الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ياهودايزم [5]

وديع العبيدي

2017 / 2 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


وديع العبيدي
ياهودايزم
[5]

"تعال الى مقدونيه وأنجدنا!"..
كيف تتغير أفكار الناس وعاداتهم من اتجاه الى اخر.. من مستوى الى غيره؟..
ما هي الاليات/(الكيفية)، والادوات/(أشخاص/ أفكار)، وطرق وبرامج التغيير؟..
ما هي الاسباب وراء نجاح بعض الاهداف، وفشل برامج أخرى؟..
هل تتعلق الاسباب بجهة التأثير/(صاحب الفكرة)، أم المتلقي/(الناس)، أم الطريقة وأداة التأثير؟..

يعتبر بولس الطرسوسي مدرسة شاملة في طرق وتقنيات التأثير في الرأي العام، وتوجيهه الوجهة التي يريدها. كنا قد عرفنا من قبله: سقراط أثينا الذي كان يتجول في الاسواق ويستخدم (الجدل) اداة لنشر أفكاره في صفوف العامة، حتى تعارف عليه الناس بحكيم اليونان، او الشخص الأكثر حكمة في اثينا، حسب وصف كاهنة دلفي؟..
جدل سقراط هو الذي سيتطور ويتحول الى (منطق) ارسطو الذي يعيد صياغة المعارف والافكار والمعتقدات الدينية الفاعلة حتى اليوم. يبقى.. ان الاغريق هم عقل العالم، وهم أهل الحكمة – الفكر والفلسفة والاخلاق-، وعنهم أخذ الجميع، ممن تقدم او تأخر. ومن هؤلاء المفكر اليهودي فيلون السكندري، وشاول/ بولس الطرسوسي: الفيلسوف اليهودي الذي حمل بشارة الصليب للامم.
ان ازدهار وانحطاط الحكومات والاحزاب والعقائد والمثقفين والثقافات والأفكار، يعود الى مدى نجاح اصحابها في تسويق بضاعتهم وترويجها، بحيث تطغى على حياة الناس – سلوكا وفكرا- وتجرى مجرى الطبيعة والفلك، بعد غياب اصحاب الفكرة.
حاجتنا لدراسة هاته النقطة، يساعد في تفكيك لغز فشل التنوير والحداثة، والثقافة العلمانية في مجتمعات الشرق الاوسط. فالواجب الوجيه هو اتقان [الالية- الكيفية والاسلوب] لانجاز عملية التوصيل والتلقي، اكثر من مجرد تجميع الافكار وترديدها. نحن لم نصل للان لاتقان اساليب وتقنيات فكرية منطقية، تضع حدا للدعاية/ الاشاعات الدينية والايديووجية التي ما زالت تلوي رقاب الاغلبية وتستلب عقولها وامزجتها!.
مكتبات العالم وارشيف الانترنت لا تغري احدا بالنهل منها او التأثر بها، من غير –اليات واساليب كيفية- للتسويق والترويج واختراق علم نفس وذوق المستهلكين. وقد زعم احدهم، ان من اسباب فشل النظام الاشتراكي- السوفيتي- هو عدم عنايته بفن الاعلان والتسويق. بينما سبب نجاح النظام الراسمالي والامبريالي هو تركيزها على فن الاعلان والتسويق والترويج.

الفاعلية التاريخية تعتمد على ساقين: انتاج الافكار، وطرق تسويقها وتوصيلها للمستهلكين والمعنيين.
المثقف يدور في عالم الافكار ويتالق في صومعته، ورجل الدين والسياسي يجول في الاسواق، ويستميل الناس بطرق رخيصة وسلسة، ولكنها تستميل الاغلبية، وتجعلهم يفتحون له جيوبهم وعقولهم!، -سيما عاطلي الفكر-، و(السلعة الرديئة تطرد السلعة الجيدة).
والان كيف نجح هذا (الفرد) البولسي في قلب تربة اليونان والرومان وجعلها حقلا للمسيحية – فكرا وسلوكا-؟.. كيف صنع كل ذلك بجهده الفردي ولغته المحنكة، ومن غير سلطة او سيف او جيش؟!.. وبفضل بولس الطرسوسي وثورته الثقافية، نجحت اوربا في احتكار الفكر والثقافة والاخلاق، وما زالت تسود العالم على كل صعيد لبقية هذا القرن؟..

مفتاح المحبة: لم يبدأ بولس معارضا ومنددا بالثقافة اليونانية واجتماعيات كورنثه، ولم يعلن التمرد ويدعو الى تهديم المعابد وتهشيم التماثيل الجليلة عند اهلها، والتي تمثل رموزهم. ومازلنا نعرف بولس فخورا بكونه: يوناني الثقافة روماني الجنسية.
بعبارة أهم، بولس لم يرفض الاطار الحضاري للمدنية الغربية ولم ينفِ مركزيتها العقلية، وانما اضاف اليها البعد الروحي المتمثل بالوحدانية المركزية، وامتياز يسوع كطريق وباب للاستنارة الروحية. وفي هاته النبذة السريعة اشارات مفتاحية، تبين طرق اتصاله وتواصله مع الناس، بشكل جعل نفسه مجرد [أداة توصيل] تناسب كل شخص او جماعة بحسب مداخلها..
- ان افتخاركم ليس في محله. الستم تعلمون ان خميرة صغيرة تخمر العجين كله، فاعتزلوا الخميرة العتيقة من بينكم، لتكونوا عجينا جديدا، لأنكم فطير!.. فلنعيّد إذن، لا بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الخبث والشر، بل بفطير الخلاص والحق.
- ان المسيح قد ارسلني، لا لأعمّد، بل لأبشّر بالانجيل، غير معتمد على حكمة الكلام، لئلا يصير صليب المسيح، كأنه بلا نفع!. لأن البشارة بالصليب جهالة عند الناس، واما عندنا نحن (المخلّصين)، فهو قدرة الله.
- إذن اين الحكيم؟.. أين الكاتب؟.. اين المجادل في هذا الزمان؟.. ألم تنقلب حكمة العالم الى جهالة؟..
- إذ ان اليهود يطلبون ايات.. واليونانيين يطلبون الحكمة، ولكننا نحن نبشّر بالمسيح مصلوبا، بوصفه قدرة الله وحكمته!..
- رغم ان لي حكمة اتكلم بها بين البالغين، فانني ما جئت بالكلام البليغ ولا الحكمة، لأنني عزمت ألا اعرف بينكم الا يسوع المسيح، مصلوبا!.
- لينظر الينا الناس باعتبارنا خداما للمسيح، والمطلوب من الوكيل ان يكون أمينا..
- انا لا اتاجر بكلمة الله كما يفعل كثيرون، وانما باخلاص ومن قبل الله، وامام الله اتكلم في المسيح. لا امتدح نفسي، ولا احتاج – كبعضهم- الى رسائل توصية احملها اليكم او منكم. فأنتم رسالتي وتوصيتي المكتوبة في قلبي، ويستطيع الناس ان يروها ويعرفوها.
- انا لا ابشر بنفسي، وانما بالمسيح ربا. وانا في خدمتكم من اجله.
- الموت فعال فينا، والحياة فعالة فيكم!..
- ان كانوا خداما للمسيح، فانا متفوق عليهم: في الاتعاب اوفر منهم جدا. عانيت السجن مرات عدة وسنوات طويلة. في الجلدات، تلقيت الجلد خمس مرات، كل مرة اربعين جلدة الا واحدة. ضربت بالعصي ثلاث مرات. رجمت بالحجارة مرة، تحطمت بي السفينة ثلاث مرات. سافرت اسفارا عديدة، وواجهتني اخطار السيول الجارفة واخطار قطاع الطرق واخطار من بني جنسي ومن الامم، اخطار في المدن وفي البراري وفي البحر، واخطار بين اخوة دجالين. عانيت التعب والكدّ والسهر الطويل، عانيت الجوع والعطش والصوم الطويل والبرد والعري. أهناك من يضعف ولا اضعف انا؟.. أهناك من يعثر ولا أتألم انا؟.. ان كان لابد من الافتخار، سأفتخر بامور ضعفي!.
- والان، أنا افرح في الالام التي اقاسيها لاجلكم،وأتمم في جسدي ما نقص من ضيقات المسيح لاجل جسده الذي هو الكنيسة!.
- مع اني حر، جعلت نفسي عبدا للجميع. لأكسب اكبر عدد منهم. فصرت لليهودي كأني يهودي، حتى اكسب اليهود. وللخاضعين لشريعة كأني خاضع لها، مع اني لست خاضعا لها، حتى اكسب الخاضعين لها. وللذين بلا شريعة كأني بلا شريعة، مع اني لست بلا ناموس عند الله، حتى اكسب الذين هم بلا شريعة. وصرت للضعفاء ضعيفا، حتى اكسب الضعفاء. صرت للجميع كل شيء، لانقذ بعضا منهم، مهما كلف الامر. وأني افعل كل شيء، من اجل الانجيل، لاكون شريكا في الانجيل مع الاخرين.!
والنص الاخير هو الاكثر صعوبة/ استحالة، والأكثر اشكالية في مجال التفسير والفهم والتطبيق لاهوتيا او عمليا، ولكنه الأكثر صدقا لفهم طبيعة وشخصية وقدرات بولس الديناميكية في التأثير الجماهيري.

ففي اوساط اثينا عاصمة الحكمة والعقل، استخدم معارفه الفلسفية والادبية الاغريقية، متحدثا لغتهم اليونانية العالية، بوصفه واحدا منهم، متعلما بعلومهم وملما بأفكارهم، متخذا منها اطارا ووسيلة، لتضمين رسالته التي هو خادم لها. بعبارة، انه لخادم لفكرته، ولاتقان خدمة الفكرة، يجتهد ان يكون خادما للمتلقي من اجل الفكرة.
"وبينما كان بولس ينتظر [سيلا وتيموثاوس] في أثينا، رأى المدينة مملوءة اصناما وتماثيل، فأخذ يكلم من يراهم في ساحة المدينة، وجرت مناقشة بينه وبين بعض الفلاسفة الابيقوريين والرواقيين. ولما وجدوا انه يبشر بيسوع والقيامة قال بعضهم: ماذا يعني هذا المدعي الاحمق بكلامه؟.. وقال اخرون: يبدو انه ينادي بالهة غريبة!..
ثم قادوه الى تلة أريوباغوس، حيث مجلس المدينة، وسألوه: هل لنا ان نعرف ما هو المذهب الجديد الذي تنادي به؟.. اننا نسمع منك اقوالا غريبة، نريد ان نعرف معناها. وكان اهل أثينا والاجانب فيها يمضون اوقات فراغهم في مناقشة الافكار الجديدة.
فوقف بولس في وسط الاريوباغوس، وقال..
يا أهل أثينا، أراكم متدينين كثيرا في كل أمر.
فبينما كنت أتجول في مدينتكم وأنظر الى معابدكم،
رأيت معبدا مكتوبا عليه –الى الاله المجهول-!.
فبهذا الاله الذي تعبدونه ولا تعرفونه، أنا أبشركم.
انه الله الذي خلق الكون وكل ما فيه،
وهو الذي لا يسكن في معابد بنتها أيدي البشر،
وليس بحاجة الى خدمة يقدّمها له الناس.
فهو يهب الخلق الحياة والنفس وكل شيء.
وقد أخرج الشعوب جميعا من اصل واحد،
وحدّد مسبقا أزمنة وجودهم وحدود أوطانهم..
وغايته ان يعرفه الناس ويتواصلوا معه،
فأنه ليس بعيدا عن كل واحد منا.
فنحن به نحيا، ونتحرك ونوجد،
أو كما قال احد شعرائكم: نحن أيضا ذريته!
فما دمنا نحن ذريته، لا فلا ننظر الى
الالوهية كصنم من ذهب او حجر او شهوة،
يستطيع ان ينحته انسان او يصوغه كما يتخيل.
وهو يدعو الجميع ان يعودوا اليه تائبين..
وقد حدّد يوما يدين فيه العالم بالعدل على يد يسوع
وقد قدّم برهانا للجميع، إذ أقامه من بين الاموات!.
فاستهزأ بعضهم منه. وآخرون طلبوا عودته للحديث ثانية.
ولكن بعضهم انضموا اليه، ومنهم ديونيسوس، عضو مجلس أريوباغوس،
وامرأة تسمها داماريس."-(اع 17: 16- 34)

خلاصة..
ومن المبشرين في بلاد اليونان الى جانب بولس ومساعديه، كان (شخص يهودي اسمه –أبلّوس-: سكندري المولد، فصيح اللسان، خبير في الكتاب. كان قد تلقن طريق الرب، فبدأ يخطب بحماسة شديدة، ويعلم الحقائق المختصة بيسوع تعليما صحيحا. ومع انه لم يكن يعرف سوى معمودية يوحنا المعمدان، فكان يتكلم في مجمع أفسس بجرأة.)/(اع 18: 24- 26).
وفي (اع 19: 1) نقرأ: (بينما كان أبلّوس في كورنثوس، وصل بولس الى أفسس) التي سبق أن بشّر فيها ابلّوس. مما يعني ان (أبلّوس) سابق لبولس في حمل بشارة المسيح الى اوربا، وسوف يتعاون الاثنان ويكملان مشوارهما الواحد.
وفي مكان اخر يقول بولس: "أن واحدا منكم يقول: أنا مع بولس، وآخر: أنا مع أبلّوس، وآخر: أنا مع بطرس، وآخر: أنا مع المسيح، فهل تجزأ المسيح؟.."/(1كو 1: 12- 13).
وفي (1كو 3: 4- 6):" ما دام أحدكم يقول: أنا مع بولس، وآخر: أنا مع أبلّوس، ألا تكونون جسديين؟.. فمن هو بولس؟.. ومن هو أبلّوس؟.. انهما فقط خادمان، امنتم على ايديهما، بنعمة الرب على كل منهما. أنا غرست، وأبلّوس سقى، ولكن الله أنمى!".
والاصح، ان ابلوس هو الزارع، لسبقه بولس في المدن والمجامع اليونانية التي بشر فيها. ان عدم توثيق دور ابلّوس والعناية به، يشكل نقصا في المكتبة والتوثيق المسيحي، وبشكل يفتح الباب امام احتمال وجود مبشرين آخرين، ووقائع وآثار وأفكار أخرى، كان نصيبها النسيان والاهمال!..
لكن امتياز بولس على سواه، هو ان دوره لم يقتصر على الخطابة والوعظ والردّ على الاسئلة، وانما كان حاذقا ونشيطا في زرع كنائس محلية واختيار قادة محليين لقيادتها والاشراف على حياتها وتوسيعها ومتابعة المنضوين فيها. أي ان بولس هو مؤسس النظام الكنسي بكل تفاصيله الرئيسة، وما زالت رسائله الرعوية، مصدر ارشاد وتعليم لانتاج قادة جدد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات