الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مساحة الفراغ بين الواقع و الإدراك

جلال مجاهدي

2017 / 1 / 24
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الانسان يعيش حسيا و إدراكيا في جزء من عالم الواقع و ليس في الواقع كما هو , أفكاره ما هي إلا نتائج ترسبات لصور ذهنية و عمليات عقلية و وجدانية واعية و لاواعية تنسج صورة ما يعتبر أنها حقيقة للواقع؛ الواقع كما يتصوره لا يعدوا أن يكون واقع الحواس و التأويلات العقلية الواعية و اللاواعية له , ما يربط الإنسان بالعالم الخارجي هي حواسه التي تحول ما يراه و يسمعه و ما يشتمه و ما يلمسه و ما يتذوقه إلى معلومات يقوم العقل بالتعرف عليها و تمحيصها و التفاعل معها بشكل أو بآخر , الانسان لا يدرك سوى جانب بسيط من الواقع, فالحواس دائما متهمة و قاصرة عن إدراك ما وراء حدود قواها و العقل لا يسعفه إلا ما تمكنه منه عملياته الادراكية الممكنة, الواقع الكبير يجمع أربعة أوجه , الاول وهو الحسي الادراكي الذي نستطيع التعرف عليه بحواسنا و تدركه عقولنا مثل العوالم المادية بصفة عامة والثاني وهو المدرك غير المحسوس الذي نستدل عليه بعقولنا و لا تصل إليه حواسنا كالجاذبية مثلا و الثالث و هو المدرك المحسوس الذي نستطيع التعرف عليه بحواسنا لكن لا نستطيع الوصول إلى فهمه بعقولنا كتفسير و جود الأكوان و ما إلى ذلك , ثم الرابع و الأخير و هو المغيب الذي لا نستطيع الوصول إليه لا بحواسنا و لا بعقولنا , إذن الواقع يجمع ما يقع في دائرة الادراك و ما يقع خارجها أي يشمل ما نعيه كواقع إضافة إلى ما وراء الواقع.
الحقيقة العامة كما يسميها المعجم الفلسفي لا تدرك و هي ليست موضوعا علميا يمكن البحث فيه , فحقيقة الشيء هي ماهيته و الماهية هي أمر خارج عن قدرة العمليات الادراكية للعقل البشري , فالوجود المحسوس واقع , لكن الكنه و الماهية أي حقيقته لا ندركها و بالتالي فلا أحد من البشر يعرف حقيقة الأشياء و الوجود إطلاقا , لذلك فعندما يستعمل مصطلح حقيقة الواقع , فلا يقصد منه الحقيقة العامة , بل صفات نضفيها على جوانب من الواقع كما نتمثله و نقصد بها تمفصلاته وأشكاله ومؤدياته , و إذا كانت هذه التمفصلات و الأشكال و المؤديات هي أمور إدراكية , فإن ذاتية المدرك هي من تحددها بالنسبة لها فقط دون باقي الذوات و دون أن تصل لإدراك الواقع كما هو - هذه التمثلات التي تشكل حقيقة ما يعتقد الانسان أنه الحقيقة , هي ما يصطلح عليه ب"مبدأ الواقع" أو "مبدأ الحقيقة " و هي النسخة الادراكية للعقل البشري و التي تتفاوت مساحة الفراغ بينها و بين الحقيقة الواقعية من ذات لأخرى ومن هذا المنطلق ,لا يمكننا الحديث عن الواقع ,بل عن شبه الواقع la pseudo-realité ,الذي نكونه ونعيش به و نتعايش من خلاله ونجعله مقاس ومقياس ما نعتقد أنه حقيقة و السؤال الفلسفي الذي يحاول أن يجيب عن مدى تطابق الأفكار من حيث هي تمثلات مع الواقع من حيث هو معطى يبقى دائما بدون جواب , طالما أن أي ادعاء بإدراك الواقع كما هو, لا يعدوا أن يكون جوابا ذاتيا ناتجا عن التشفير العقلي الذاتي للمعطى و ناتج عن احتكاك الذات المجيبة بالموضوع

إثر عصر الأنوار اهتدى الانسان إلى مقاييس يقاس بها مدى تطابق الواقع مع التمثلات العقلية و لم تكن هذا المقاييس سوى العقلنة و العلمنة و الموضوعية و كل ما وراء ذلك أو دونه من معارف تم رفضها لعدم استجابتها للمناهج العلمية القائمة على التجربة أو الاستقراء , لكن هذه المقاييس أيضا لم يعرف مداها و الى أي حد يمكن اعتبار نظرية ما كنظرية علمية و هو ما تنبه له المفكر النمساوي كارل بوبير حين قرر أن مجموعة من النظريات لا تختلف عن الاسطورة من حيث الأساس العلمي الموضوعي كنظرية فرويد و نظرية أدلر في علم النفس و نظرية التطور لداروين و نظرية ماركس و نظرية النسبية لاينشتاين , هذه النظريات شبهها بعلم التنجيم في علاقتها بالواقع .

كارل بوبير إن كان في طرحه يقدم وجهات نظر مسميا إياها بالتفنيدات العلمية لمجموعة من النظريات لعدم استجابتها للمقياس العلمي المطلوب و هو الأمر الصحيح بالنظر لكون هذه النظريات لا يمكن فحص أساساتها العلمية الموضوعية فإنه ضمنا لم يجرد هذه النظريات من قيمتها العلمية طالما أنه كان يعترف بأن لها قوتها التفسيرية .

السؤال المطروح هنا هو هل يجب إخضاع كل المعارف إلى المناهج العلمية الصرفة القائمة على التجربة أو الاستقراء أو يجب البحث عن مناهج علمية لمجموعة من المعارف تعتمد على مناهج علمية أخرى ؟

يبدوا أن السؤال نفسه يتضمن الجواب , فحين يقرر المفكر كارل بوبير أن النظريات التي فندها على أساس علمي محض هي نظريات لها قوتها التفسيرية , فهو يقرر ضمنا بأن قوتها تتجلى في كونها تفسر بعض جوانب الواقع التي تقع خارج دائرة العلم التجريبي او الاستقرائي .

و من تم يثور التساؤل الثاني الذي هو هل يمكن للعلم الموضوعي العقلاني تفسير جميع جوانب الواقع ؟

الجواب عن هذا السؤال هو حل لعقدة العقلنة الشاملة التعميمية التي انتهجها العقل الأداتي المبالغ في العلمنة و العقلنة و الموضوعية , فالعديد من المعارف الانسانية لا يمكن إثبات صحة ما تدعيه إذا ما تعرضت للتمحيص الموضوعي العلمي العقلاني لكن وصفها باللاعلمية هو وصف غير صحيح بالنظر لكونها في طبيعتها هي معارف تقع خارج دائرة القياس و التجربة الامبيريقية و الاستقراء و بالتالي فلا يمكن تمحيصها إلا من خلال نتائجها و من خلال ما تقدمه من تفسيرات لجوانب الواقع التي لا يستطيع العلم الموضوعي العقلاني الخوض فيها أو تقديم إجابات بخصوصها لعدم قابليتها للتجربة او الاستقراء.

العقلنة في ظل هذه الاستنتاجات تقتضي تطوير نموذج آخر للمناهج العلمية للمعارف الانسانية الخارجة عن دائرة التجربة و الاستقراء , و ذلك للتقرب من إدراك الواقع في جميع جوانبه, ليصل الإنسان إلى التمثل الأمثل للواقع في تجلياته المحسوسة و غير المحسوسة , ليبلغ بذلك رشده الوجودي للارتقاء به في أفق المعنى و القيمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرات الطلاب الأمريكيين ضد الحرب في غزة تلهم الطلاب في فرن


.. -البطل الخارق- غريندايزر في باريس! • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بلينكن في الصين.. مهمة صعبة وشائكة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بلينكن يصل إسرائيل الثلاثاء المقبل في زيارة هي السابعة له من




.. مسؤولون مصريون: وفد مصري رفيع المستوى توجه لإسرائيل مع رؤية