الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاختلاف المنهجي بين المعارف التجريبية والمعارف الإنسانية

علي المدن

2017 / 1 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يصادف الإنسان الكثير من المعلومات في حياته، وهي معلومات تتوزَّع على أكثر من موضوع. يمكن على سبيل المثال أن نذكر عينة منها، كقولنا: (الحديد يتمدد بالحرارة)، (الظلم شيء قبيح)، (موسيقى الفنان ياني في غاية الروعة)، (لوحات الرسام جواد سليم جميلة) ... إلى غير ذلك من القضايا والأحكام التي نطلقها أو نسمعها كل يوم. بالنسبة للإنسان العادي لا تنطوي هذه القضايا والأحكام أية مشكلة، بوسعه أن يردّدها دون أن يدعوه ذلك إلى أي تساؤل، أو أن يشعر بأي حرج. لا شيء يثير الغرابة في قولها. ولكن موقف الإنسان العالم يختلف كثيرا عن موقف الإنسان العادي. إنه يتسأل قائلا:
- هل ثمة فرق بين هذه القضايا؟ وما هو هذا الفرق؟
- هل موضوع هذه القضايا شيء واحد، أو أنها تتناول أكثر من موضوع؟ وكيف نميّز بين موضوعات القضايا؟
- كيف يحصل الإنسان على هذه المعلومات؟ ما هو مصدرها؟ وعن أي طريق توصَّلنا إليها؟
- هل الأحكام التي تحملها هذه القضايا من جنس واحد أو أنها تُصنَّف على أكثر من صنف؟
هذه النماذج من الأسئلة ـ وهناك الكثير غيرها ـ هي ما تدرسه نظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا (= Epistemology) وعلم المناهج.
إن اختصاص الإبستمولوجيا يحاول أن يوضح طبيعة المعرفة البشرية وأشكالها من الناحية المنطقية، والكيفية التي نتوصّل من خلالها إلى تلك المعرفة، وأنواع تلك المعرفة من حيث نسبة الوثوق بها. فنحن نفرّق بين الأخبار اليقينية والمظنونة والوهمية والمحتملة والكاذبة، كما أن نميّز ـ مثلاً ـ بين كون قولنا: (هذا الشيء صحيح أو خطأ)، وقولنا: (هذا الشيء عدل أو ظلم)، وقولنا: (هذا الشيء جميل أو قبيح). وهذا ما يعبِّر عنه المختصون بهذا النوع من الدراسة بالقول: إن قضايا المعرفة تلّخصها ثلاثة أمور أساسية، هي: الحق والخير والجمال.
وكذا تفعل علوم المنهج؛ إذ هي تميّز بين موضوعات القضايا، وأساليب دراستها، وأنماط المعرفة التي نحصل عليها في كل نوع من القضايا.
فلو عدنا لأمثلتنا التي ذكرنا في بداية حديثا لوجدنا بعضها يختلف عن البعض الآخر في نظر الإنسان العالم بقضايا المعرفة وعلوم المنهج:
- فالقضية الأولى موضوعها يتعلق بالواقع؛ أي أنها تتناول ظاهرة طبيعية تجريبية.
- والقضية الثانية تتعلق بالسلوك الخيِّر وما ينبغي على الإنسان فعله أو عدم فعله؛ أي أنها تتناول ظاهرة أخلاقية.
- والقضيتان الأخريتان تتعلقان بالفن؛ أي أنهما تتناولان ظاهرتان جماليتان.
وليس التمييز بين هذه القضايا مقتصرا على هذا فحسب؛ أي على طبيعة "موضوع" كل واحدة من تلك القضايا، وطبيعة نمط "حكمنا" عليها، وهل هو باعتبار الصحة والخطأ أو العدل والظلم أو الجمال والقبح. بل هناك شيء آخر يميّز تلك القضايا؛ وهو "الأساليب" المنهجية التي "نصل" من خلالها لتلك الأحكام، وما يرافق كل واحدة من تلك الأساليب من مشاكل وإجراءات وتقنيات فرعية.
إن التفريق الشائع بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية يركّز على ثلاث نقاط مهمة:
النقطة الأولى: أن العلوم التجريبية تدرس الواقع (فالفلك مثلا يدرس حركات النجوم والكواكب، والطب يدرس جسم الإنسان، والكمياء تدرس العناصر، ... إلخ)، وهذا الواقع يتّسم بالثبات والحيادية، أي أنه ثابت بنحو دائم لا يتبدل، وموضوعي لا يتغيّر من شخص لآخر. وهذا على خلاف علوم الإنسان التي تدرس "سلوك الإنسان" الذي هو متغير وقابل للتحيز؛ فتفسير الاكتئاب في علم النفس مثلا، أو الفقر في الاقتصاد، أو العنف في السياسة، أو الجمال في الرسم (وكل هذه الميادين هي علوم إنسانية) ليست ثابتة الأسباب ولا موحَّدة عند الأشخاص، فقد يفسّرها شخص بنحو يختلف عن الآخر تبعا لرأي كل واحد منهما في السبب الحقيقي الذي يقف وراء تلك الظاهرة (الاكتئاب، الفقر، العنف ... )، كما أن تلك التفسيرات قابلة للتحيز بالأهواء والمصالح.
النقطة الثانية: إن العلوم التجريبة فيها قابلية للتكرار، وهذا التكرار يجعلنا نتأكد من الأسباب الحقيقية ونميزها عن الأسباب غير الحقيقية عن طريق الملاحظة المنظَّمة. في حين أن العلوم الإنسان ليست قادرة على التكرار؛ فإن ما يحدث مرة يختلف عما يحدث مرة ثانية، إذ الموضوع مرتهن بالإنسان. وطالما إن الإنسان يمتلك إرادة ووعيا خاصا به، ينفرد به عن سائر البشر الآخرين، فإنه من الصعب، إن لم يكن من المحال، إخضاع جميع البشر لظروف مماثلة والحصول منهم على ردود فعل موحّدة.
النقطة الثالثة: إن العلوم التجريبية فيها القابلية على التنبّؤ بالمستقبل، فنحن لا نشك أننا نتبلل في كل مرة يقع علينا الماء، ولا نختلف على أن قوانين الجاذبية ستستمر بعملها صبح الغد، ولا نتردد في الاعتقاد أنه سيكون صحيحا أن حبة البينسلين تخفف من الآلام حتى بعد عشرة سنوات ... إلخ. في حين إننا غير قادرين على فعل ذلك في العلوم الإنسانية، إذ لا يمكننا الجزم أن القصيدة الشعرية الفلانية ستعجب المجتمع الفلاني بعد سنوات، ولا أن الظلم سيشجع على الجريمة دائما، ولا أن النظام البرلماني سيكون رائعا في نظر الإنسان حتى بعد مرور ألف سنة من الآن ... إلخ.
بعبارة موجزة: يمكننا تلخيص الفرق بين المجالين (العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية) بالقول: إن الفرق يتمحور حول الإنسان ذاته، موضوع البحث في العلوم الإنسانية هو الكائن العاقل ذو الإرادة، وبالتالي فهو مزوّد بعنصر مرن يجعل من الصعب تنميطه في قوالب جامدة كما هو الحال مع "الطبيعة" موضوع العلوم الطبيعية. فلا أفهام البشر واحدة، ولا أهدافهم واحدة، ولا مصالحهم مشتركة دائما. وهذا يعني أنهم في معرض التحول والتغير والاختلاف بنحو مستمر؛ وبالتالي فإن كل ظاهرة إنسانية تشكل حدثا فريدا من نوعه يجب بحثه ودراسته ومعرفة دوافعه وغاياته بنحو منفرد ومستقل.
هذا صحيح حتى بعد الثورة الكبيرة التي أحدثتها مراجعات جملة واسعة من فلاسفة العلوم، من قبيل رودلف كارناب ومورس شليك وتوماس كون وغستون باشلار وكارل بوبر ... إلخ، الذين قاموا بنقد مفصل وجذري للعديد من التصورات الشائعة حول فلسفة العلم والنظريات التبسيطية حول نشأته وتكوينه وتطوره، وكشفوا عن التباسات كثيرة حول مقولات "حيادية" الواقع لدى العالم الطبيعي، والأحكام المسبَّقة التي تُولد "الفرضيات" من رحمها، والأخطاء الشائعة حول "البيانات" ومصادرها وجمعها وتفسيرها، وكيفية تشييدها للنظريات والتعميمات. أقول: حتى بعد هذه الثورة الهائلة في فهمنا للعلوم التجريبية ودورها في التخفيف من غلواء "العلمية" وادعاءاتها المبالغ فيها، يبقى القول بإن عنصر الحرية والإرادة الإنسانية هو المائز الحقيقي بين الصنفين من العلوم، التجريبية والإنسانية. فمن الصحيح أن الواقع الذي يدرسه العلم التجريبي أدق، إلا أن "سلوك الإنسان" ونواياه ودوافعه تبقى أعمق وأشد غموضا من الواقع بكثير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة