الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بابلو نيرودا.. قد عشت حقاً !

يعقوب زامل الربيعي

2017 / 2 / 28
الادب والفن


كثيرون من عاشوا جل أو بعض حياتهم مليئة بالصخب والمتعة والفائدة، وغالباً بمشغوليات الأمل. بعضهم نهل ما أستطاع، وربما أكثر مما استطاعت الحياة أن تعطيه، وما لم تعطي لغيره من الناس. سرى حليبها المداف بالعسل وبالنبيذ ملء اجسادهم، حتى كاد يطفح من خياشيمهم، قبل أن يواريهم الموت ويتوارون فيه ربما من غير شاهدة قبر تدل على العظة من وجودهم أو من ذلك الرخاء، وما من حجة تلقى على التاريخ بسبب وجودهم أصلاً.
فهم مثلما جاءوا، ذهبوا بخلاء. لم يتركوا في الإثر حجم درهم من عطاء أو شمعة إبداع.
وقليل من بين العامة الفقراء، من أغنوا شغف الحياة بما أفاضوا من نِعم الفكر والثقافة والمعرفة والجمال، ممن زاد على أوان الدنيا من فيض زاد عبقريتهم، كما ذاك الذي خرج من بين تزاحم الاضداد وعنفها، ومن بين مهاميز الشهرة البائسة لأركان المال والسلطة والجاه، ومن " تحت حمم البراكين، إزاء القمم الثلجية العاصفة. بين البحيرات الكبيرة .. وأدغال أشجار ــ الروالي ــ الضخمة ". في قرية من قرى الجنوب الأمريكي الداكن بعتمة الفقر والثورة هناك. وفي واحد من اكواخها القصية في عالم جغرافية الاسطورة، حيث " سواحل الابدية غير المنتهية، تشكل على امتداد تشيلي إلى ما هو أبعد من القطب الجنوبي.. ثمة عصفور يعبر على الدغل البارد، يرفرف، يتوقف بين أغصان الشجر الظليلة، ثم من مخبئه يصفر، مثل مزمار صغير " .. ومثل طقس من طقوس الحياة، يسري صداه نشيداً مختلف الرؤى، كأنه الهمس، يقول للبشر من الأحياء الذين سيتولاهم الفزع من شبح الموت : أشهدوا معي " إني عشت " . لم تكن لـ (تيموكو) مدينة الشاعر بابلو نيرودا، قبل أن تصبح واحدة من أثنيات الأمية، ريادة بين مدن الجنوب الفقيرة المزدحمة بالأناة والصبر والقمل والجنس والعشب القاسي. كما لم يكن لها " ماضٍ، أو تراث " كسواها من المدن، غير " دكاكين حدادة وهنود لا يعرفون القراءة ". تكاد تكون بعيدة جداً عن ذاكرة التاريخ مثلما هي بعيدة عن الجغرافيا، وقبل أن تشهد أو تسمع صرخة المدعو بابلو. في الزم ذاك، لم يكن فيها من يعبأ كثيراً بمثل هذه الصرخات أو الشعر. وربما أعتبرهما السكان منحة أخرى من منح الجوع، إلا حين التفتت رقاب بنوها وبنو الدنيا، فيما بعد دهشة نحو تلك النقطة النائية، تلك التي غدت بمولد عظيمها ، بابلو نيرودا، أكبر من قارة في كوكبنا.
لم يستطع هذا الشحرور أن يتكلم يوم وضع قامته المديدة على مقعد خالٍ أمام وزير خارجية تشيلي متردداً، في أي المدن أو العواصم سيحط رحاله ممثلاً لبلاده، عندما سأله الوزير المعجب بشخصية هذا الجالس أمامه، والمرشح لمنصب بلاده:
ــ إلى أين تريد الذهاب يا بابلو؟
كان بابلو في تلك اللحظة أوسع مدىً وخياراً من أي ركن أو من مكان يركن إليه. حتى ليخيل أن له ظلاً لا تستطيع مدينة بعينها أن تستوعبه.
في تلك اللحظات بالذات، مرّت في خيال نيرودا، ارخبيلات الأدب والشعر والفن مثل طيف عبق شقائق النعمان: ها هم: تشايكوفيسكي.. موزارت.. أراغون.. هيجو.. بوذا.. عروة بن الورد. أستحال إلى نقطة ضوء حمراء لتعبر مجاهل الكون اللا متناه، لتركن مثل غرسة برية في أرض يراهن على فطرتها الأولى، قد تستطيع أن تستوعب بعض مجده:
ــ " إلى رانغون " يقول : " أجبت دون تردد.
كانت في القاعة الوزارية، كرة عتيقة " جداً " للأرض، سقطت عينا الوزير على سطحها بحثاً عن " رانغون ", فكثيرة هي الانبعاجات العميقة التي كالجحور و " التجاويف ". عندما أشار بابلو بإصبعه أما بصر الوزير المندهش إلى أحدى زوايا قارة آسيا الواسعة، وحين سأله أحد الأصدقاء فيما بعد:
ــ " أي بقعة من البقاع أخترت بابلو؟ ".
أجاب باسماً في ذهول ، وقد نسي أسم المدينة التي أختارها، بالقول:
ــ " أنها في الشرق الخرافي ".
كانت النشوة شيء مثل " كوبليه " منسجمة تمام الانسجام حتى ليعجز الشعر أن يصفها كما هي عليه. فلكل محطة في النواحي الحارة والباردة من الدنيا، شكل بديع ولون مميز. المحطات التي يكتنفها المطر والضباب البارد وهالات المصابيح العليلة، وتلك التي تعج بعرق الأجساد واهتزاز ثمار التفاح في الاغصان الحبلى الشذية، ودمدمات العجائز المعتوهات في حانة من حانات " الشرق الخرافي " يدخل بابلو وملء شفتيه ابتسامة مشحونة بالألق السجين، يدب إليها مثل دودة قز مدفوعاً بالرغبة لاحتساء ما يعينه على تنسم أغنية " روخاس خيمنيث " الشاعر " الطاقة " التي عانت لتصبح يوما ما عقلانية.
" كل شيء سوف يمضي، السماء، الشعاع، الحياة.
انتصار الشر يقوى والردى الحتمي يطغى
ليس يبقى ..
غير عينيكِ إزائي في مصيري
يا ابنة النور ويا أخت حياتي في الغروب ".
............
نُشرت في مجلة ( العراقية ) مجلة شبكة الاعلام العراقي العدد (9) في حزيران 2006.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً


.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو




.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس


.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي




.. انتظروا لقاء مع أبطال مسلسل دواعي السفر وحوار مع الفنان محمد