستطيع ؟ .. و من سيأكل هذا الحساء" .. "أنا متعب يا ألبرت و أبحث عن الراحة .. قد تكون أبدية هذه المرة .. لا شك أنك كنت تشعر بي ... علي أن اكمل" ... و صمت الاثنان .. ثم جاء صوت ألبرت مرتجفا رغم أنه حاول أن يبدو متماسكا "حسنا يا جون , سأذهب , على أن آكل الآن , إني جائع" .. رد جون بحنان "أحبك يا ألبرت" .. "أنا آسف" .. و جاءه الرد بعد بعض الوقت "أحبك يا جون" .. و قطع الخط .. فكر العالم و هو يحاول زيادة درجة التبريد كيلا يبدأ جسد الجنرال بالتفسخ , لا شك أنها آخر محاولاتهم في واشنطن .. بقي جون مطرقا .. قاطع العالم الصمت قائلا "سرعان ما سيبدأ جسد الجنرال بالتفسخ" .. "سينتفخ ثم سيبدأ الجلد بالتساقط و ... " .. قاطعه جون "كم أحن إلى حضن ألبرت في هذه اللحظة" .. "كم أتمنى لو أني ألمسه مرة أخيرة" .. و فجأة التقت عيناه بعيني العالم .. ثم سمع جون العالم و هو يخاطبه بصوته المحايد تماما "هل تقصد أن ... أنا و أنت ... ؟" ....

19
يجلس جون و العالم الآن عاريين تماما .. أمسك العالم بقطعة من ملابسه الداخلية و رماها في الفضاء و هو يضحك "ملابس داخلية" .. بالقرب منهما تمدد الجنرال دون حراك .. ذهب العالم إلى الجنرال و فتش ملابسه و أخذ منها سيكارة و أشعلها و أخذ يدخنها و على وجهه تعبير داعر .. قام جون , اقترب من زر التشغيل .. توشك الساعات الست على الانتهاء .. لا بد أن ألبرت الآن يجلس في الصالة ينتظر , و يلعنه لأنه لم يقبله قبل أن يخرج .. و ينظر إلى العالم و يقول له "هل تعتقد أن ذلك الشيء أو البيغ بانغ سيخلق بشرا أفضل في المرة القادمة ... بشرا يعرفون لماذا يموتون ... و لماذا يعيشون" ... نظر إلى العالم بحزن بينما ملأ العالم صدره بدخان سيكارته ثم نفثها في الهواء و قال "إلى الجحيم" ... تردد جون قليلا , ثم تذكر الجنرال و حبيبته الأولى و بكائها , و زاد تردده و بدأ يسير بعصبية .. أدرك العالم على الفور ما الذي أصاب جون .. وقف و هو عار تماما .. توجه إلى جون و صرخ به "ماذا تنتظر ؟" .. "لكن شيئا ما قد تغير فعلا .. الناس تغيروا في هذه الساعات الست ... زوجة الجنرال ... و الجنرال .. ألم تسمع ؟ ... لم أعد متأكدا أيها السينتسيت ؟" .. امتقع وجه العالم "ماذا تقول ؟ هل تعتقد أن كل ذلك حقيقي ؟ هذا فقط لأنك تريد تدمير العالم .. بعد دقيقة فقط سيعود كل شيء لسابق عهده و لو كان الجنرال هنا لضحك ثم خرج لينام مع سكرتيرته الشقراء الصبية و لبصق على حبه دون تردد و استمر يعيش وغدا حتى آخر لحظة في حياته .. هم ليسوا إلا كذبة , أنا كذبة , أنت كذبة .. يا لك من منافق" .. بهدوء سار العالم نحو الجنرال و التقط المسدس من على الأرض , ثم تقدم نحو جون , و دس المسدس في يده , ثم استدار , و بدأ يسير بمشيته الهادئة الباردة نحو زر الإطلاق ...............








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا