الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة – ايموجي

شاهين خليل نصّار

2017 / 2 / 13
الادب والفن


إنه صيف 2018، في غرفة صغيرة في شقته الواقعة في حي الهدار في حيفا، كان جورج يعمل بجهد على اختراعه الصغير. ‏
قبل عدة أشهر، فتح هاتفه الذكيّ، وصلته رسالة عبر برنامج الرسائل المخصص للشبكة الاجتماعية "فيسبوك"، وصلته صورة من ‏أحد الأصدقاء، "ميم" كما يسمونها، ليست كالحرف، بل كلمة غربية، تعني صورة ذات رسالة وتنتشر بسرعة عبر هذه الشبكات ‏الاجتماعية، فكل من شاهدها رغب بمشاركة أصدقاءه بها. يبدو أن فيها كان شيء يحرّك البشر، لم تكن مضحكة بحق، لكنها كانت ‏كافية لتحظى برد "ايموجي" ضاحك، وهو تماما ما انهمك بفعله بطلنا، جورج. ولم يكتف بوجه ضاحك واحد، بل استخدم الضحكة ‏المبكية، "يبكي من شدة الضحك"، بحسب التحليلات المألوفة. وبفضل المجموعة المعترف بها من قبل هيئة الشركات العالمية ‏للشبكات الاجتماعية، لجنة الايموجي المتعارف عليها، أو لغة الأشكال، سهّل الأمر عليه، بضغطة زر، الزر ذاته، عدة مرات، ظهرت ‏ثُلّة من الوجوه الضاحكة على الشاشة. فضغط زر الإرسال.‏
وهو يمعن النظر في هذه الوجوه الضاحكة، خالجه الشعور بأن هذه الضحكة كاذبة، لم يضحك لأن الرسالة جاءت مضحكة جدا، ولم ‏‏"يبكي من شدة الضحك"، لكنه ابتسم، وهذا على ما يبدو كان كافيا له. ابتسامة عابرة لا تدوم، لا دموع، حزن أو فرحة، أي كان ‏سببها. وقد يكون من شدة استخدامه لهذا الوجه الضاحك فبات الفيسبوك يُظهرها له في أول الصفّ، الأول في الاستخدام.‏
لم يكن يكذب عندما ضحك، فقد شعر بسعادة صغيرة، لكنها ليست ضحكة مستديمة، بل "مارقة"، عابرة، غير مستديمة، مبالغ بها، ‏وربما تكون مجاملة لهذا الصديق الذي ارسل الصورة.‏
‏"لماذا نكذب على بعضنا البعض"؟
هذا هو السؤال الذي خالجه، وضعه في مكانة المتعصّب لذاته، "هل أكذب على ذاتي؟" هو السؤال الذي تلاه، والرد لم يكن ‏بالوجدان... لكن سرعان ما وجد الطريفة للبحث عن الرد. فكرة تعمل على كشف الذات الحقيقية!‏
وباشر بالعمل بجهد على اختراعه الجديد. ‏
جهاز يترجم الايموجي الذي يصف الحالة الحالية للانسان، مشاعره وأفكاره الفعلية، الى قناع يزيح كل الأقنعة الوهمية والافتراضية ‏التي نضعها على وجوهنا، ويبثها للعالم أجمع. أو بالأحرى، استخدام الأجهزة المتوافرة في أيدي كل واحد منا، وكل انسان، وفي جيب ‏كل بشريّ على هذه البسيطة. ‏
قد تسمى بسيطة، ولعلها بسيطة، لكن البشر معقّدون ويعقدّونها بزيادة!‏
إنها لضحكة مميتة تقضي على الأحزان، ولكنها لا تستمر طويلا...‏
عمل لأشهر طويلة على تطوير برنامج جديد، تطبيق، ينتشر بكافة الهواتف الذكية، أندرويد واي فون، على حد سواء. لن تسلم ‏البشرية من مخططه الجهنميّ للقضاء على التلوّن وكشف البشر على حقيقتهم.‏
‏ أرسل التطبيق لبعض من اصدقائه، أو من يسمون أنفسهم أصدقاءه، بعض المعارف المقربة وأفراد عائلته الذين يعرفونه خير ‏معرفة. ويعرفون كم هو يكره التلوّن، ويكره المجتمع بهيئته الحالية، حيث الكل يرتدي الأقنعة الافتراضية والوهمية ويُظهر للآخرين ‏أنه على خي ما يُرام، أنه محاط بالكثير من الأصدقاء، والكل يحبه، وبعضهم حتى "البنات تركض وراه"، وآخرون "مش مخلي شاب ‏من شرها" وغيرها "بتشتي رجال"، وآخر "عشقان"، وغيره "متيّم"، وغيره "محبوب"، والبقية "لا يغار البتة"، و "مش فارقة معه"... ‏جميع هذه الأقنعة ستسقط ما إن يضغط زر واحد عبر برنامجه المعقد، ليُظهر الحقيقة!‏
بعد أسبوعين من الراحة، اثر اتمام المهمة، واختراق كافة الأجهزة الذكية في كل أنحاء العالم، قرر أنه حان الوقت لضغط الزر ‏وتفعيل التطبيق، نظر الى شاشة الحاسوب الذي أمامه "ليخرج النور" قال لنفسه وضغط... ‏
وبهذه اللمسة البسيطة، صارت كل الأجهزة تشّع نورا برّاقا، خرج الى العلن، من الهواتف الذكية، وسقطت الأقنعة. سقطت الابتسامة ‏من على وجوه الغالبية الغظمى من البشر. وكأن ستارا كان يُخفي الأسرار وأسدل.‏
شقيقته، التي ظن أنها سعيدة بزواجها، ودوما تبتسم وتضحك للجميع، تحوّل وجهها الى الأصفر الذهبيّ، وليس من الصنف الجيد، ‏التجاعيد التي كانت مخفية، ظهرت فجأة، وكأن سيدّة مسنّة احتلت جميع زوايا وجه تلك الشابة التي لا تزال في الثلاثنيات، أم لطفلين ‏جميلين. الابتسامة باتت وجها يذرف الدموع، ولم يكن يدري بالسبب.‏
مديره الذي يبدو بشوشا في الأيام العادية، ظهر حامقا، يحمل الضغينة، ورغم أنه كان يرد بلطف على كل من يتوجه له، ما إن دخل ‏الغرفة رأى أن الضغينة التي تظهر على "الايموجي" الذي يغطي وجهه في هذا اليوم، تحوّل أحمرا يُوحي بالعصبية والغضب. ‏ورغم أنه كان يعي ان اليوم لم يكن مناسبا لطلب علاوة، الا أن أحد أترابه الزملاء الأحباء، والذي يعتبر "نجم" المكتب، قرر أن يفجّر ‏هذه القنبلة الموقوتة، فما إن طلب العلاوة حتى انفجر الوجه الغاضب، رغم أنه في واقع الأمر رد المدير كان "ولا يهمك"!‏
مديرة المكتب كما كانت تُسمى، السيدة الأربعينية التي تستقبل القادمين والضيوف في الشركة التي يعمل بها، وترد على الهاتف، ‏كانت تتغيّر حالها مع كل هاتف الى حالة من الهستيريا، ايموجي مصاب بالهلع، وكأنها ما كانت تعلم كيف ستجيب على الشخص ‏الآخر الذي ينتظرها أن تنبس ببنت شفة عبر الطرف الآخر من الخط.‏
‎ ‎لكن ما لم يكن يتوقعه هو أن يظهر ايموجي خاص به ويعكف على تحويل ابتسامته اللطيفة الى نوع من الاشمئزاز.. هذا "الايموجي" ‏لم يفارقه طوال النهار.‏
لا عندما دخل مربعه الذي يعمل عليه في الشركة، ولا عندما جلس في السيارة وعلق في زحمة السير بعد انتهاء يوم عمل طويل، ولا ‏عندما دخل الكوفي شوب، المقهى المعبق بروائع التفاح والعنب والفخفخينة، ليلتقي أصحابه هناك. ‏
‏"ماذا حدث؟" سألهم، عندما همّ ليجلس على طاولتهم المعتادة في الزاوية اليسرى للمقهى في البلد التحتى بحيفا.‏
وجاء الرد الأول من صديقه عامر، لم يكن عامرا بالسن لهذه الدرجة، في مطلع الثلاثينيات من عمره، فقصّ عليهم ما حصل معه ‏‏"سحبتني زوجتي الى التسوّق معها، كنا نسير في المول (المجمع التجاري) عندما فجأة ظهرت على وجهها علامة ايموجي، نظرت ‏اليها بغرابة، فقد كانت للمرة الأولى التي أشاهد ابتسامتها تُمحى، وتحوّل الايموجي بعد ثوانٍ معدودة الى نوع من الاحتقان، وكأنها ‏تخفي شيئا وتريد البوح به. سألتني مما أنت متفاجئ؟ ولم أكن كذلك بالفعل، أو على الأقل ظننت أنني لم أكن متفاجئا من شيء، ولكن ‏يبدو أن ايموجي كان يُخفي وجهي ويوحي بالتفاجؤ من أمر ما. حينها علمت أني متفاجئ من هذا الايموجي بات يغطي وجهها. وسط ‏الجلبة رأيتها للمرة الأولى غير سعيدة. سألتها اذا كانت تُخفي شيئا عني، وأنا الذي يعلم بكل شيء، فقالت "لا"، ودخلت حانوتا ‏للملابس. بدأت تنظر الى الملابس المعروضة، تدخل لتجربها، ولكن الايموجي الحانق أبى أن يغرب عن وجهها. يلاحقها كيفما ‏ذهبت، مهما ارتدت من ملابس زاهية وملوّنة، وكأن الحقيقة للمرة الأولى تظهر عليها، ومهما حاولت اخفاءها، يبقى جليا. كررت ‏سؤالي، وتكرر الجواب بالنفي. عندما وصلنا المنزل، وصلتها رسالة على الهاتف، فتغيّر الايموجي لوهلة الى ايموجي ذو قلبين بدلا ‏من عينين! ما إن دخلت الى الحمام حتى خالجني شعور بأن هذا ما تُخفيه عليّ. لم أشك يوما بحبها لي، ولم أشكّ يوما بأنها تُخفي عني ‏شيئا ما، ولكني لم أكن أتوقع أن تتلقى رسالة من شخص يكتب لها حبيبتي"! ‏
فسأله صديقه الآخر عوني، وعلامات الانضغاط تتدلى من الايموجي الذي يقنّع وجهه. "كيف سمحت لنفسك أن تنظر الى هاتفها ‏الذكي ورسائلها الخاصة؟"، مواصلا "في عصرنا هذا يبحث الكل عن الخصوصية وها أنت الذي تدعو دوما للحفاظ على الخصوصية ‏وحماية حقوق البشر، تتلصص عليها"!‏
متفاجئا، ردّ عليه عامر "فلتك يا زلمة، هظول القلبين فيهن اشي غريب، ضووا ضو أحمر عندي... لأول مرة بحياتي بشعر بالخيانة. ‏بشعر بأنه في شخص عمبيخونني. انت مالك انضغطت؟ شو قصتك"؟
لم يرد عوني، بينما واصل عامر قصّ روايته، وأطلعهم عن الشجار الكبير الذي تطوّر بعدما واجهها بالمعلومة الجديدة التي اكتشفها. ‏وأخبرها بشكوكه حولها بأنها مغرمة بآخر. ‏
بينما كان يروي هذه الأحداث تحوّل الايموجي على وجهه الى الحزن، وبدون سابق انذار بدأت الدموع تنهمر، عندما حدثّهم عن ‏النتهاء علاقته بزوجته، عن انهيار زواجه، عن انكسار روحه، حالة عسيرة على الايموجي، حالة لا "ايموجي" يوّصف هيئتها بدقة ‏متناهية. هذه الحالة التي لطالما عجزت التكنولوجيا عن التعبير عنها. تحطّم ما يعرف بالروح، عندما يتحوّل الانسان الى كتلة من ‏اللحم جافة لا تحمل أي تعابير. ‏
سأله جورج، عن الايموجي الذي ظهر على محيّا زوجته في تلك اللحظة عندما واجهها بالحقيقة. فقال "بدا أن الايموجي لا تكذب"!‏
علامات المفاجأة التي كانت تحتل الايموجي الظاهر على جورج، تحوّلت رويدا رويدا الى سعادة. لم يكن أين من أصدقائه يدري ‏بالسبب. لكنها كانت جلية كنور الشمس للجميع. لم يكن بمستطاعته يخفيها، وحينها شعر بلكمة تنهال على فكّه الأسفل من اليمين... ‏ارتعش جسده، وكأن صخرة وقعت عليه، فانهار ووقع أرضا، سقط نبريج الأرغيلة من يده، ووقع الى جنبه.‏
وقبل أن يدري ما حلّ به، قفز عوني، وهرب من المكان، في حين وقف عامر، محتارا بالطاقة الكامنة به التي انطلقت فجأة، بينما ‏تنبه جورج الملقى على الأرض الى أن الايموجي تتغيّر بسرعة على وجهه، لا تقف عند واحدٍ، بين غاضب وحامق ومجنون ويائس ‏وضاحك ومرتاح وراضٍ باللكمة ومتفاجئ بقوتها ومستاء من ضربه لصديقه ومحتار من تصرف الصديق الهارب!‏
فهم جورج ما حدث.‏
همّ واقفا على قدميه، حاول تهدئة خواطر صاحبه، دون نجاح يُذكر، وقال له "أعتذر منك، فكل ما حدث هو بسببي... لا أقصد ‏الخيانة. ولكن انهيار زواجك. متأسف"!‏
‏"كيف؟ ليش؟" هي الكلمات الوحيدة التي نطق بها عامر. وردّ عليه جورج بالحقيقة، أخبره بالبرنامج الذي طوّره وأطلق له العنان ‏ليركب على رحل التكنولوجيا، مستوطنا في كافة الهواتف الذكية، مترجما الحالة النفسية الفعلية والحقيقية الى صورة تظهر على ‏الأوجه، تزيل الأقنعة الفعلية لتضع أقنعة حقيقية!‏
أخبر صديقه بحالته من عدم التصديق لوهل ما حدث، وحينها جاءته الصدمة الفعلية من جواب صديقه عن سبب لكمه له، ردا على ‏سؤال "وأنا شو دخلني؟"‏
لأول مرة اكتشف جورج، عظمة وخطورة ما صنعت مخيّلته وعقله... الايموجي استفحل على الكل، ووضع قناعا حقيقيا على كل ‏حامل للهاتف الذكي، حتى هو لم يسلم مما خلق!‏
لا حدود، لا خصوصية، لا إخفاء للمشاعر الحقيقة، والتي ظهرت بسعادته عند لحظة الـ"يوريكا" التي كشفت أمام الجميع. بالأخص ‏أمام أصحابه، عندما فقه مدى تأثير هذا الخوارزم الذي سطّر كلماته في شقته الصغيرة بعيدا عن البشر، ليؤثر على كل البشر.‏
ولم يسلم الرؤساء ولا زعماء الدول ولا رؤساء الشركات العملاقة من هذه الآفة التي اجتاحت العالم كالوباء، ناقلة العدوى من هاتف ‏الى آخر، من جهاز الى آخر، وكادت تؤدي الى حروبات جديدة بين دول يكره زعماء دول أحدها الآخر دون أن يعبّروا عن ذلك ‏حقيقة، وكانا يكتفيان بابتسامة خجولة خلال لقاءاتهم، فتحوّلت بفعل فاعل الى أقنعة تنهار كالدومينو، فاوقعت في طريقها القنابل على ‏الجسور التي بنوها في العلاقات بين دولهم.‏
لم يحاول جورج مواساة صديقه، بل اخذه الى منزله، قال له "اضغط هنا" مشيرا الى الزر الاحمر الذي بناه لتطبيقه ويطفأه نهائيا، أو ‏هكذا ظن! ‏
مرّ أسبوع، ولم يعد أحد يستخدم الهواتف الذكية. زالت الأقنعة الحقيقية، وعادت الأقنعة الوهمية، وعادت "البرادات" أو هواتف ‏النوكيا القديمة والكبيرة الى الاستخدام، ارتفعت أسهم شركة نوكيا بعشرات المرات، ولم يكن سعيدا بهذا النجاح أكثر من مالكي ‏أسهمها، بينما انهارت الأنظمة الاقتصادية التكنولوجية الحديثة، شركة آبل بلغت خسائرها المليارات، وصارت على وشك الافلاس، ‏بينما خسرت سامسونغ المليارات أيضا وعادت الى الركود الاقتصادي.‏
لم تنطلق الحرب العالمية الثالثة بسبب الايموجي ولا فشل إلغاء التطبيق والقضاء عليه. لكن عامر وعوني وجورج دخلوا حربا خاصة ‏بهم.‏
في اليوم الثالث لانهيار منظومة الهواتف الذكية، عُثر على جثة جورج في بركة من الدماء الحمراء، داخل شقته. لم يُعثر على عامر، ‏ولما كان بالإمكان العثور على عوني وزوجة عامر، لكن البعض يقول إنهما هربا سويّة...‏
يافا 12/2/2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع