الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة التسويغ -1-

جميل حسين عبدالله

2017 / 2 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


عقيدة التسويغ

منعرجات فكرية

_1-

يتبع

هذه محاولة بسيطة لفهم أبعاد ظاهرة منتشية بين أعماق كثير ممن يحاربون وجودها لضرر تلحقه بجهاز المفاهيم، وقاموس المعاني، ويتاعوون ‏بأبشع ما فيهم من صوت ثخين على ظهور ألوان فسادها بين سوي القيم، وسديد المثل، ويتصاخبون بالنكير على من فرق بين معتقد ‏القلب، ومتعلقات الجوارح، ولكنهم فيما يسعون إليه من غايات تكشف الإزار عما توارى بين طيات الذوات المنحنية لمطالب واقع نافر، ‏وناشز، لا يقيمون بما يبرز عنهم إلا قبب ذواتهم المتهرئة، والمتهدلة، ولا يرفعون إلا هامات نقش عليها اللؤم صور الشقاء، والعناء. ‏

شيء يستوطن الذات حين تعاني من فقر في دم الفكر الذي يجدد نياط الذات بكل ما يفرح، ويبهج، ويبدد أصلال الأوهام التي تخدر ‏الأوصال الطافحة بالأمنيات الكاسرة، فتدعها صريعة لمصير غير محدد الهدف، ولا مقصود الغاية، وطريحة لكآبة تلطخ وجه الحياة بحمم ‏داكنة، فتسحيل فضاء لا يهتدي فيه السائر إلى حقيقة ينشرح لها بالسرور، والحبور، ولا إلى فضيلة يتزيى بها بين الديار، والأكوار. هكذا ‏يكون الألم إعصارا يزيل معالم الأشياء في الذات الساكنة الوجع، والضامرة الهلع، ويديل كل شاخص يقف بين عينيها الغائرتين، فلا تلمس ‏وهم وجودها إلا بين ساحات الانطواء، وباحات الانعزال، وأحيانا تدفعها عقدة البقاء إلى رص كلمات الدسيسة، وعبارات الخديعة، ونسج ‏لحمة حكاية تحبك فصولها بما يتلاءم مع شره الطموع، وجشع الهلوع، وكأنها نسيت أو تناست ما جعلته منطلق سيرها، وخانت ما تراه حقا ‏يزهق باطل النيات الفاسدة. وهكذا نلبس جلبابا آخر غير الذي اقتنيناه لأجسادنا الخازنة لعواطفنا، والنازفة بمشاعرنا، ونتزين بألوان لم ‏ينفجر وميضها على الظاهر إلا بعد فررنا مما دبرنا به أمر خلودنا، ودونا به صفحة حياتنا، أو بعد أن تخلفنا عما يقودنا بسلاسله لرغبة في ‏ذاته، لا لما تحن إليه نفوسنا من بسمة، وبهجة. وهكذا يصدنا الالتباس عن كثير من الموارد التي تأسست عندنا في صورة الطهارة التي ‏نجابه الصعاب من أجل إضافة صفتها إلينا، وإلحاق نعتها بنا، ثم تباغتتها نوبات الوجع بما تواتر من حزن المناكب، وكمد المطالب، لكي ‏تستوهب رفد الأشياء من الضياع الفاره بلا رابطة الحب، ولا وسيلة الصفاء. إذ ما تكَوَّن عندنا من تلك الصور البريئة التي نقشت في ‏مهد نشأتنا بين حضن الأمهات، وهي محل نظر شاب يغتال طيشه بفتوة جانحة، لكي يبني أس شمائله على تناهي الصفات في الموصوف ‏الأكمل، لم تظفر بعش تأوي إليه عند مغازلة قامة الحياة الفارعة، ولا بجحر تؤؤب إليه عند احتدام الخطوب الداهمة، لأنها لم تكن في حالها ‏كما رسمناها على ورقة الأمنيات الجميلة، بل نقشت في أصدائنا بإبر مسمومة، وحفرت في أنوائنا بحراب مريشة. ‏

‏ لعل ما يستفيض به المقام في محادثات خاصة مع رفاق درب مضن بما يدور حوله من أدواء تذوب معها صلادة المهج النازفة بالأمل ‏العليل، هو السبب الذي يجعلني متسائلا عن هذا الشيء الذي فقده الإنسان في سنة تدافعه، وطريقة تعاركه، فصار بضياعه ممنوع السلم، ‏ومحروم الأمان.؟ ربما قد يمر هذا التساؤل على عقل المثقف، وعلى عاطفة الأمي، وكلاهما يروي قصة حياته في صورة عتاب لهذا الظلام ‏المستبد على فضاء الرؤية إلى الكون، والإنسان، وربما قد يكون ذلك مثار نقاش بين النخب المستشرفة للغد المشرق، وهي تبحث عن علة ‏أودت بالفعل الجميل، وأزرت بالخلق النبيل، وأغرقت العالم في معرة الجهل، ومغبة القتل، وربما قد يحس به أكثرَ من غيره، ذلك الذي يعيش ‏في غور المجهول المتنائي عن بصيرته، والمتلاشي بين بصره، وهو ينتظر مصباحا سحريا في غيابات الظلمة الحالكة، عساه أن ينقذه من ‏اختلاط همم الديار المتواطئة على هدم كل أصيل، وظلم كل جليل. لكن ما يجمعنا جميعا على هذا البساط الذي ننثر عليه أدران ذواتنا، ‏وأوضار واقعنا، هو ما نخاله محل استفزاز لحوزتنا، واستنهاض لصولتنا، وهو لا يستنفرنا إلا لمواجهة رزء القرار بكد العمل المتفاعل مع ما ‏نفش على كراس الوجود من علوم، ومعارف، إخلادا لما سلف به الذكر من المناقب، والمحامد، وإكمالا لما هو مرفوض علينا في لحظتنا ‏الراهنة، وساعتنا الجامدة، وهو المناط الذي يتحقق به التكليف الكوني، ويكتمل به البناء الإنساني، لأنه في حاله تفاعله الإيجابي مع مطلوب ‏الوقت استمداد، وفي واقع تصالحه مع مرغوب المستقبل إمداد، لأنه يقرب المسافة بين الحاضر، والماضي، ويربط بين تواريخ الإنسان في ‏علاقته بما يحيط به من نظم، ونواميس. وإلا، فإننا إذا اقتصرنا في اعتقادنا على ما ننجزه من مفاهيم صارمة، ومرامات خارقة، تحدد ‏تقاليدنا في منازلة صوارم الأحداث، وجرائر الوقائع، أو فيما نرى نتيجته تحقق مميزات تشبعنا بها في كياننا المادي، والمعنوي، فلا محالة، ‏سنكون قد ولجنا خندق الأنانية المستعلية، وابتعدنا بمسافات طويلة عما يبرز قيمنا المشتركة. وإذ ذاك، لا يحق لنا أن نمثل دور الخلافة ‏بمعناها الإلهي، ولا قيمة الريادة في الفعل الإنساني، ولا وظيفة الأديان في صناعة رجال يحملون الكلمة، والفعل، لأننا لم نتأهل لريادة الكون ‏بتلك الحقيقة التي لا تظهر قوتها إلا بمقدار ما تقدمه من قيم قادرة على قيادة الإنسان إلى لحظة السلم، والتسامح، والإخاء. ‏

ربما قد يكون هذا خيالا في عقل الفيلسوف الذي لا يرى الحقيقة إلا في قيم الخير، والحب، والجمال، ولا يشهد كمال الصفات في الذات ‏الإنسانية، إلا إذا دل الفعل على سمو العقل، وصفاء العقيدة، وهذا النظر حقيقة مشرب بنوع من الأحلام الساهمة في الوجود المعقد ‏التركيب، وأحيانا تبدو أطيافا هاربة، وكأنها سراب ببرية نائية، لا يلامس فيها أنواءه حتى تفارقه طوالعها الشاحبة. ولكن هل يمكن تسويغ ‏ذلك حين نريد أن نستدل على فعالية الفكرة، ونفوذها في الواقع.؟ لعل الإيقان بوجود ذلك الحد بين مدارات المنطق الذي تتأسس عليه ‏الحقائق في المعرفة البشرية، قد يتأتى لمن ينتظم في فكر الجماعة أكثر ممن يشهد الحقيقة في ذاته، وهو يرى يمها قابلا لانصهار كل المتنافرات ‏في محيطها الهادر بالكمالات النهائية، لأن سلطة الإنسان على التاريخ الذي يكتبه، أو ذاك الذي كُتب في سطور لاوعيه، تحيرنا بين مذهبين ‏متعارضين في البداية، ومتحدين في النهاية، لأن هدف كل واحد منهما هو قيام السلطة بما تمنحه من قوة التدبير، وحدة التصريف، ولو في ‏أدنى حدودها الرمزية، وأبعادها المعنوية، ولكن هذا ليس محل النزاع في التحديد الذي يريد أن يضع ما نتفق عليه إلى جانب ما نختلف ‏حوله، بل وجه الخلاف كامن في طرق التلفيق بين المعنيين المتنائيين، ولكل واحد منهما مجاله الذي يخبو فيه، أو ينتفش عليه، بل كلاهما لا ‏يستقيمان إلا بتوجيه يبرز مدار المشترك بين العقول الباحثة عن سعادة العالم، وعنفوان أريحيته، لأنهما في بداية صوغ المذاهب التي تآلف ‏الناس حول ضرورتها في قيام واجب الحياة المرتجاة بنوالها، وعطائها، لم تكن إلا ناظرة إلى النهاية التي تحقق صيرورة الفعل في الطبيعة بكل ‏ما تقضيه من نمو، وإنماء، ورخاء، وهناءة. وإلا، فإن ما حدث من تضارب الأفكار في تبيين موضوع الاتفاق، والافتراق، لم يكن إلا دليلا ‏على فعلية المذاهب وتفاعلها مع الزمان، والمكان. ‏

وذلك ما يقتضي أن نرى في الاعتبار ذاك الذي يؤكد على الجماعية، يتعالى بفردية معزولة عن نطاقها المعرفي، والأخلاقي، وهكذا العكس ‏في ترتيب كثير من الصور التي يحدث فيها الالتفاف حول مقتضيات مجافية لمستلزمات منطق المذهب المدافع عنه، فكلاهما يمزج بين ‏حقيقتين مختلفين، لا لرغبة الفصل حيث يكون حاله ضروريا، أو الوصل حين يكون واقعه واجبا، بل بإخفاء أحدهما إظهارا للآخر، وإرغاما ‏للمكون العقدي والمعرفي على الانسلاخ من تبعاته التي تستلزم مناطات لا بد أن تتحقق، لكي يفصح الفكر عن الذات المفكرة. وفي ذلك ‏تحدث فواجع عظيمة، وتنفجر معضلات يصعب تفسيرها في الأخلاق الخاصة، والعامة، لأننا إذا أيقنا بأن مقتضيات الجماعية المتحيزة إلى ‏نشاطها العقلي، والعضلي، هي التي تتحكم في الفرد، وتسلك به مسالكها المنقحة، وأثبتنا ذلك بدليل التفاضل بين الفعل اللازم، والفعل ‏المتعدي، فإن سياق الفردية في التجارب التي تتسامى بالشمولية المجسدة لمعنى الحقيقة، لا يقع موقع الرضى فيما تبنيه من عموميات مقدسة، ‏بل تتحاشاه جل الخطابات المتسة بالنزوع نحو السيطرة على المجتمع بالتجريدات المطلقة، لئلا تقع في التناقض الهادم لمنطقها الأساس في ‏صياغة فكرها الموجِّه، والمستمد، لأن التزام هذه القناعة في أقرب حدودها، يجعل الخلاص مرتبطا بوجود هذه الجماعية التي تحدد الأدوار ‏بقيودها، وتمنح كل فرد مساحته في بنية المجتمع. ولذلك يضحى بالجزء من أجل الكل في كثير من الموارد التي يصير رأي الأغلبية ضروري ‏الوجود، ويحكم عليه بما تقتضيه صيرورة البقاء في نطاق محدد، ولكن حين تصير الجماعة قيدا على مكونات الفرد، وخصوصياته، وميولاته، ‏لاسيما في تلك المحددات الشخصية التي تشكل سقف الممنوع في الظاهر، وتنبني على الاحتياط، والحذر، والحيل، تغدو الفردية مسوغة، ‏ومقبولة، ولو في هامش الواقع المعرى، وحواشي الأماكن المطلولة بدماء الحرية الفردية، لأنها تقدم للإنسان صورة لذلك المجال المحظور في ‏الصوغ العام للنظام، وهو ذلك الجزء المكبوت في الذوات التي لم تختر أفعالها، ولا سلوكها، والواقع الحقيقي الذي اغتاله المجتمع بقيمه المتشدده، ‏وأخلاقه المتطرفة. ‏

ومن هنا، يمتنع في سياق الأفكار التي تناسلت مع تجربة الإنسان الجماعية، أن يوجد هناك شيء متمحض في الحقيقة التي نتدافع حولها، ‏ويمكن له أن يكون محلا للعودة في الحكم الجاري علينا بالبراءة، أو الاتهام، ومناطا يتحقق به الدور الوظيفي في الحياة بلا شعور بالقيود، ‏والآصار، لأن نوازع الذات، وغرائزها، وشهواتها، وتنوع المثير، وتعدد المحفز، تخلق الاستجابة الفطرية في كنه الإنسان، وماهيته، ولو في ‏تلك الحدود الذي يصير معها عنوان المجاهدة مطلوبا بطلب الوجوب، وهو صراع ينبني على جدلية قائمة بين الذات، والموضوع، وبين ‏الصورة الذهنية ومصاديقها في الظاهر. بل هذه الدينامية في انسيابها نحو المرغوب الممتد إليه بين عالم المثل، والأفكار، أو في انزياحها إلى ‏قفص الذات المحصورة في تمثلاتها الباطنية، هي التي تعطي الكيان استقلاليته في الرأي، والقرار، والموقف، وتبني أساس الحكم على التجربة، ‏والخبرة. وإلا، فلا مجال للتحدث عن الإرادة المسؤولة في بناء التصورات، والتصديقات، ولا عن الاختيار الذي يكون الحكم عليه واقعا ‏بالإنسان نفيا، أو إثباتا، ولا عن القدرة التي تضع كل واحد في مقامه التراتبي. لأن كثيرا من السياقات التي تتطلب الحزم في التنفيذ، لا محيد ‏عن الالتزام بمطلوبها، ولو لم تنطبع بما في مستجن الذات من كمائن، إذ هي في حقيقتها مسوغات جماعية لكسب الوجود المتفاضل بين البشر. ‏ولولا ما يحققه ذلك من غايات، وأطماع، لكان الاختيار محلا للورود الذي يحتوي على كل القصص البشرية المتنوعة، فإما أن تقبل هذه ‏الأنظمة لكونها بنيات تحمي الفرد قبل الجماعة، وهي تجسد عمق الحركة البشرية في مجالها المشترك، وإما أن ترفض، على اعتبارها مخالفة ‏لنظام الأفراد المشكل للكليات المختلفة. ومن ثم، فإن انتزاع صفة الفردية من الجماعية المتصلبة بمواقفها التي تحددها المظاهر العامة، لا ما ‏تآلف الناس حوله من تنظيم للمصالح والمنافع في حدود تضمن للجميع حق الاشتراك المتفاعل مع خيرات الطبيعة، لن يكون سهلا في ‏التصور، ولا ميسرا في التقدير، لاسيما إذا كان النظام العام قائما على تقديس الظاهر، وتدنيس الباطن، لأن تحديد منطق الأخلاق العامة ‏بمقتضى الغريزة المتصارعة على كسب الرهان المزدوج بين القبول، والرفض، هو الذي يمنع من وجود تقابل بين حريات الأشخاص المتفاعلين ‏في السلم الاجتماعي، لأن حرية الفرد لا تتحدد في طيات عمقه، وإنما فيما يضيفه فعله إلى فيزيائية الصراع المتجذر في بنيات المجتمع. وذلك ما ‏يبدد نظام الفرد في البعد الأخلاقي الذي يكسب الجماعة قوة الفاعلية، لكي تظهر صلابتها في ظاهر السياق الذي يحكمه مزيج من العظمة، ‏والحزم، والغرابة، وإن اختبأ في غموضه ما يسيء إلى كنه الإنسان كلية، وانطوى في عمقه ما يتضمن المرض، والجهل، والتخلف، لأن تخليق ‏المجتمع في القصد الحقيقي، ليس في إخفاء المظهر الحقيقي له، وهو في ماهيته يحتوي على عوامل الضعف، والقوة، بل في إبراز مكنونه الذي ‏يتوارى عن الأنظار خوفا من الإسقاط، والإكراه، لكي يتأتى لفكر الإصلاح أن يعالج الظواهر في طبيعتها الشفافة، بل وجود ذلك مطلب ‏أساس في تحديد واقع الإنسان المسكون بوجع ذاته، وواقعه، لكونه سيرسم حدود كل الظواهر المنتشرة في المجتمع، والمتنامية فيه، لاسيما ما ‏كان معدودا ضمن أرقامه المظلمة، وموجوءا في حلوق تداري شمولية الطهر المتكئة على نمط من الأعراف، والعادات، والتقاليد. وإذ ذاك، ‏ستكون عملية التغيير موضوعية، ومتجهة نحو تحقيق السلم الاجتماعي، والأمن الإنساني، لأنها انبنت على معرفة دقيقة بما يختفي بين الدهاليز ‏التي صنعتها رغبات المجتمع المشخص بغروره، وصلفه. ومن هنا، فإن تفسير نظام المجتمع بمقتضى الغريزة المتوحشة التي استحوذت على لغة ‏التشريع في زمن الإقطاع، والدير، والدفاع عن هذه النظرة التي تتأسس على مبدأ الإكراه، والإلزام، هو الذي يفتح أقواسا لمدركات حقول ‏التجربة البشرية، وهو الذي يدفع الأفراد، ولو على اعتبارهم أقليات استثنائية، إلى طرح سؤال ماهية حدود الحرية في بنية المجتمع الذي ‏يعتبر أفقا محدودا للفرد، لا يمكن تجاوزه، لأن سقف المشترك الذي يحدد رسم المتآلف عليه، وهو تحقيق المصلحة العامة بمقتضى العدالة، ‏والحرية، والمساواة، قد تعدى إمكانات حركته، ومخططات نظامه، وامتد إلى ما هو مندرج في خصوصيات الفرد، وطاقاته. ‏

ومن هنا، صار الخيار صعبا في المجتمعات التي تربك سير الأفكار وتوجهها بسادية عفنة، لأن اعتبار حقيقة الفرد بكل ما تحمله من إفراز ‏جوني في مدى انسياقه لنظم المجتمع، سيجعلنا بين خيارين، وكلاهما ممض، ومؤلم، لأن نظام المجتمع حين وضع في الأساس، قد افترض إنسانا ‏هلاميا غير محدد الماهية، وبشخصية عامة صورية، وأحيانا ملتبسة، يمكن له أن يساق إلى حقيقة واحدة، وهي مظهره غير المتنافر مع ‏خصوصيته الجماعية. ولذا، لم يتعامل معه في سياق فراديته التي تشكل كثيرا من بناه النفسية، والاجتماعية، ولم ينظر إلى نمط مكوناته، ‏وسياق مركباته، ولم يأبه بتداخل نسب الاستواء والانحراف فيه، فكان نظرته فوقية، ومتعالية، لا تستوعب كل التناقضات التي تتماشى ‏مع تركيب الحياة البشرية، ولا تتفاعل مع صيرورتها المحكومة بمفهومات مستعارة، وغامضة، وغير فاعلة ظاهريا إلا في حدود الانتهازية، ‏والوصولية. ومن هنا، يكون خيار الرفض صعبا في البحث المتردد عن الذات، والحقيقة، لأنه سيواجه بصلادة المجتمع، ووسائل حمايته، ‏ووقايته، إذ هو لا يحدد مناعته إلا في مظاهره الخارجية، ولا يعبأ في أنموذجه بما يتوالد بين الأفراد من سياقات يمكن لها أن تكون فعلا ‏عاما عند استكمال شرط الظهور، والبروز. ‏

وإذا كان هذا مصير خيار الرفض عند من قال بالقطيعة المعرفية بين الفرد، والجماعة، فإن خيار القبول عند شهد الانسجام، والتعاضد، ‏سيكون أيضا محاطا بالألم المتكون من عمق الترابط بين التجربة الخاصة، والشخصية العامة، لأن حدوث النظام في الحقيقة العلمية التي قبل ‏بها العقل البشري، يقتضي وجود مساحة فارغة تكون مخرجا عند إرادة الخروج عنه، لأن الصوغ المنطقي لمركبات القضايا التي تخوض غمار ‏صراع الحقائق، يستلزم أن لا يكون الشيء ثابتا إلا إذا كان متغيرا في مزيته الوجودية، إذ بتغيره يحدث فيه الثبات، لأن حقيقه كونه ثابتا، ‏هو كون وجوده متغيرا، لكي تحدث فيه الحوادث، فتستوجب الأحكام التي تسمح باتخاذ القرارات المختلفة في تحديده، ورسمه. ومن ثم، فإن ‏الانتماء إلى قناعات المجتمع الذي يحتوي على النواميس المشتركة، يعني الانصهار مع كل مكوناته الثقافية، والاجتماعية، والالتفاف حول ‏غاياته، ومقاصده. وذلك ما يدعو إلى التآلف مع مجرى الأحداث التي تحكمها قوانين الاحتمال، والمصادفة، واللامتوقع، لأن حدود المصلحة ‏فيه، لا تحقق إلا بهذا الارتباط الذي يجعل حظ الفرد قابلا للانبثاق من بؤرة الجماعة، وإلا، فإن الفرد بدون هذه الصيرورة المتطورة مع ‏أنماط الفكر، والممارسة، لن يحس بالأمن على كيانه المعنوي، والمادي، لأن قيام هذه الصفة في إنسانيته العامة، تضيف إليه قوة، ومناعة، ‏وفقدانها يعني الانسلاخ عن هويته الجامعة لتراثه، وتاريخه. ولكن، هل يمكن مجاراة هذا الالتزام في كل المناحي التي تحدث نسبُها الذاتَ ‏بمجموع مكوناتها.؟ قد يكون هذا مقبولا فيما يتسم بالجماعية المضادة للحرية الشخصية، والمعادية لكل جديد يصطدم مع المتواطأ عليه في ‏القديم، لكن إذا تنافى المرادان في عملية لا تكسب الفرد رهانه في الصيرورة التي تجري بطرق آلية مستقلة، صار من غير التفات منحازا إلى ‏أنانيته التي تحدد مساره بين الجماعة المختلفة، والمتصارعة، والمتصادمة. وهنا، تتكون آليات التسويغ في الذات المحايدة، وهي التي تريحها مما ‏ترتكبه من مخالفات لما تلاءم عليه السياق من توافق، واشتراك، واختلاط. ‏

ومن هنا، فإن الانسياق مع المقتضى المتفق عليه، ولو ضمنيا، ولم يكن للفرد من خيار ‏فيه، يصير عسيرا في بناء تاريخ يقود الأحداث نحو الاستقلالية، بل لا يكون ذلك ‏انعكاسا، أو تداعيا لما تتلاقى حوله الجماعة من مفاهيم خاصة، لاسيما عند اختلال ‏الموازين في القيم والأخلاق العامة. لأن مفهوم الاستقامة في الأنظمة التي تحتمي بالمثل، ‏والفضائل، لا يتأتى من الأفراد أولا، بل هو ناتج عن تكافؤ الفرص في النضال الذي ‏يسعد به الإنسان، ووجود مناخ معتدل ينمي قدرات الفرد وملكاته، ومواهبه، وإلا، فما ‏فائدة الأنظمة إذا اغتالت الفرد، وجعلته مفرغا من مضمونه، وخدمت به طبقة من ‏الطبقات.؟ ومن ثم، فإن تسييج المصلحة بمقتضى الأخلاق العامة، قد يكون واجبا، ‏وضروريا، لاسيما إذا حققت غايتها في إمتاع كل واحد بحقه، لكن إذا تفشت الأنانية ‏المستعلية، وطغت المنفعة الشخصية، استحالت الجماعة كابوسا يكبح الإرادات الفردية، ‏ويعطل مفعولها. وذلك مما يؤدي إلى بروز عملية التسويغ في المنفى الداخلي، لأن ‏المدافعين عن الجماعية، سيتحولون إلى أفراد ينهبون اللذة في خفاء، ويقتاتون فتات ‏المنفعة في جفاء. وذلك مما يفتح الباب لكل الوسائل التي تبيح الكذب، والنفاق، ‏والتزلف، والمداجاة، والكيد، والاحتيال.‏

‏ والأغرب أن يستثمر المطلق في بناء التسويغ الذي يبرئ الذمة، فتنال به متطلبات ‏الغريزة التي تخضع للنوازع النفسية، والمكتسبات العقلية، ولو مع تأويل وتحريف يبعد ‏عن الحقيقة التي ينافح عنها المتغول وراء أسمال طهرانيته. وذلك مجاف للنص المقدس عند ‏من يسوغ به نقيض المأمور بفعله، إذ لا يستقيم في تحرير المسألة من جهة العقل أن ‏تدافع عن حقيقة لا تتوافق مع حقيقتك. وإلا، فإن الجماعة بمعنى من المعاني، قد تحولت ‏إلى أفراد تجمعهم صفات معينة، يستوجبون بها أن يخدم الجزء الكل في حدود ما يفرض ‏هيمنته، ولكنه في تركيب المغالطة التي وجدت المخرج لها في الاستحسان العقلي، لا ‏يخدم الجزء إلا الجزء بإمكانية تغيب الوعي لصالح التسخير، والميزة، والصفة. وهو في ‏انطلاء الخدعة عليه، يعتقد أنه يخدم الجماعة في تطورها المستعصي بغرابته على التآلف ‏الحقيقي. ‏

وهنا يكون الفكر الجماعي مستبدا بنظرته على خصوصيات الفرد، ويكون الفرد مستلبا ‏في حاجاته التي تمنحها الطبيعة، وهو يحس بضرورتها في إيجاد صيغة الحياة المرغوبة، ‏ولكنه مغترب يعيش العزلة والتجريد بما وضع حوله من أسيجة، أو أقنعة، يخال المجتمع ‏انتهاكها سقوطا في مهواة النهاية التي تزيل الكيان من الوجود. ولذا، أستشعر في بعض ‏الخطابات المتعالية هذه السمة التي ترضي غرور قيم المجتمع، ولو فيما تنافى مع العناوين ‏الكبرى للمثل الإنسانية، لاسيما حين تكون المتاجرة بالدين فضيلة، ويصير النفاق مفتاحا ‏لباب المكانة الاجتماعية، فترى المزهد في حظوة الدنيا، هو الباحث عنها، وهو الذي لا ‏سبيله فى الوصول إليها إلا في تلبيس المعنى، وتمييع المفهوم، وتسييب الغاية. وإذ ذاك، ‏نكون أمام خطاب يتبنى تقشف الأخروية، ولكنه يضمر الحرص على دسم الدنيوية، ‏وإن رؤي منه عكس ذلك، وشوهد فيه نقيض ما يفتن به غيره، وحصل عليه اللوم، ‏ونال منه الندم، كان النص في خدمة امتزاج الحقائق المتنافرة المعاني، فيصعب في ذلك ‏تحديد المراد الذي جاء به السياق التاريخي لعمارة الإنسان، وحضارته، ويعسر تسويغ ‏ضم تلك المتعارضات إلى بعضها، لكي يتشكل منها نسق قيمي لا يتعالى إلا بما سوَّاه العقل ‏الإنساني، وعدل الالتزام به، والرجوع إليه عند الاحتكام. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: اجتياح وشيك أم صفقة جديدة مع حماس؟ | المسائية


.. تصاعد التوتر بين الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في الجامعات الأ




.. احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين في أمريكا تنتشر بجميع


.. انطلاق ملتقى الفجيرة الإعلامي بمشاركة أكثر من 200 عامل ومختص




.. زعيم جماعة الحوثي: العمليات العسكرية البحرية على مستوى جبهة