الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطب النفسى والإلحاد

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2017 / 1 / 9
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى كان أغلب زملائى بكلية الطب ينشدون التخصص فى فرع الجراحة فهو يقوم على التشخيص الدقيق للمرض، واستئصاله من الجسد، وكان للطبيب الجراح شخصية دقيقة مثل سن المشرط لا تعرف التردد أو الالتواء لكنها أيضا شخصية نرجسية استعلائية إلى حد الألوهية متعصبة لآرائها وعقيدتها أحادية التفكير لا تطيق النقد ولا النقاش أو الجدل.


اشتغلت بالجراحة سنوات قليلة ثم هجرتها قبل أن يتجه المشرط فى يدى الى عنق رئيس الجراحين بالمستشفى كان يعامل الأطباء الشباب كالعبيد فى عزبته، وكان يملك عزبة بالطبع فهى أحد أركان الحلم ، خمسة عين (عيادة، عربية، عمارة، عزبة، عروسة)، وتغلبت كرامتى على حبى للجراحة، واتجهت إلى فروع أخرى فى الطب لكنها لم تكن أحسن حالا من الجراحة بالإضافة إلى كونها أقل دقة أما الطب النفسى فلم يكن ينظر إليه كعلم حقيقى بل أقرب ما يكون الى الدجل فهو يتصدى لأمراض غامضة موهومة مجهولة السبب يكاد يشبه علم الكف وضرب الودع أو قراءة الفنجان، وأيضا كان الطبيب النفسى يعانى قلة المرضى نراه يركب معنا الأتوبيس أو السيارة المصرية ماركة رمسيس.

ثم تغير المجتمع المصرى بسرعة كبيرة منذ الانفتاح الاقتصادى والانغلاق الفكرى فى السبعينيات، ودخل الإيمان والكفر ضمن السلع بالسوق الحرة ومضاربات البورصة، وطغى استيراد البضائع الاجنبية على الإنتاج المصري، وانهمرت علينا المسابح وأحجبة النساء المستوردة، وتراكمت الأموال لدى الحكام ورجال الأعمال (القطط السمان) وازدادت الهوة بين الأغنياء والفقراء، ومعها المشاكل والاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية التى تم التجهيل بأسبابها السياسية الحقيقية، وتحولت فى أجهزة الإعلام إلى اضطرابات نفسية وأخلاقية يتنافس أطباء النفس على تشخيصها فهى خلل فى كيمياء المخ والهرمونات بسبب الاحباط أو الحقد الطبقى أو الإلحاد، وغياب الإيمان وعدم القناعة بالقسمة والنصيب فالأرزاق بيد الله يعطى من يشاء بغير حساب كما يعلن الرئيس المؤمن فى الإذاعات، وقد ينتج الإلحاد أيضا عن الفشل فى التكيف مع الواقع، والعجز عن تحقيق الاحلام المستحيلة، أو «الفوبيا» (تعنى الخوف) أصبح الفقراء يخافون المزيد من الفقر، وأصبح الأثرياء يخافون من قيام ثورة شعبية، وكان لابد من زيادة القمع السياسى والدينى لضمان الاستقرار هكذا لجأت السلطة الحاكمة للمشايخ ورجال الدين للتخويف من عقاب الله ، والى أطباء النفس للتخويف من التمرد على السلطة الأبوية فى الدولة أو العائلة، وازدهرت حياة المشايخ وأطباء النفس بازدياد الخوف والقلق، وانتشرت الفتاوى بعذاب القبر والثعبان الأقرع، والروشتات الطبية بمضادات الاكتئاب أو المنشطة لهرمونات السعادة والحب والإيمان ، هكذا نشأت طبقة عليا من المشايخ والدعاة الجدد وأطباء النفس امتلكوا العمارات والمليارات، وأصبحوا نجوم الإعلام والشاشات.

كنا نستقبل السنة الجديدة منذ يومين حين ظهر على الشاشة شيخ مرموق يتحدث عن ظاهرة الإلحاد الجديدة ويعتبرها مؤامرة أجنبية ماسونية ضد الإسلام تبعه طبيب نفسى مرموق اعتبر الإلحاد من الاضطرابات النفسية التى تصيب الشباب لأسباب مختلفة منها ضعف الوازع الديني، وتدهور الأخلاق بعد ثورة يناير وغياب السلطة الأبوية لسفر الأب الى الخليج أو فقدان الحنان الأمومى لانشغال المرأة عن واجباتها الأسرية بعملها البرانى أو طموحها الذاتي، وأخذ الطبيب المرموق يحلل نفسية الملحد قال إنه شخصية هستيرية أو باراناوية يعانى وسواسا قهريا يميل للتمرد والاستعلاء على السلطة الأبوية الحاكمة أو حتى الإلهية يميل إلى الشك والتساؤل والاختلاف عن الآخرين طلبا للشهرة (خالف تعرف)، وقد يكون مريضا بالفصام أو الخلل الشعورى أو اللاشعورى وغيرها من الاضطرابات الوجدانية.

كان معى مجموعة كبيرة من شباب وشابات شاركوا فى ثورة يناير يتمتعون بالصحة النفسية والجسمية أغلبهم من المتفوقين أو المبدعين فى مجالات مختلفة ضحكوا وهم يستمعون إلى الطبيب النفسى الذى تجاهل جميع الاكتشافات العلمية والفنية من الكهرباء إلى الكومبيوترات ومن السينما إلى السيمفونيات التى قامت بها عقول مبدعة متمردة بدأت بالشك والتساؤل وقد تقدمت شعوب متعددة شرقا وغربا، وأصبحت على قمة العالم دون أن تؤمن بالدين أو بالعقيدة التى نؤمن بها نتكلم كثيرا عن تجديد الفكر الديني، ولا نتكلم عن تجديد الفكر الطبى النفسى رغم العلاقة الوثيقة بينهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أوراقى حياتى
محمد محمود عبد القادر ( 2017 / 1 / 9 - 07:46 )
استمتعت جدا جدا بذكرياتك فى هذا الكتاب وخصوصا فى فترة التلمذة والدراسة وشارع الزيتون المؤدى لمحطة القطار فى الصباح الباكر وأيضا يوسف إدريس لما دخل عليكم المشرحة وبطة قالت عليه إن عليه بصة زى ما يكون قاتل واحد ... والعيال بتوع ثانوى لما كانوا بيعاكسوكى الصبح وانتى ماشية ويقولوا سامية جمال جت أهيه .. ولما دخلتى للدكتور العميد ووالدك قال لك - برافو يا نوال .. كتاب أكثر من رائع .. أهم خلاصة فيه ان نوال السعداوى انسانة متمردة على كل شىء فى الكون .. حتى على أنوثتها .. بركان من التمرد الممتع المثير للتأمل .. من الذى حكم على بأننى أنثى ؟ ومتى وقع هذا الحكم ولماذا ؟؟ أنا أرفض هذا الحكم .. أمقته وأركله برجلى وأقف فوقه رافعة رأسى الى السماء .. ولكن السماء لا تزال عالية .. أعلى من رأسى بكثير .. وهذه المشكلة كلفتنى ثمنا باهظا جدا .. كلفتنى عمرى كله


2 - اشكاليه
كامل حرب ( 2017 / 1 / 9 - 19:49 )
من المحزن والمؤسف الحال الذى يعيش فيه اولاد عربان واسلام على مدار قرون وقرون وهم فى جهل وظلام وبؤس , فى تقديرى ان السبب الكارثى لمحنه العربان هو هذا الثنائى الاغبر (العروبه والاسلام) حينما يختفى هذا الثنائى الكريه سوف يكون المسلمين فى طريق الشفاء


3 - الطب النفسي لم يقل مثل هذا الكلام ابدا
طلال الربيعي ( 2017 / 1 / 9 - 21:49 )
سيدتي الفاضلة
تقولين
-نتكلم كثيرا عن تجديد الفكر الديني، ولا نتكلم عن تجديد الفكر الطبى النفسى رغم العلاقة الوثيقة بينهم-!
واني في الحقيقة استغرب جدا من كلامك هذا وتعميمك وتحميلك الطب النفسي مسؤولية ما يقوله هذا الطبيب النفسي من كلام لا صحة له بالمرة. فما يزعمه هو بكون الالحاد مرض او اضطراب نفسي هو كذب وافتراء, فلم يقل الطب النفسي مثل هذا الكلام لا من قريب او بعيد. انه طبيب مفتري او جاهل او الاثنان معا, وينبغي على الجهات الرسمية مثل وزارة الصحة او نقابة الاطباء في بلده محاسبته محاسبة شديدة على كذبه وتشويهه للحقائق الطبية واساءة استخدامه الطب لخدمة اغراضه الدينية الشريرة.
وبنبغي ايضا اقامة دعوى ضد هذا الطبيب من قبل منظمات حقوق الانسان لاثارته الكراهية والعداوة بين الناس.

اخر الافلام

.. الجماعة الإسلامية في لبنان: استشهاد اثنين من قادة الجناح الع


.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية




.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-


.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها




.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24