الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ابن الفقيه (سيرة ذاتية) -4-

جميل حسين عبدالله

2017 / 3 / 6
سيرة ذاتية


ابن الفقيه
سيرة ذاتية
-4-
يتبع
في ذلك اليوم الذي سطع فيه نجم ابن الفقيه بين ذكريات قرية ‏إبرشان بحاحا، كان لون السماء صافيا، وطعم الأفق زاهيا، وشعاع ‏الشمس هادئا، وبساط الأرض دافئا، وفسيح المدى سارحا، وصدى ‏المكان صائحا. هكذا كان إحساسه بيوم ولادته بين الديار الموشومة ‏بدماء سرته، وهكذا تخيله في عمقه الذي يثور بأجمل قصص صور ذهنه، ‏وهكذا أحب أن يكون ظاهرا في محل اختاره غير أن يحكي عنه ‏بين طيات باطنه. فإن لم يكن كما استشعر في ذاته، فحسبه أنه رسم ‏ليوم هبوطه إلى عالم أرضه ألوانا تشع على عقله بالنظرة الجميلة، لا يكاد يمس ‏يباضها عنده أي تغيير، وتحوير، لأنه إن تواطأ فيه ما اسود بين فضائه مع ما ‏اختزن وسط قاعه، فلا محالة، لن يكون له تخيل يحكم تأمله، ولن ‏يصير له لسان يروي تألمه، إذ ما يتفرسه في همود الأشجار، وجمود ‏الأحجار، لم يكن إلا ذلك الصوت المكتوم في سره، والمقرور في حمأته، وهو ‏الذي يمنحه شيئا من جمال الرؤية، ونقاء الطبيعة، وإلا، فإن ما عقله ‏عن الديار من ذكريات، أو ما سمعه من حكايات، لو كان هو الأصل ‏في تحديد صورة جماله، فإن ما سينبت فيها من نتوء، ونشوز، لن ‏يغدو مع استشراف عالم الحكمة إلا حزنا، وكمدا. وما كان موصوفا بهذه النعوت، ‏فأنى له أن يصير محلا للقاء القديم مع التاريخ الذي كتبه الإنسان ‏على صخور هذه القرية. وهي ليست إلا أحجارا جاثمة بين الجبل، ‏وأشجارا سامدة بين الوادي، لكي تدل على شراسة المكان، ‏وعراقة الزمان، وتوحي إلى الذي يقرأ قوة البيان في الصمت ‏بمعان مضت، وانتهت حكمتها، وغدت مع طول الزمن وصية الآباء للأبناء. ‏
تلك الشجيرات المتناثرة حيال هذا البيت البدوي الذي لا تضيقه حواجز نفسية ‏معقدة؛ وذلك كما هي ثقافة أهل القرية حين يعودون إلى فطرة ما ‏أخرجته الأرض من أسرار، وأثبته من أدوار، وأقامته من أطوار، ولا ‏تحكمه أعراف بترت صلتها بالحياة، والإنسان، والطبيعة، هي الشاهدة ‏على نشأة ابن الفقيه بين تلك الحجرات المترعة بأحلام الأب الجمة، وأفعال ‏الجد الغضة، وكلاهما يستنبط من الزمن علة البقاء، وسبب الصفاء، ‏ويستهدي من سراب القيظ صوت الرخاء، وصمت الوفاء. فهل وعاها الجد ‏حين فارق مهده بين أحراش قبيلة أيت عيسي، فكان بها حفيا ‏بين ضراب قبيلة أيت جوجكل.؟ أم حواها الأب حين ولد مُخوَلا، مُعَما، فلم ‏يشهد من ذلك إلا ما نبت على أرض الخؤولة من أعراف، وتقاليد، ‏وإن لم يحظ على بساطها بوشم المقام المؤبد، بل ارتحل منها قهرا بعد أن ‏التصقت به في حشاشة قلبه، وبلاغة لسانه.؟ أم أدركها الابن بمذاق آخر، فلم ‏يتذكر مما نزف عليها إلا وشم الجدات، وحناء الأمهات، ولم يستحضر منها إلا لحظة ‏متخيلة لفراقها إلى ظلال دوحة غرست في رصيده بذرة المعرفة، وإن لم ‏تبسق على سيقانها وردة الاستقرار، ولم تثمر على عروشها ثمرة الاستبصار.؟ ‏شيء من ذا وذاك، هو الذي يركب النقش على مرآة الحقيقة، لكي ‏تعبر عن الجد الذي فارق القرية (إبرشان) إلى قراره الأخروي، ‏بعدما كانت جحرا آوى إليه حين احلولك الفضاء بتسيب الموارد، وتمييع ‏المقاصد، لكي ينهل من معارف الزمن المترع بالعلامات الغائرة، والملامح ‏الشاحبة. ‏
قد كان المكان قابلا للبقاء، وقادرا على الوفاء، لكن ما ‏ابتلي به الزمن من سيبة الأماكن المعرورة بالهلع، والمقرورة ‏بالطمع، لم يكن إلا فوضى استحالت إلى غصة في القرار المجهول، ‏والمقام المأمول، وألم في الحلم المبهم، والأمل المحجم، إذ التف الناس حول ‏هدوء الأماكن المحروسة بعين الطبيعة، فجعلوها مأمنا يقي بوائق ‏الدهر المروع، وغوائل الربع المفجع. ولولا ما حدث في سبك النظام الجامع ‏لعناد الشهوات في رغبة الأمن الأوكد، لكانت ربوع الأرض تدل ‏على سيرة المولد، وفرح الأم بالولد، وعشق الأب لوريث سره بالبلد، بل لما ‏برح أحد مكان لقائه بالوجود، ولما فاصل مولود تلك الأصوات التي ‏تنزف بها الأشجار الزافرة، والأحجار القاسية. وكيف يفارق قيودها، وهو بها ‏يقوم في ذاته، وبها يتقوم في لذاته، إذ لوكان سبيله مأمونا، وهدفه ‏مصونا، لكان سرب الرزق فيه ممدوحا، وغطاء الأمن فيه ممنوحا، ‏لكن انقطاع الحلم عن بطن الأرض، وانصهاره بالأنفاس التي ‏تقطع المسافات المزدحمة بالنيات المتعارضة، قد أغرى بالسير على ‏فراشها، والحدو بنوق الشوق إلى المصير المرغوب على حطامها.‏
‏ لعل ما يزحف على المدى من سراب، تتقطع دونه الأكباد، ‏والألباب، فيجف ما في الحلوق الضاجة بالأمنيات من لعاب، ويتعطل ما ‏نشأ في الأذهان من أسباب، يكون شربا روِيا لعطشة الأحشاء ‏إلى السكينة، والاستقلال، ورغبة العيون في الغور العميق بين ‏أعماق المجهول. ولذا كانت الرحلة مقبولة في التاريخ البشري، ومطلوبة ‏ممن افتقر في قراره إلى رتبة الكمال الدنيوي، لأنها تستبطن ‏أمل الإنسان في النجاة من بؤس العباد، وشؤم المطلع الذي يغرق ‏النظر في بركة الرماد، فلا يكاد يقبض الرائي إلى غده إلا على ‏حزن، ووجع، وكمد. وما دامت الرحلة هي الترياق الذي ‏تداوى به الجد، والبلسم الذي تدانى به من أهوال السبيل، ‏ودهاء الرفيق، وحق له أن يرحل بين آجام الأرض الغائلة، ويخب ‏بين الدروب الفاتكة، ولو كمن في خبالها صوت فقده، وصك موته، ‏فإن ما فيها من نسمة فواحة، يجوز لها عقلا أن تكسب الحياة ‏لراجي ديار الأمان، وتبلغة إلى نشدته في السلام، ‏والحنان.‏
‏ قد يكون هذا سببا واضحا في وجوب الارتحال بين الأماكن ‏المفجعة، لكن هل كان ذلك علة في مفارقة جده لقبيلته، لكي ‏يحط رحاله بقبيلة أخرى.؟ شيء من هذا قد يرد عند العودة ‏إلى رموز قضية البينونة عن صرخة الأم المتألمة لغدر الزمن الحالك ‏بوجيف الفراق، وهي تستعير ألفاظها لنصح ابنها الذي ستفارقه ‏بين عيون أهل الخفاء، والجلاء، وتستوحي من السماء سر ‏الحفظ للذرية، والأخلاف، لكن ما تواتر على لسان ابنه، وهو ‏يحكي لابن الفقيه عن جده: يا بني؛ قد فارق جدك مهده مرتحلا ‏منها إلى قبيلة نكنافة، وهو يرغب في تحصيل العلم بالمدرسة الجزولية، ‏وحين نهل من معين سلسبيلها، وعرج على بعض مراكز المعرفة ‏الدينية في القبيلة، انتهى به تطلاب الحقيقة إلى المشارطة بقرية ‏أتكلو. وهناك تزوج بجدتك، وبقي مرابطاعلى الإقراء والتحفيظ ‏إلى حين وفاته. ربما يصير بعض فصول الحكاية غائبا بين جلبة ‏زمن ظامئ إلى إثبات الخلد للحرف الشقي، لكن مزايلته ‏لحضيض عالم الدنيا الدنية، وصعود روحه إلى برزخ العناية، قد كان ‏من قرية إبرشان، وهو في تلك اللحظة قد توقف به المرض عن ‏الوفاء لخِطة المشارطة بقرية أتكلو. ‏
وإذا كان ابن الفقيه يحمل اسم جده، وولد بعد مرور سنة قمرية ‏على وفاته، إذ ولادته كانت يوم الإثنين، وفي تسع وعشرين ‏من شهر صفر، وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف، وهو ‏المواقف لاثنين من شهر أبريل من سنة أربعة وسبعين ‏وتسعمائة وألف، فإن استظهار هذا المعلم ضروري في إدراك فورة ‏ذلك الحلم الذي قاد الحفيد إلى تمثل خطى جده، وتجسد صورته ‏التي لم يشهدها إلا تخيلا، وترميزا، لأنه ما سمي بذلك، إلا ليحمل سره، ‏ويقتفي أثره، ويكون خيطا يربط بين زمرة أجداده، ووفرة أحفاده. ‏ولذا يغدو لزاما علينا أن نستظهر من رحلة جده ما تفتق عنها من ‏علوم، ومعارف، ونستحضر منها ما قيد قدم ابن الفقيه عن مجاراة ما لم ‏يوهب له من حصيد التاريخ، إذ راحج الرأي يؤكد وجود هذا السبب ‏في زخم العلامات، ووضوح علته في رسم البدايات، ويظهر حقيقة ‏ارتحاله إلى الزاوية الجزولية من أجل التحصيل العلمي، لأن ‏تواتر الخبر بذلك عند معاصريه، أو لدى طلابه الذين نالوا بالانتساب إليه ‏شهرة في الإتقان لآي الكتاب المجيد، هو الذي يفضي بنا ‏إلى أن نشهد على جده معالم الانتماء إلى دائرة أهل العلم، ‏وحديقة العلماء. لكن ما ساد في ذلك العهد، وكان حريا بأن ‏تنال به صفة الحمد، لاسيما في قبائل حاحا، هو حفظ القرآن الكريم، ‏وإتقان رسمه، وإظهار أحكام تلاوته، وهو الأساس الذي تبنى عليه ‏رابطة الانتساب إلى مضامين الإمامة، وإن بقي من الوقت ‏متسع لطي المسافة، ولم يدهم الحال ما يغري على التضحية ببزة ‏المعرفة، لكي يصير الجهل وقاء تزال به المصائب، وتنال به الرغائب، كان ‏ما سوى استظهار القرآن سبيلا محبوبا، وطريقا مرغوبا، وقليل من ‏سار عليه في قبيلته، وإن سار عليه رغبة في الاستزادة، فما يشتاقه ‏من متعة دلالته على التبريز، والبروع، لن يكون محصولا إلا بقدر ‏ما يبثه الحظ في المكان من رسوم، وعلوم، وإن ابتغى ‏أن يبز لداته، ويفوق أقرانه، صارت الرحلة إلى الحواضر فرضا لازما، ‏وكسبا دائما. ‏
قد يكون من ذا شيء من الرموز الكامنة بين مجاهل ‏الأرض، ومن ذاك شيء من المعاني التي يدفنها ابن ‏الفقيه في كهف حرفه، وجوف كلامه، وكلاهما يحصل به التعبير المجازي ‏عن عوارض معتمة في الذات البشرية، ويخلق فضاء كونيا في حواف ‏الحكاية، تكمن براعته في ربط الزمن الطبعي بالتاريخي، ‏لكي يحدث بينهما التمازج في الفصول المتبقية، عسى القارئ ‏أن يكتشف منها لذة تمتعه بالقراءة الجيدة، لأن توغل العقل في سبر ‏الأغوار الجامعة للمعنى القائم في الذات التي صقلها الوجع الفارع، ‏هو الذي يعيد حاضر الإنسان إلى ماضيه، وباطنه إلى بارزه. ‏لكن ما يجوز لابن الفقيه أن يستدركه على كتاب التاريخ ‏الذين ترجموا لأعلام المنطقة، ولم يحظ جد كاهن الحرف بشيء ‏من مدائحهم المزيفة، هو ما ألفاه مكتوبا في إفادة تتضمنها رقعة من ‏رقاع كتب جده التي مزقتها الأيدي العابثة، وهي تحكي عن ‏استقرار الجد مدة من الزمن بمدرسة سيدي محند بن ‏سليمان بقبيلة ايدا وخلف ، واستدراره لحنايا العلم على يد شيخه ‏سيدي الحاج لحسن بحبوس، ثم انتقاله بين تلك الأماكن باحثا ‏عن ضالته التي فقدها في طريق الحصول على منية الذات، وبغية ‏اللذات، وقد وجدها منحصرة بين شعاب الزاوية المحصرية التي نال منها ‏القدح المعلى في الانتساب إلى طريق التصوف، والتسليك على يد ‏شيخه سيدي محند التلظي.‏
‏ لكن ما يمكن الوثوق به في عصارة تلك اللحظة التي صنعت ‏الوجدان بين تداول الأحداث المفعمة بالرجاء، أن جد ابن ‏الفقيه، قد ماثل أترابه في زمنه، وشاكل أشباهه في صورته. والزمن ‏غض بالحفاظ المجيدين للقرآن، وهو المطلوب في جميل الخلال، ‏والمرغوب في حميد الخصال، إذ بدونه لا يمكن الولوج إلى دائرة ‏الحفاظ، ولا يحق لدعي الانتماء إلى الحوزة المقيدة بحدود، وأمارات، ‏وآيات، لأنها كانت في عهده محكمة، ومنيعة، وكل ما كان الإحكام ‏وصفا له، والإمعان لازما فيه، فالحرفة أولى فيه من المهنة، لأنها ‏فن يمزج الداخل والخارج فيما يعصر من معنى مشرب بروح الصانع ‏الماهر، و المبدع الباقر، وإلا، فإن اعتبار المشارطة عملا بسيطا في ‏التركيب، وعقدا مبنيا على السماحة في الترتيب، هو الذي أفرغه ‏من ملكة الحرفة، ومهارة الصناعة، وألزمه بما يقعده عن وصل الحاضر ‏بالوصايا الخالدة، إذ لو لم يكن المجال محددا بحدود ثقيلة، ومقولات عنيدة، ‏لادعى الانتساب إليه كل من عجز به الجلب، وشلت منه اليد عن ‏الطلب، فلم يجد إلا بيع الوهم سبيلا، فأرعد وأبرق حين عز المتقن، ‏والإتقان، وقل المجيد، والإجادة، لأن مقتضى العرف أن ‏يتولى الأشياء من يمتلك روحها، وأن يخاطب بها من حوى ‏بلاغتها، وأن يقتنى منها ما يستر عند الحاجة إليها، إذ المكتسي ‏بقماش الزور، وقناع المين، لن يكون موجودا به، وإن امتلك ‏جرمه، وساعفه الحظ في البروز بلبسته، لأن قيام المعاني بما ‏يستحقها وضعا، لا توجد حقيقة في صوغ الدليل على مدلوله، إلا إذا ‏كان الشيء ممرعا بخصوبة قوته، ومفعما بنَفَس شدته، ولا امتلاك ‏لشيء منها، ما لم تكن دالة على الاستحقاق، والكفاءة.‏
وهكذا، فإن صورة الجد قد كانت مقابلة للمعارف التي راجت في ‏سوحه، ومماثلة لما يسود جل المناطق في السوس الأقصى والأدنى ‏من علوم القرآن، والشريعة، لأن نتاجه الذي برز في ‏ذريته، وظهر في تلامذته، هو الذي يوحي إلينا بوجود سر في ‏كسب هذه الحقيقة، إذ عبرت عنه في ابنه، ومن بعده خالطت حفيده ‏ابن الفقيه. ولذا يكون جل الحفاظ الذي أتقنوا القرآن بين ‏يديه شهودا على حرز صفة الإتقان، وأدلة على استحقاق ابن ‏الفقيه لشرف ما تفجر فيه من نسب، وحسب، لأن ما انطبع على ‏مرآة ذاكرته المتشظية بين صور ما هو مطلوب له، وسواء ما التصق به ‏من ذكريات التاريخ التي يكتب ما تبقى عالقا بذهنه، أو ما يؤسس ‏لقواه العقلية، وبناه الفكرية، هو الذي يحدد مسيره، ويبين سبيل الوصول ‏إلى مصيره، وهو الذي يركب نقط الأبعاد بين ذهنه، وعقله، ويرتب طول ‏وعرض منعرج تفكيره، وحياته، إذ مربط الفرس في الحكاية، هو ما دلت عليه ‏النواميس في القبيلة، وخلدته الوصايا في الإدراك بالتجربة، والوعي بالخبرة، ‏وهو الذي يجعل ابن الفقيه خزان سر تاريخ ورثه، وملكه، وعملا ممتدا ‏في الزمان، والمكان، ورغبة حانية في قعر الجد، وسمة للأمل في كد ‏الأب. فهل سيطل ابن الفقيه من هذه النافذة إلى عوالمه الممتزجة بالغرة، ‏والفتوة.؟ أم سيتجاوز كل الخطوط التي سطرها حلم الجد في مهاد الأسرة، ‏والعائلة.؟
لن يكون كلامنا هذا نزوا على الزمن الذي يحسبنا بين ‏وهاد المعرفة، ولا نطا إلى أماكن لم نبن علو درجها، فنستطلع ‏على مستشرفها ما يغيض بين الأماكن من أسرار، وما يفيض ‏عليها من ألوان، وأشكال، وحركات، بل تتابع الحدث في استكناه ‏المكون الذاتي، هو الذي يسوقنا بين المعاني المتشابكة، ‏لكي نستظهر ملامح المهاد التي نبعت فيها موارد ابن الفقيه، ‏لكن المعنى الأسمى في الحكاية، هو كونه من صنع جده، ‏وأبيه، وكلاهما قد نفشا فيه برمز، أو بإشارة، أو بإفادة، وهو بدون وقاء ‏هذه الهوية التي تكبسه كنز ذاته، لن يستحق الشرف، والفخار، ولن ‏يستوجب صفة ربع صدح فيه صوت القرآن ممزوجا بوظائف الطريقة التيجانية. ‏ومن هنا، فإن ما يتبختر حوله من طواويس، أو ما يتغنج أمامه من ‏نوارس، لم يدل عنده إلا على لحظة كاشحة، لم تُحقق بين عينيه إلا ما ينهار حوله ‏من إصرار على الرهان، وإجبار على سبك معاني الفضيلة ‏في صحراء النيات الفاسدة، لأن ما يعيشه في هدوء عقله، هو ما يعيه ‏من تواتر الأحداث عليه بالعناء. فهل سيشقى لما يغرد به من أمل.؟ أم ‏سيعتب على الزمن ما أقامه من حروب، لكي يمسح من ‏ذهنه صور ذكرياته.؟ ‏
إن إدراك ما يغدو التصديق به مجلبة لليقين، هو الذي يجرنا إلى أن ‏نتعرف على المهد الذي أهل فيه ابن الفقيه بصرخته اليتيمة، ونتفرس في ‏معالم هذا الشبح الذي جاء الدنيا باكيا، ولازمها عاريا، ولامها طاويا، وهو سيفارقها ‏حتما حين تنكسر القلال، ولم تبق للعراف تميمة تحميه من مدية الشبح المخيف، ‏لأن ما تُفسر به الأحداث في قصارى الجهد العقلي، ليس فيما نحكم به ‏عليها من رفض، أو قبول، بل فيما لا يُتحدث بسره، ولا يدل عليه اللفظ المنطوق به، ‏وهو في حقيقته لا يعرف إلا بين طيات ذهن قائله. وما نفهمه من ‏معانيه، هو ما نعيه من حدود دلالة الألفاظ عليه في ذواتنا. وهنا يكون ‏اللفظ محتملا لمعنيين، وهو مقصور ومحصور في عمق الناطق به، وواسع ‏فيمن جعل حسن الاستمتاع قدرة تطوي المسافات بين اللفظ ‏وسياقه، إذ لا نحتاج إلى التأويل فيما كان الغموض ذاتا له، بل فيما سهل قطفه، ‏وجنيه، ولكنه محتمل في ذهن قارئه لمعان كثيرة، ومرام جسيمة. ولذا ‏تكون سيرة ابن الفقيه محلا للتأويل في أسهل ألفاظها، وأما ما غمض منها، ‏فلا يحتاج إلى تحريف لمبناه، إذ معناه واحد، وهو الذي يصعب الاستسلام ‏لغرابته. ‏
وإذا كان درك ابن الفقيه لبقعة ولادته متيسرا في حدود ما جادت به القرية ‏من لقيا، ووصال، فإن صوغ تفاصيل ذلك بين الأخبية المرفوعة في ‏الفضاء، قد يتطلب وفرة في الخيال، لكي يلتحم المكان بالمكين، ‏فيكون محل تلاده في شهوة خياله موصوفا بما يستجمع صفات الجمال. وإن لم ‏يكن كما وصف ذاته، فماذا عساه أن يكون، وهو الراغب في أن ‏يضمر لتلك الصورة حبا جما.؟ قد يصير لازما عليه أن يقارن بين أول ‏صوره المترامية إلى ذهنه، وبين ما يشهده بعينيه، وبين يقرأه عن عرف ‏القرى، وعاداتها، وتقاليدها، لكنه حين مزج بين الأنظار المرسومة ‏على لوح عقله، لم يجد سوى ما كتبه عنها من معان، لأنه حريص ‏على كسب حقه في رؤية الطبيعة القاسية على صخور قريته جميلة، بل ‏اشتدت رغبته في أن يجعل المكان خاليا من خطوبه، وندوبه، ‏لكي يولد في دفء يغذيه بالأريحية، والعنفوان. فهو إن لم يولد فيما ‏يصف من قش عشه، فحسبه أنه ولد عليه في خضم حكايته، لأن ابن ‏الفقيه ولد مرة في حضن أمه، ومرة تمخض عنه حرفه. وإذا كانت أمه ملاذا له ‏في إطلالته الأولى على عالم وجوده، فإن حرفه معقل يلوذ إليه حين ‏يشتد به الألم، وتيبس أغصان الأمل في ذاته المتهدلة. وهو على هذا ‏يتضمن كل ما وقع فيه، أو ما يحدث معه، إذ هو اللباس الذي يعريه، وهو الرداء ‏الذي يغطيه، وكلاهما يسير نحو الانكسار، أويميل إلى الانتصار. وإذا كان ‏هذا مخاض حرفه، وهو يحكي عن ذاته، فكيف كان حضن أمه.؟ ‏
في ذلك البيت البدوي الذي استطابه الجد حين شرع معول البنَّاء يرص ‏قاعدة أساسه، وجد ابن الفقيه أشلاءه ممزقة بين مدارين، عالم يربطه ‏بالشجر، والحجر، وهما قوام الأكنان التي تظلله، وتغشاه، إذ هي ‏السكن لما شرف في الإنسان من تراب الأرض، وطينها، وصلصالها، ‏والأمن النازف بأرواح سكانها، ووجدان عشاقها، لأن جرم ذواتهم ‏من نسيم روحها، وغزير فيضها، وحيزَها هدية منها إلى ما تمادى فوقها ‏من أعيان، وما تهادى عليها من أبدان. وعالم يربطه ‏بالإنسان، والوجود، وهما معا لا يقبلان الافتراق، ويرغبان في ‏الالتصاق. كلا، بل الإنسان ما هو إلا محل الوجود، وهو –أي الوجود- في ‏معناه ليس إلا كونا كليا ينتظم كل موجود، لأنه النبع الذي شرب منه من فارق ‏العدم بذاته، وطبعه، واستقوى بشهوده للآثار على أهلية الامتلاك لضرورة ‏الحياة في هذا الكوكب الضيق، والبسيط. لكن مهاد الأرض التي نحن ‏قُبضة يد من رمالها، لن تكون آهلة بالحركة التي نستدل بها على ‏وجودنا، ما لم نشرب من مائها أملا في البقاء، إذ هي غير جماد في ‏كينونتها، لأنها حية بما يشعر به ملامسها من وجود، وعدم. وأثرُها كامن في ‏ذاتها، وناموسها الانفعال، والانصهار، وقوتها ترضخ لها كل القوى المكونة لكيانها، ‏وتخشع لها كل الأصوات المعولة بهشيم الأفكار، والأنظار. وإذا تجاوز الإنسان لحظة ‏الاغترار بالقوة، والغرور بالمنة، استحال أرضا يمشي عليها كل هين، ‏ولين، إذ لا تسقى إلا بروحه، ولا تخرج من نباتها إلا ما فيه دواء، ووقاء. ‏وروحه ليست في جسده الذي يتفاضل به البله الحمق، بل في امتزاجه ‏بترابه، واستمداده لوجوده من روح الطبيعة. ومن هنا تكون الصلة ‏قوية بين الوجود، والأرض، والإنسان، وتكون الرابطة محكمة بفيض الروح ‏الذي يسري في كل الكائنات الشاهدة على نوع من الحياة العاقلة، ‏لأن الأشياء لا تعبر عن ذاتها المتصلة بغيرها، إلا إذا احتفظنا على سياق ‏النسب، وأثبتنا للعلل علاقة بمنبع الوجود الأعم، والأتم. ‏
ولذا يكون هذا الباب المغلق بين عينيه مفتوحا، وفِناء البيت الذي يفور منه ‏دخان المطامير بلون من الحياة مشهودا، إذ لم يُصد داخله إلا بعد أن ‏غادره ساكنه، ولم يحجب مراحه إلا بعد أن أغار عليه الدهر بالشحوب، والكروب، ‏وقد كان في سابق الحلم مجازا للإنسان، والبهائم، والأنعام. أجل، لم ‏يكن غلقه واجبا إلا عند ضرورة الخوف من وارد يغتال الأمل المتدفق من ‏صغار أطفاله، لكن أن يحجز فيه على سر ابن الفقيه، ومن جاء ‏قبله من إخوان، وأخوات، فما ذلك إلا لريبة أصابت الأماكن، وبلابل ‏أقلقت المساكن، واستحال المقام معها فقرا، ومرضا، وجهلا. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم روسي عنيف على خاركيف.. فهل تصمد الدفاعات الأوكرانية؟ |


.. نزوح ودمار كبير جراء القصف الإسرائيلي على حي الزيتون وسط مدي




.. أبرز ما تناولته وسائل الإعلام الإسرائيلية في الساعات الأخيرة


.. الشرطة تعتقل طالبا مقعدا في المظاهرات الداعمة لفلسطين في جام




.. تساؤلات في إسرائيل حول قدرة نتنياهو الدبلوماسية بإقناع العال