الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحليل الجدل الفقهي والقانوني حول موانع الميراث في الشريعة الإسلامية بحث قانوني – المحامي محمد ابداح

محمد ابداح

2017 / 1 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تمهيـد
يعمد المشرّع أحيانا إلى البت في حالات معيّنة ويحجم عن أخرى رغم التيَقن من وقوعها فعلا، ورغم أن الشاهد هو من أهله (سجل السوابق القضائية)، غير أن النص القانوني - الساري منه أو الملغى- قد تعامل مع وقائع قانونية عملية ، في حين أن النص الجديد تجاهلها وسكت عنها، ولعلّ بعض نصوص قوانين الأحوال الشخصيّة في الدول العربية، تعد من أبرز الأمثلة التي يتجلى فيها نهج المشرع في اتباع أسلوب الصمت عن حالات لا يعد السكوت عنها قرارا حكيما أو حتى خياراً عادلا، لأن البديل سيكون في هذه الحالة هو الإجتهاد الفقهي والقضائي والذي قد يضم مختلف الآراء الفكرية والتوجهات الإيديولوجية ، فتأتي النتيجة على غير ما هو متوقع من النص القانوني في سبيل تحقيق العدالة.
من المؤكد تاريخيا أن باب الإجتهاد الفقهي- نتيجة لكثرة مذاهبه- يعد الوجه الآخر لعملة الجدل، ولعل أسوأ مثال في فصول قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية التي صيغت بأسلوب مثير الجدل، هو التعاطي مع مصطلح (التبعيضية)، مما جعل من موقف القضاء من موانع الإرث مشوبا بالغموض ، وللتوضيح فقط ففي النحو والصرف وفقا للمعجم الوسيط ، فإن حرف (مِنْ) يُقصد به الدَّلالة على جزء مِنْ كُلّ ، كما تُستعمل بعضُ معاني الحروف للدّلالة على التبعيض، وبعض الشيء جزأه، وفي الإصطلاح القانوني فإن التبعيض هو اتباع مرجعا معينا في بعض الفتاوى واتباع آخر مخالفا في قضايا مماثلة .
تتفق غالبية نصوص مواد قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية والتي تناولت موانع الميراث في الشكل والمضمون، ويختلف القضاء في تأويل النص عند إصدار الحكم، فمن المعلوم بأن الممنوع من الإرث هو مستحق للإرث شرعا وقانونا، لكنه اتسم بصفة سلبت عنه أهلية الإرث، نتيجة لارتباطه بأحد موانع الإرث المذكورة في الفقه الإسلامي، فوفقا لقواعد الميراث في قوانين الأحوال الشخصية لكافة الدول العربية فإن موانع الميراث هي سبعة موانع اختصرها الفقه الإسلامي في عبارة ( عش لك رزق) ، وهي: العين (عدم استهلال الجنين حيا)، فلطالما بقي الجنين في رحم أمه حيا تحسب حصته كذكر أي ضعف نصيب الإنثى ، فاذا استهل حيا استحق حصته كاملة إن كان ذكرا، ونصفها إن كان الجنين أنثى، أما إن استهل ميتا فتنتقل حصته لباقي الورثة، الشين (الشك في من مات قبل الأخر)، فالموت المتزامن لشخصين ولو في حادثين منفصلين يحول دون أن يرث أحدهما من الأخر، اللام (اللعان)، وهو ما يقع بين الزوجين بسبب نفي نسب الحمل أو دعوى رؤية الزنا، وهو أمر مدار جدل فقهي وقانوني، الكاف (الكفر)، وهو أيضا أمر مدار جدل فقهي وقانوني، الراء (الرق)، وقضية الرق لم يعد لها وجود لتحريم الرق قانونا، إلا في صحف الأولين وتخريج الآخرين من فقهاء الإسلام كون الإسلام لم يحرم تجارة الرقيق ولا العبودية رغم قولة عمر ابن الخطاب المشهورة (متى استعبدتم الناس..)، ولمن يحاجج في هذا الأمر تحديدا فالقرآن الكريم أيضا لم يساوي بين الحر والعبد في الحقوق والواجبات وحتى في العقوبات، الزاي (الزنا)، ومعناه أن ولد الزنا لا توارث بينه وبين من تخلق من مائه، و أما أمه فترثه ويرثها، والحديث عن الجدل الدائر حول هذه القضية لاحدود له فابن أو ابنة الزنا لاترث أباها بموجب القانون الشرعي والوضعي، حتى وإن ثبت النسب بالوسائل العلمية الحديثة ( الحامض النووي)، وما يترتب على ذلك من تبعات خطيرة بحق من لاذنب له في خطيئة الجاني، وكأن القضاء الشرعي الإسلامي بهذا النص يكافىء الزاني بإعفاءه ( شرعيا) من كافة التبعات القانونية والنفقات المترتبة بحقه تجاه ابنه أو ابنته من الزنى، ويعاقب الأخيرَيْن بأن يعيشا في الملاجيء أو الشوارع، القاف (القتل)، وهو مانع مقرر في السنة النبوية ( ليس للقاتل من تركة المقتول شيء) ، وفي رواية (القاتل لا يرث) ، ومنه خرجت قاعدة: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه".
قد يثير هذا البحث حفيظة البعض ممن يدينون بالوفاء الأعمى لآراء المذاهب الفقهية في الشريعة الإسلامية والمختلفة فيما بينها أصلاً، غير أن الحقيقة التي لايختلف حولها عاقلان بأن القوانين الوضعية بمجملها ذات طبيعة متغيرة وفق متطلبات العدالة التي يراها المشرع محققة لها. تأسيسا على ذلك فإن هذا البحث لايهدف إلى الإساءة لأي معتقد فكري أو مذهبي بأي طريقة كانت، وإنما يهدف لتسليط الضوء على واقع قانوني معيب للعدالة ومعيق لتحقيقها، وفي أغلب فصوله مشوب بالغموض المفضي للضرر، وقد يكون هدمُ جبلِ بمطرقة أسهل من إعداد بحث أو كتاب جيد، ولست أعد القارىء الكريم بأن الحديث عن عيوب موانع الإرث في نصوص ومواد قانون الأحوال الشخصية في الدول العربية سيكون نزهة، لأنها لم تكن كذلك بالنسبة لي!. غير أنه لابد من إظهار الحقائق من الواقع القضائي العملي، ولعلي أجد ممن يؤيدون ما سيرد في هذا البحث المزيد من الأصوات الداعمة لإزالة الغموض الذي يشوب بعض نصوص ومواد قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بموانع الميراث في الشريعة الإسلامية.
لا ريب أن لجان الفقه ومشرعي القوانين في الدول العربية لم تزل ومنذ انفراط عقد الخلافة العثمانية في محاولة دائمة ومستمرة لتطوير القوانين المدنية والجزائية والسيادية عموما، وقوانين الأحوال الشخصية خصوصا. وفي الحقيقة إن تلك المهمة لسيت بالسهلة على الإطلاق نتيجة محاولة التوفيق بين الإرث القانوني لمجلة الأحكام العدلية العثمانية والتي تمثل تعاليم الشريعة الإسلامية، وبين السياسة القسرية لتغيير القوانين بشكل يمس السيادة الوطنية، والتي فرضتها ظروف الإستعمار الغربي للدول العربية، ناهيك على أن مصادرالفقه الإسلامي باتت شكلية في كثير من نصوص القوانين والتشريعات المعاصرة، وشاهد ذلك القانون المدني المصري الذي تم صياغته من قبل الدكتور عبد الرزق السنهوري أواخر القرن التاسع عشر، والذي اعتمد فيه على القانون المدني الفرنسي والمستمد بدوره من روح الثورة الفرنسية أواخرالقرن الثامن عشر، فضلا عن القانون المدني التونسي ومجلة الأحوال الشخصية التونسية المثيرة للجدل وقانون الأسرة الجزائري وغيره من قوانين الأحوال الشخصية العربية.
يعتمد هذا البحث بالدرجة الأولى على السوابق القضائية والأحكام الخاصة بقضايا موانع الميراث والمقامة لدى المحاكم الشرعية في الدول العربية المشمولة بهذه البحث، فضلا عن المواد الواردة في قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالميراث وتقسيم التركات، ويشمل على توطئة تظهر درجات المحاكم الشرعية وأصول المحاكمات الشرعية، والآراء والإجتهادات والأحكام القضائية الصادرة بحق بعض قضايا الميراث والطعون المقدمة ضدها، والملاحظات القانونية والحلول المقترحة لها.

القسم الأول
قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية
تحدد الدساتير الوطنية للدول كافة، الأسس التي يقوم عليها النظام القضائي فيها، تاركة تفصيل ذلك إلى قوانين خاصة، حيث تنص تلك الدساتير عموما على أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر جميع الأحكام وفقاً للقانون باسم رئيس الدولة وفق المسمى الخاص به، وغالبا ما يقسَم الدستور المحاكم إلى ثلاثة أنواع: نظامية، دينية، وخاصة، ويعيَن أنواع المحاكم ودرجاتها وأقسامها واختصاصاتها وكيفية إدارتها بقانون خاص، كما ينص على إنشاء محكمة عدل عليا.
ما يهمنا في هذا البحث هي المحاكم الدينية والتي تشمل المحاكم الشرعية المعنية بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية إلى جانب أحكام قوانين أصول المحاكمات الشرعية وقوانين الأحوال الشخصية، والتي غالبا ما يكون التقاضي فيها على درجة أولى (بدائية) واستئناف فقط، ويشرف عليها وعلى قضاتها قاضي القضاة، ويساعده في ذلك مدير المحكمة الشرعية، كما وتختص المحاكم الشرعية وحدها دون غيرها وفقا لقوانينها الخاصة، بحق القضاء في الأمور التالية:
1- مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين من زواج وطلاق وحضانة ونفقة ومواريث ووصايا.
2- قضايا الدية في حال كان الفريقان مسلمان، أو كان أحدهما غير مسلم ورضي الاثنان باختصاصها.
3- الأمور المتعلقة بالأوقاف الإسلامية.
كما وتشتمل المحاكم الدينية في الدول العربية على مجالس الطوائف غير المسلمة (المحاكم الكنسية)، وهي عادة لا تتبع القضاء النظامي، وتختص بنظر قضايا الأحوال الشخصية لأبناء طائفتها في الدولة المعنية، كالمحاكم الخاصة بطوائف الأقباط والروم والسريان والأرمن بمصر على سبيل المثال، وفي الأردن المحاكم الكنسية الخاصة بطوائف الروم الأرثدوكس، والروم الكاثوليك، وطائفة اللاتين، وطائفة الأرمن، والطائفة الإنجيلية الأسقفية العربية، وفي سوريا المحاكم الطائفية لغير المسلمين، والتي تدعى "المحاكم الروحية"، والتي تختص بنظر قضايا الأحوال الشخصية للطوائف المارونية، والروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والأرمن الأرثوذكس، والسريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك، والطائفة الآشورية الكلدانية، وطائفة الكلدان الكاثوليك، والطائفة اللاتينية؛ كما توجد محاكم روحية للطائفة الدرزية والإسرائيلية (كنيس دمشق وحلب) ، وهذه المحاكم على درجتين: بدائية واستئنافية، فالمحاكم البدائية مؤلَّفة من قاضٍ فرد؛ أما المحاكم الاستئنافية فهي مؤلَّفة من رئيس وقاضيين، وفي حال وجود طائفة دينية غير مسلمة ليس لها مجلس خاص للنظر في قضايا الأحوال الشخصية المتعلقة بأتباعها، فتنص القوانين على أن يكون للمحاكم النظامية صلاحية البت في الموضوع، على أن تسترشد بقواعد العدل، وأن تسير في ضوء قواعد واعتقادات الطائفة المذكورة التي تثبت بموجب الأصول المنصوص عليها في قوانين مجالس الطوائف الدينية غير المسلمة للدولة المعنية، وإذا لم يكن للطائفة مجموعة قواعد مكتوبة، أو كان ثمة شك في القواعد التي يجب تطبيقها، تطبق قواعد الطائفة التي تعرف بكونها الأقرب إلى الطائفة التي ينتمي إليها الفريق أو الفرقاء .
قد ترد بعض العبارات أثناء قراءة نص ما، فتبدو متوافقة مع السياق العام للموضوع، غير أن الحقيقة تفرض التوقف عند بعض تلك العبارات لمعرفة عمق مضمونها والغرض الحقيقي من وجودها، فقد أوردتٌ في الفقرة السابقة عبارة (المحاكم الكنسية عادة لا تتبع القضاء النظامي)، فإن كانت المحاكم الكنسية لا تتبع النظام القضائي بالدولة - وهو جهاز سيادي - فلأي نظام قضائي تتبع؟ سؤال استدعتني الإجابة عنه اكتشاف بعض الحقائق القانونية والتاريخية الهامة والمثيرة للدهشة أحيانا، مما قد يساهم في إزالة بعض الغموض الذي يكتنف بعض نصوص مواد قوانين الأحوال الشخصية في الدول العربية عموما، وقوانين الميراث وتقسيم التركات على وجه الخصوص.
في الوقت الذي تسعى فيه سياسات بعض الدول العربية إلى تطوير قوانين أحوال شخصية معاصرة، لكافة المقيمين على أراضيها بمختلف عقائدهم وجنسياتهم، تقف تلك السياسات أمام بعض الاعتبارات منها عقيدية واجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها، يعنينا منها في هذا البحث البعد الديني والسياسي، الأول ذو طابع خاص، سنفصل بيانه في القسم الثاني من هذا البحث، في سياق الحديث عن موانع الميراث وفقا لقوانين الأحوال الشخصية العربية، يبقى لدينا الآن تناول الجانب السياسي، وهو بدوره يشكل مادة خصبة للباحثين، لتعلقه بمعاهدات واتفاقيات دولية متبادلة، غير أنه لابد من التطرق إلى تأثيره السلبي والمباشرعلى تشريع نصوص مواد قانون الأحوال الشخصية بما فيها المواد المتعلقة بالمواريث وتقسيم التركات.
الفرع الأول: واقع قانون الأحوال الشخصية في الدول العربية أثناء الحكم العثماني:
للحقيقة وجه واحد فقط والعديد من الأوصاف، كالجارحة والمُرة والوقحة وغيرها، سنأخذ بالمُرة ونترك الوقحة لإؤلائك الذين عبثوا بالنظام التشريعي والقضائي في العديد من الدول العربية، ولتلك الحقيقة المرة تاريخ لابد من ذكره، كونه خلق في بلاد ذات سيادة، قضاءٌ خارجٌ عن القضاء النظامي وقضاة مستقلين تماما عن رقابة السلطة القضائية، تاريخ تبدأ فصوله أوائل القرن التاسع عشر، حيث كان ثمة لدى كل طائفة غير مسلمة في الولايات العربية -أثناء الحكم العثماني- محاكم خاصة بها ، تنظر في دعاوى الأحوال الشخصية العائدة لأبناء طائفتها، وورثتْها الدولُ العربية من الإمبراطورية العثمانية بعد استقلالها عنها، وإذا كانت هذه المحاكم قد أُلغِيَتْ شكليا إلا أنها مازالت قائمةً بأعمالها في معظم الدول العربية، فمتى وُجِدَتْ هذه المحاكم؟ وما هو مدى اختصاصها؟ وكيف تؤلَّف؟ وما هي الأصول المتبعة أمامها؟ وما هي طُرُق الطعن بالأحكام التي تصدرها؟ وهل من ضرورة لوجودها أو لبقائها؟
ظهرت الامتيازاتُ الممنوحة للطوائف المسيحية في الدولة العثمانية في عهد السلطان محمد الثاني، وقد مُنحت ابتداءا لطائفة الروم الأرثوذكس؛ وشملت هذه الامتيازات -لاحقا- أبناءَ الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية، وتلتها باقي الطوائف الغير مسلمة، وتلك الامتيازات كانت شاملةً جميعَ المسائل الإدارية والمالية والقضائية، وقد مُنِحَ رؤساءُ الطوائف المسيحية حقَّ فرض الضرائب على أبناء طوائفهم، وصلاحيةَ الحكم في الخلافات الناشبة بينهم وسنِّ التشريعات اللازمة لذلك ، ولم يكن السبب الرئيسي في منح تلك الإمتيازات هومن باب التسامح الديني الذي عهده أهل الذمة من قبل المسلمين الفاتحين، بل نتيجة رزمة من المعاهدات والإتفاقيات الدولية بين الدولة العثمانية من جهة وكل من روسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا، ولطالما سعى سلاطين بنى عثمان الرجوع عن هذه الامتيازات أو الحد منها، لمخالفتها مبدأ سيادة الدولة، وذلك منذ العام 1520 في عهد السلطان سليم الأول، ولكن بلا طائل نتيجة تدخل الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا وإنكلترا وروسيا، حتى إن روسيا فرضت حمايتها رسميًّا على أبناء الكنيسة الأرثوذكسية بمعاهدة كوتشوك كينارجي المعقودة في العام 1774.
استمر تدخل الدول الأجنبية في شؤون الدولة العثمانية بشكل عام، والقضاء بشكل خاص، تحت ستار حماية حقوق أبناء الطوائف المسيحية، طيلة فترة الحكم العثماني، ولم يتمكن الأتراك ورغم هذا الوضع الشاذ الذي يُعتبَر من دون شك ماسًّا بالسيادة الوطنية؛ من فعل أي شيء تجاه هذا الأمر، وطالت يد التدخل الخارجي في شؤون القضاء الوطني العثماني ليشمل المحاكم الشرعية الإسلامية! كون الأخيرة كانت تقبل مراجعات الخصوم من غير المسلمين وتفصل في الدعاوى القائمة بينهم، حتى عندما تكون هذه الدعاوى من اختصاص المحاكم الطائفية حصرًا، ومنها قضايا الزواج والطلاق والميراث وتقسيم التركات، وعلى الرغم من جميع ما ذُكِر، لم يتمكن سلاطين بني عثمان من إلغاء الامتيازات التي سبق منحُها، بل على العكس تأكدت هذه الامتيازات بإرادة سَنِيَّة، مؤرخة في 18 شباط سنة 1856، نصَّتْ على أن (جميع الامتيازات الممنوحة منذ القديم من قبل أسلافنا لرعايا الطوائف المسيحية وغيرها من الطوائف غير المسلمة المقيمين في البلاد تثبُتُ وتبقى قائمةً ونافذة) ، مما اضطر الحكومة العثمانية آنذك لإصدار هذه الإرادة السنية عقب حرب القرم، وأشير إليها في معاهدة باريس في المادة التاسعة منها، هذه الإرادة السنية التي أعطت الامتيازات الممنوحة سابقًا صفتَها الشرعية، قد فرضتْها على الدولة العثمانية الدولُ الأجنبية الكبرى، وعلى وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا والنمسا.
وقد كان من أخطر ماورد في الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 تأكيدا للامتيازات الممنوحة للرعايا من غير المسلمين، هو امتداد اختصاصَ المحاكم الطائفية على بعض أنواع الدعاوى المدنية الخاصة، كدعاوى الميراث وتقسيم التركات، والدعاوى المتعلقة بمسائل التعويض الناشئ عن فسخ الخطبة وبمسائل النفقة العائدة للأصول والفروع ، وبتاريخ 4 نيسان سنة 1883، أصدرت وزارةُ العدل التركية بلاغًا تفسيريًّا للإرادة السنية، الصادرة في العام 1856، أجازت بمقتضاه لمحاكم الدولة النظامية النظر في جميع الخلافات الناشئة بين الرعايا المسيحيين والمتعلقة بالوصية والتركة في حال رفض أحدُ الخصوم في الدعاوى قضاءَ المحاكم الطائفية.
ولمن لايعلم فقد ورد في معاهدة 1856م بنود ونصوص مهينة للسلطان عبد الحميد الثاني شخصيا وللمسلمين بشكل عام، حيث نصت المادة التاسعة من المعاهدة المذكورة حرفيا على ( أن كافة التشريعات القانونية والإجراءات القضائية التي تشمل القانون المدني والقانون الجزائي وقانون الأحوال الشخصية، وكافة الإجراءات القانونية والتنظيمة واللوائح التي تروم الدولة العثمانية باصدارها أو تعديلها أو إجراءها في جميع الولايات التي تقع تحت سيطرتها، على الباب العالي بأن يشرع في إتمام كافة تلك الأجراءات والأحكام والقوانين بحيث تكون تلك القوانين والأحكام وفقا للقانون المدني الفرنسي!! ولحق ذلك مؤتمر برلين في 13 يوليو عام 1878م، والذي فرض على الدولة العثمانية بأن يتم تشريع قانون أصول المحاكمات الجنائية فيها وفق القوانين السارية في كل من محاكم إنجلترا وفرنسا!! وأن أية قوانين أو تعديلات أو أحكام صادرة عن السلطات العثمانية يجب أن تحظى بموافقة دول المؤتمر.
وفي العام 1888، بدى أن الدولة العثمانية شعرت بدنو أجلها، فقامت بمحاولة يائسة لرفع المسؤولية القانونية والتاريخية عن نفسها تجاه إفساد المنظومة القضائية والتشريعية في الولايات العربية الخاضعة تحت سيطرتها، حيث أصدر وزير العدل التركي -آنذك- جودت باشا قرارا بوقف صلاحيات المحاكم الطائفية بالنظر أو إصدار أو تنفيذ الأحكام في دعاوى الميراث والزواج والطلاق والنفقة أو النظر فيها، وبقرار آخر في شهر أيار سنة 1898، منع بموجبه المحاكم الطائفية ( الكنسية تحديدا) من النظر في الدعاوى المتعلقة بمسائل التعويض الناشئ عن فسخ الخطبة ومسائل النفقة العائدة للأصول والفروع، وقبيل إطلاق الملك حسين ( شريف مكة أنذك) رصاصة الرحمة على جسد الخلافة العثمانية، والنكبة على الأمة العربية والإسلامية، قامت الحكومة العثمانية بإلغاء جميع اختصاصات المحاكم الكنسية بالقانون الصادر في 25 تشرين الأول 1333 هجري (1914م) المسمَّى (قانون حقوق العائلة)؛ والذي نصت المادة 156 من ذات القانون على أن حقوق قضاء الرؤساء الروحانيين بخصوص الميراث، والنكاح وفسخه، وما يتبع ذلك من نفقات الزوجات والدراخومية [الدوطة] والجهاز، وعموم قضايا الأحوال الشخصية ملغاة.
وبهذا، تكون الإمبراطورية العثمانية قد أبرأت ذمتها - قانونيا- تجاه التدخل الغربي في قانون الأحوال الشخصية الإسلامي والقضاء الشرعي في الولايات العربية قبل استقلالها عقب الحرب العالمية الأولى، ولكن سرعان ما أعيد الوضع على أسوأ مما كان، وعلى أيدي بعض الملوك والزعماء العرب شخصيا، فعلى سبيل المثال أصدر الملك فيصل في 19 كانون الثاني سنة 1919 القانون المتعلق بالنظام القضائي؛ إذ نصت المادة 18 من هذا القانون على أن المحاكم الطائفية للطوائف غير المسلمة تحتفظ باختصاصاتها القضائية وبحقوقها كما في السابق، كان ذلك في سوريا، وتبعه قرار مماثل من قبل ملوك كل من العراق والأردن، أما في لبنان فصدر القرار رقم 1003 الصادر عن حاكم لبنان الكبير بتاريخ 17 كانون الأول سنة 1921 الذي نصَّ في المادة الأولى منه على إلغاء المادة 156 من القانون الصادر بتاريخ 25 تشرين الأول 1333 بخصوص حقوق العائلة، أما المادة الثانية من ذات القرار نصت على أن كافة الأحكام الصادرة قبل هذا القرار من قبل المجالس الروحية في المسائل ضمن صلاحيتها المعترَف بها قبل قانون 25 تشرين الأول سنة 1333 تنفَّذ وفقًا لقانون الإجراء .
فُرِضَ الانتدابُ البريطاني والفرنسي والإيطالي ذات الأمر على مصر وتونس والجزائر والمغرب وليبيا، وكان من الطبيعي أن تبقى الامتيازات القضائية للطوائف غير المسلمة قائمة في ظل الانتداب، ولكن إذا كان قرار الملك فيصل قد أعاد للمحاكم الطائفية اختصاصاتِها القضائية "كما في السابق"، إلا أن الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 والقوانين التشريعية التي جاءت مفسِّرة لها جعلت مدى اختصاص المحاكم الطائفية غامضًا غموضًا كليًّا، وكان من الطبيعي، بسبب هذا الغموض، أن يحصل نزاعٌ مستمر بين المحاكم الشرعية والمحاكم الطائفية حول اختصاص كلٍّ من المحكمتين في عموم الدول العربية المذكورة سابقا، مما حدا بالمشِّرع - للأسف ليس العربي- بل كان آنذاك ممثلاً بكل من المفوض السامي البريطاني ونظيريه الفرنسي والإيطالي الإجتماع بتاريخ 5 كانون الأول سنة 1924، ونتج عن ذلك الإجتماع القرار رقم 2978، والذي أنشأ بمقتضاه محاكم خاصة، سُميت بـ"محكمة الخلافات"، للنظر في التنازع الذي يمكن حصوله فيما يتعلق بتنازع اختصاص المحاكم الشرعية الإسلامية والمحاكم الكنسية.
ولم يكتفِ المشرِّع الأوروبي بذلك، بل وجد من الضروري أن يحدد اختصاص المحاكم الطائفية تحديدًا واضحًا صريحًا، فأصدر المفوض السامي الفرنسي في سوريا (دوجوفنيل) القرار رقم 261، بتاريخ 28 نيسان سنة 1926، حدد بمقتضاه اختصاص المحاكم الطائفية للنظر في الدعاوى الناشئة عن قضايا الميراث وتقسيم التركات، وكذلك انعقاد الزواج وفسخه والتفريق والطلاق والنفقة بين الزوجين.
غير أن المشِّرع الغربي قد أخطأ -عن عمد- بإصداره تلك القرارات، ذلك بأن ساوى فيه بين المحاكم الشرعية الإسلامية والمحاكم الطائفية، وقلص اختصاص المحاكم الشرعية، الأمرالذي أربك مفاصل العملية التشريعية ابتداءا والقضائية والتنفيذية انتهاءا، أي بعبارة أدق أفسد عمل الأجهزة التشريعية والقضائية برمتها في الدول العربية، ورغم كل المحاولات الخجولة التي حدت بالسلطات الرسمية للدول العربية ، بتصويب تلك الكارثة التشريعية والقضائية، كالقرار الرئاسي رقم 238 ، والصادر بتاريخ 20 حزيران 1928، المتعلق بالنظام القضائي في سورية، حيث نصَّتْ المادة 69 منه على أن اختصاص المحاكم الطائفية لغير المسلمين تبقى تابعةً بصورة مؤقتة للتشريع النافذ آنذك - وهو التشريع العثماني وتعديلاته- وذات الأمر في لبنان بالقرار رقم 102، بتاريخ 30 حزيران سنة 1926، وكذلك الأمر في الأردن ( قانون مجلس الطوائف الدينية الغير مسلمة لعام 1938م)، وكل من تونس ( مجلة الأحكام الشخصية) والجزائر( قانون الأسرة الجزائري)، إلا أن هذا التشريع الذي كان نافذًا - آنذك- لم يكن إلا تلك الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 والقرارات اللاحقة المفسِّرة أو المعدلة لها، ولما كان اختصاص المحاكم الطائفية يبقى تابعا (بصورة مؤقتة) للتشريع النافذ، كان من المأمول أن يأتي تشريع آخر يزيل هذه الصفة المؤقتة، وذلك بانهاء اختصاص هذه المحاكم الطائفية المُنشئة على مبدأ (كلمة حق يراد بها باطل)، والتي لم يعد يخفى على أي عاقل سبب إنشاءها، فلم يعد ثمة أي مبرر لوجودها، وخصوصا أمام الشكاوي العملية التي كانت تتعرض لها من قبل المواطنين، من أبناء الطوائف غير المسلمة، وحتى يومنا هذا، حتى أن بعض الأشخاص يعمد لاعتناق الإسلام كي يذهب بقضيته للمحاكم الشرعية الإسلامية على الرغم مما لحق بها من عبث وافساد تشريعي وقضائي.
نالت الدول العربية استقلالها، فكان من المنتظَر أن تُلغى جميع المحاكم التي هي وليدة الامتيازات الأجنبية، فألغيت المحاكم الطائفية شكليا، فاستمرت بأداء عملها، حتى إن بعض التشريعات العربية أضافت إليها محاكم أخرى، كما في الحالة السورية (الطائفة الدرزية)، ففي 30 كانون الثاني 1945، صدر القانون رقم 134 الذي أوجد في سورية محكمةً بدائيةً ومحكمةً استثنائية، مركزهما مدينة السويداء، ومنحهما حقَّ النظر في دعاوى الأحوال الشخصية التابعة لأبناء الطائفة الدرزية، ونصَّ على أن لهذه المحاكم مطلق الحرية في ممارسة وظائفها وصلاحياتها طبقًا لروح القواعد والسنن المذهبية وأصول المحاكمات المتبعة لديها، وبتاريخ 8 تشرين أول سنة 1953، صدر قانون جديد للسلطة القضائية في سورية، وذلك بالمرسوم التشريعي رقم 133، وقد نصَّتْ المادة 31 من هذا القانون على أن تبقى المحاكم الروحية للطوائف غير الإسلامية واختصاصاتها خاضعة للأحكام النافذة ( العثمانية)، وذات الأمر في لبنان، أما في الأردن فقد حدد قانون مجالس الطوائف الدينية غير المسلمة وتعديلاته رقم 2 لسنة 1938م، حيث نصت المادة3 منه على أن للطوائف الدينية غير المسلمة بالاردن أن تؤسس محاكم تعرف بمجالس الطوائف الدينية لها صلاحية النظر والبت في القضايا بمقتضى احكام القانون الحالي)، وليس سرا أن ماقصد به المشرع الأردني بقوله ( أحكام القانون الحالي) هو مرده التشريع العثماني.
نجد أيضا ذات التشريع في كل من العراق ودول مجلس التعاون الخليجي باستثناء المملكة العربية السعودية، حيث المحاكم الشرعية، وهي التي لها الولاية العامة بالنظر بجميع الخلافات!، حيث تختص لجان قضائية خاصة في المحاكم الشرعية بالنظر في قضايا الطوائف الغير مسلمة، فضلا عن ديوان للمظالم لديه ذات الإختصاصات ، الأمر الذي لطالما أثار ولايزال أرباكا قانونيا حول تنازع الأختصاص، غير أن الطعن في الأحكام الصادرة عن تلك المحاكم أو ما يدعى بديوان المظالم، ينظر فيها أمام المحاكم المدنية وعلى رأسها العدل العليا ومقرها العاصمة الرياض.
تستمر محاكم الأحوال الشخصية في معظم الدول العربية على ممارسة اختصاصاتها وفقًا للأحكام القانونية النافذة بشأنها، وتخضع الأحكام التي يصدرها القضاة الشرعيون للطعن أمام محكمة النقض مؤلَّفةً من مستشارين ( غالبا ثلاثة مستشارين) وفقًا للقواعد والإجراءات المتبعة لديها، ويتولَّى نظر قضايا الأحوال الشخصية للطوائف الغيرمسلمة قاضٍ شرعي من أبناء ذات الطائفة، يعيَّن بقرار رئاسي، على أن تتوافر في تعيينه الشروطُ الواجب توافرُها في تعيين القضاة، وتخضع الأحكام التي يصدرها للطعن أمام محكمة النقض ضمن المدة والأصول المتبعة في الطعن بالأحكام الصادرة عن القضاة الشرعيين، كما تم إلغاء محاكم الاستئناف الكنسية، وتشكَّل من قضاتها السابقين لجان قضائية تعرف باسم (لجان الإفتاء المذهبي)، ويصرف لهم رواتب شهرية من الدولة المعنية.
إذا كانت التشريعات العربية قد اشترطت ، بخصوص المحاكم الطائفية، أن يعيَّن رئيسُ هذه المحكمة بمرسوم ملكي أو رئاسئ، وأن تتوافر بتعيينه الشروط الواجب توافرها عند تعيين القضاة، فإن الواقع العملي بخلاف ذلك تماما، حيث أن قضاة المحاكم الطائفية وعلى مختلف درجاتهم - بداية واستئناف- يجري تعيينهم من قبل السلطات الروحية العليا، ولا يُشترَط من أجل انتقائهم أي شرط من الشروط الواجب توافرها في تعيين القضاة، وهذا أول الغيث في استقلال القضاء الكنسي والطائفي عموما في الدول العربية.
توجد لكل طائفة غير مسلمة في الدول العربية محكمة بدائية، وتخضع الأحكام التي تصدرها هذه المحاكم البدائية للطعن بالاستئناف أمام محكمة الاستئناف الموجودة في المدينة التي فيها المقر الروحي للطائفة، كطائفة الروم الأرثوذكس، مثلاً، توجد محاكم بدائية في دائرة كلِّ مطرانية تابعة للكرسي البطريركي الأرثوذكسي أو الأشوري أو الكلداني أو الأرمني أو القبطي وغيرها؛ والأحكام التي تصدرها هذه المحاكم البدائية تُستأنَف إلى محكمة الاستئناف وفق مقرها، والتي غالبا ما تكون العاصمة .
تطبِّق هذه المحاكم، فيما يتعلق بالإجراءات الواجب اتباعها وبمواعيد الحضور أمامها ومواعيد الطعن، القواعدَ المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات المدنية النافذ لديها في كل دولة، فالمحاكم البدائية الطائفية التي يكون مركزها في إحدى المدن العربية تطبِّق قانون أصول المحاكمات المدنية التابعة لها تلك الدولة؛ وعند الطعن بهذه الأحكام أمام محكمة الاستئناف الطائفية والتي مركزها العاصمة، فإن هذه المحكمة تطبِّق بخصوص الأحكام الصادرة عنها؛ قانون أصول المحاكمات المدنى الساري بالدولة المعنية.
فيما يتعلق بالاختصاص المكاني للمحاكم الطائفية وطرق الطعن بأحكامها، تقبل الأحكام الصادرة عن محكمةُ الاستئناف بالطعن في الأحكام البدائية الطائفية، كافة الطعون المقدمة بالنقض أمام محكمة النقض للدولة المعنية، نظرًا لمخالفتها قواعد أصول المحاكمات المدنية، أما الأحكام التي تصدرها المحكمة الأخيرة في الطعن بالأحكام الصادرة عن محاكم بدائية نظامية فلا يقبل الطعن بها أمام محكمة النقض باعتبارها صادرة عن محكمة نظامية.
غير أن الحال يختلف أمام الإختصاص الموضوعي للمحاكم، فإن كانت المحاكم الطائفية تطبِّق قواعد قانون أصول المحاكمات المدنية، فهي بخصوص القواعد الموضوعية؛ تطبق قوانينها الخاصة بها؛ وغالبًا ما تكون هذه القوانين غير مكتوبة، فهي من وحي الطوائف نفسها، وليس للسلطة التشريعية بالدولة أي دخل في وضعها وإقرارها، وذلك بخلاف قانون الأحوال الشخصية الساري والمطبق لدى المحاكم الشرعية النظامية.
أما فيما يتعلق بالإختصاص الولائي للمحاكم الطائفية، فقد حُدِّد - دستوريا- في غالبية الدول العربية ضمن نصوص مواد قانون الأحوال الشخصية ، ويشمل الدعاوى التالية: جميع المنازعات الناشئة عن الخطبة؛ الدعاوى المتعلقة بشؤون الزواج وعقده؛ دعاوى نفقة الصغير؛ دعاوى بطلان الزواج وحله وانفكاك رباطه ( لاحظ بأن إختصاص المحكمة الطائفية هنا يشمل فقط دعوى الدفع ببطلان عقد الزواج ؛ لكون الزواج رابط أبدي وإن انفصل الزوجان وفق المعتقد الكنسي)، كذلك الدعاوى المتعلقة بالبائنة (الدوطة)؛ الدعاوى المتعلقة بالحضانة، وجميع تلك الإختصاصات الولائية هي من صلب اختصاص المحاكم الشرعية النظامية!! فتأمل ما قد يثيره ذلك الأمر من تنازع الاختصاص الموضوعي بين المحاكم الطائفية والمحاكم الشرعية النظامية، عند النظر في قضايا المواطنين من الطوائف غير المسلمة .
ومما يثير المسألة تعقيدا أن المحاكم الطائفية لا تتمتع بذات الاختصاص الذي تتمتع به المحاكم الشرعية النظامية، للنظر في الدعاوي ذات أطراف خصومة متوافقي الطائفة ومختلفي الملة، أو متوافقي الطائفة ومختلفي الجنسية، والذين يخضعون في أحوالهم الشخصية لقانون مدني، حيث تكون الدعاوى القائمة بينهم من اختصاص المحاكم المدنية، وإذا حدث نزاع على الاختصاص بين المحاكم الروحية، أو بينها وبين المحاكم المدنية أو الشرعية (سلبيًّا أو إيجابيًّا)، فإن الفصل في هذا النزاع يعود لمحكمة النقض النظامية، وفق غالبية قوانين الأحوال الشخصية العربية .
تجدر الإشارة إلى أن تنازع الاختصاص الإيجابي يتحقق عندما تصرح محكمتين باختصاصها للنظر في النزاع المطروح عليها وتقضي كل واحدة بحكم في الموضوع، ويترتب على ذلك صدور حكمين متناقضين، وإذا كان كذلك فلا يعتد إلا بالحكم الصادر من المحكمة المختصة بعد رفع التنازع للجهة المختصة ويكون الحكم الأخر معدوما وكأنه لم يكن، أما تنازع الاختصاص السلبي فيتمثل في رفع دعوى بموضوع واحد أمام جهتين مختلفتين فتقضي كلتاهما بعدم اختصاصها بحكم يصبح نهائيا ويترتب على ذلك إقفال باب التقاضي، وهذا التنازع قد يقع بين جهات القضاء العادي أو بين إحدى جهات القضاء الإداري ومن شان هذا النزاع الحيلولة دون إحقاق الحق والمساس بمصداقية العدالة.
لا بدَّ من القول في نهاية القسم الأول من هذا البحث، وبعد ما تقدم، حول الهدف من إبقاء المحاكم الطائفية -والتي أنشئت لضعوط سياسية خارجية بالأصل- دون إشراف، بشكل يُعتبَر ماسًّا بسيادة الدولة، ولا يمكن للمباديء القانونية السيادية، القبول بوجود نظام قضائي خارج عن القضاء النظامي، وقضاة مستقلين تماما عن السلطة القضائية، وأن لا تراعى في تعيينهم القواعدُ التي تراعى بتعيين سائر القضاة، وأن لا يكونوا متمتعين بالشروط اللازمة لتعيين القضاة النظاميين، ورغم أهمية العمل القضائي الذي يقومون به، فانه يكفي لتعيين قاضي المحكمة الطائفية (بدائية كانت أم استئنافية) أن يكون من الإكليروس (والإكليروس هو نظام كهنوتي خاص بالكنائس المسيحية ولم يظهر هذا النظام إلا في القرن الثالث الميلادي وتتفق الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مع الكنائس الأرثوذكسية في درجات النظام الكهنوتي إلا أن البابا في الكنيسة الكاثوليكية يتمتع بسلطات أعلي من نظيره في الكنيسة الأرثوذكسية، أما البروتستانت فلا يعترفون إلا بدرجتين فقط من درجات هذا النظام وهما(القس والشماس) بالكنيسة البروتستانتية حيث يمتنع رجال الإكليروس في الكاثوليكية عن الحقوق الزوجية التي يترتب علي مخالفتها العقوبات الصارمة بينما لا تعترف الكنيسة البروتستانتية بذلك، أما في الكنيسة الأرثوذكسية القبطية فيحظر الزواج على البطريرك والراهب فقط ، بغضِّ النظر تمامًا عن الشروط التي يجب توافرها في كلِّ قاض من حيث الخبرة العملية فثمة بعض القضاة ممن لا يحملون أية شهادة علمية!
يضاف لذلك بأن القضاء الروحي لا يخضع لأية سلطة رقابية، فليس ثمة دوائر رقابية على المحاكم الطائفية في أي وزارة عدل تابعة لأي دولة عربية، ولا لأية هيئة رقابية رسمية الحق في التدخل في شؤونها، وأما فيما يتعلق بالقوانين المطبَّقة أمام هذه المحاكم، فهي قوانين عرفية خاصة بكل طائفة، ولم تصدر عن سلطة تشريعية قائمة في البلاد تتمتع بحق التشريع، وهي قوانين لم يسبق نشرُها بالإجراءات الدستورية؛ لذا فمن الناحية القانونية والحقوقية، لا يمكن اعتبارُها نافذةً في حقِّ المواطنين من أبناء تلك الطائفة، كما أنه لا يجوز للمواطن الإحتجاج بجهله بالقانون استنادا لنشر القانون وافتراض اطلاع المواطن عليه، هذا وإن الدعاوى الداخلة في اختصاص المحاكم الروحية وفق المعاهدات الدولية، ليست من الدعاوى التي يحتاج الفصلُ فيها إلى تطبيق مبادئ "الأسرار" الدينية التي يصعب على غير رجال الإكليروس فهمُها وتطبيقُها.
فإذا كان لا بدَّ من إبقاء المحاكم الروحية - من باب التسامح الديني- فالباب القانوني والدستوري للدول العربية أولى بأبناءه من الطوائف الغير مسلمة، وأرحب صدرا لاحتضان تلك المحاكم رسميا، وأوسع خبرة للإشراف على تشكيلها وإخضاعها للرقابة القضائية والإدارية الكفيلة بتأمين حسن سيرعملها، وضبط عملية تعيين قضاتها من ذوي الخبرات العلمية والعملية والقانونية، فالمواطنين من أبناء الطوائف الغير مسلمة، والذين يتعاملون مع المحاكم الطائفية ليسوا أقل درجة من المواطنين المسلمين، فعلى الدول العربية أن تولي أهمية بالغة لهذا الأمر، لذا فلا بد أن تتوافر في قضاة المحاكم الطائفية، الشروطُ اللازم توافرها في القاضي النظامي، كما أن لهذا الأمر بعد اقتصادي، حيث أن التزام المحاكمُ الروحية بتطبيق قانون الرسوم والتأمينات القضائية الرسمية على الدعاوى التي تقدَّم إليها وعلى الأحكام التي تصدرها وعلى طُرُق الطعن بهذه الأحكام، تثقل عاتق المتخاصمين بما تستوفيه من رسوم وتأمينات باهضة لا تعود إلى خزينة الدولة.
نهاية القسم الأول
المحامي محمد ابداح
23/1/2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية


.. منظمات إسلامية ترفض -ازدواجية الشرطة الأسترالية-




.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال