الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة التسويغ -5-

جميل حسين عبدالله

2017 / 3 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عقيدة التسويغ
منعرجات فكرية
‏-5- ‏
يتبع
قد يكون الرجوع إلى نكرة الماضي سلفية مقصودة، وغير مقصودة، ولكن هل هي سلفية حقيقية، تستوجب أن تكون محلا لكبرى اليقينيات ‏العقدية، ‏والتشريعية.؟ أم أنها نمط ثقافي بشري، وسياق فكري تاريخي، وأنساق متداولة من الأنظمة، والنواميس، والوصايا، تواطأ المجتمع على حمايتها، ورعاية ما فيها ‏من ‏مصالح، ومنافع.؟ لا أخال أس القضية يحتاج إلى إبداء رأي، ولا إلى إحراز قول، لأن موضوعها متضمن في فحواها عند القائل بها، والمنافح عن تحديد زمنها بفترة ‏‏معينة، والمحارب من أجل صورتها التي يريد لها البقاء، والخلد. ولكن يجوز لنا أن نقول: إن مقتضى القول بالسلفية في الانتساب إلى فضائها الشاسع، يعني معنيين: ‏أولهما: الرجوع إلى الميراث الذي ‏خلفه الأقدمون في باب الصلاح، على اعتباره المقصود بالتكليف عند مفارقة أزمنة الفساد التي تحدث الخوف، والحزن، والضجر، ‏ومفاصلة كل ما يقطع العلاقة بين ‏الإنسان الأول الذي علم فضيلة الخير وبين وفرة أبنائه، وذريته، ومباينة كل ما يهدم بناء الإنسان في الثقافة، والعمارة، والحضارة. ‏وثانيهما: العودة إلى زمن معين في تاريخ البشرية، ‏على اعتباره المحل الآمن في رؤية الإنسان لسمو القيم، وكمال الأخلاق، وجمال السلوك، لأن مطلق العودة إلى شيء ‏محدد في الزمن، قبل أن يتجسد في عقل الصحراء بمنزع الصراع، ‏والنزاع، لم تكن الغاية منه إلا الرجوع إلى لحظة ظاهرة بالصفاء، وطاهرة بالنقاء. ‏
لكن لا يكون هذا مستساغا في التنصيص به على المعنى المراد صوغ إطلاقه، إلا إذا كان الرجوع إلى الماضي ممتدا من الآن إلى زمن جامد في ‏البداية، يحصل ‏اليقين في النسبة إليه بتذكر رسوم وضع حدوده، ووعي ما تركب فيه من مفاهيم امتداده. لو قيل بذلك، لكان هذا الكلام وصلا، لا فصلا، لأن عمر ‏الإنسان ‏عديد، ومديد، ولا يجوز حصره بزمان محدد، ولا بمكان مقيد، إذ هو قد فاض من الأزل الذي لا نهاية له، وانساب من فعله المدبر لعوالمه، وأكوانه، وانتشر ‏‏مسرعا في نظامه، ومحكما في ناموسه، ولا توقف له إلا عند نقطة بداية دائرته. ولذا يسعى في كل حقبة إلى صنع ما تختص به طبقة بشرية من المعارف الخاصة، ‏لكي ‏يتطور في ذاته، ويتحرك في مداره، لأنه لا يسير إلا لكي يقطع المسافات، ويحتوي المساحات. وعلى هذا يكون الزمن مدركا في حدود إحساسنا به، لأنه ‏قابل لأن ‏نميزه بشعورنا، وعقولنا، إذ هو في ذاته كما وجد عند بدايته، لكن ما يجعله محلا للحكم عليه، هو ما يتوارد على الإنسان من حقائق، وأوهام، وما ‏يعتريه من أحوال، ‏وأوضاع. ولذا يكون سريع الزوال عند فاقد معناه، لا لأنه تضيَّق في دقائقه، وساعاته، ولا لأنه تسرع في خفقانه عند عابد الخفة، واللحظة، ‏بل لأن ما أبدعه الإنسان ‏للدلالة على استعماله لآلة الزمن، أو للاستشهاد على مسايرته لتبدله، وتغيره، هو الذي قاس به سرعة الحركة على هذا الكوكب الغريب، فكان ‏تحديده خاضعا لما ‏يضغط على ذاته من إحساس، وأفكار. ففرق كبير بين إحساس القوافل بخبيب نجيبها، وبين الشعور بما أوجده الإنسان من صناعة لادخار ‏الوقت الثمين، لأن ‏إحساس ذا، وهو يعي الأشياء بحدسه، وحسه، وشعور ذاك، وهو يدركها بعاطفته، ورغبته، لا يرتبط بالزمن الذي يمر بلا توان، بل بما يحدد به ‏في التقدير من ‏سرعة، وبطء. وهو ذلك الكامن في العمق، والواقع محل النظر، لأنه يحصل به الإحساس بجريان الأشياء، وسريانها بنظام دقيق. وإذا كان البصر حادا، أدرك حذقُه ‏الزمن فيه، لا في خارجه، إذ هما المدار الذي يدور عليه ‏القول عند تبرمنا من عناد الحياة القاسية، ونحن نستبطئ دقائق القرح، ونستبطن تسارع ساعات الفرح.‏
وإذا كانت السلفية هي العودة إلى مطلق الماضي، فإن ذلك مقبول في العقل الإنساني الكمي، لكن أن نصل بحدود العودة إلى مرحلة زمنية مرتبطة ‏بكيفية معينة، ‏ثم نبتر الصلة مع باقي المراحل التي قطعها فلك الإنسان على كوكب الأرض، ونفصل تطوره مع ما يقتضيه انسياب الزمان في المكان، فهذا عين الغبن ‏للتاريخ المحكي ‏على ألسن رواة العهود القديمة، والوصايا الجديدة، وحيف على ما تواتر فيه بصدق الرواية، وجدية الحكاية، لأن اتصال الوضعيات في سلسلة تطور ‏الكائن ‏البشري، هي التي تفرز نمطا معينا، يمكن الوقوف عنده، واعتبارُه أنموذجا يجوز له أن يكون مرجعا للقدوة. لكن إذا قلنا بوجود ذلك المثال وسط الزمن، من ‏غير ‏اتصال بماضيه، ولا ارتباط بمستقبله، فذاك مما لا يقبل به إلا من يقول بفرضية موت الثقافات، والحضارات، لكي تبني على حطامها نظريات عاتية في صناعة ‏‏الإنسان، والتاريخ. وإذا كانت السلفية بهذا المفهوم الذي يجعلها متحدة في الجنس المشترك، وهو مجرد العودة إلى الوراء، وإن تنوعت طرق درك كيفيتها المحددة ‏لبداية ‏أنواعها، فإن لكل خلف سلف، ولكل حفيد أجداد ينطوي عليهم الزمن الغابر. وهم عمد مركب عقله فيما يقرر، ويكرر، لأنه بدون أن ينتسب إلى تلك ‏الدائرة التي ‏تحتويه بالتبعية، على اعتبارها أصلا له في ترتيب الزمن المتتابع، والمتوالي، لن يكون قادرا على المشي بين سراب المجهول الذي نؤول إليه مع كل ‏استمرار لحرية ‏الإبداع، والإنتاج، إذ ما يضمن لنا قوة المشي إلى الأمام الذي نترنح طربا لما كمن فيه من أسرار، وأغوار، هو اعتبارنا جزءا من التاريخ الذي بدونه ‏لن يكون لنا ‏أصل، ولا فصل، ولا نسب، ولا حسب. ‏
وإذا فقدنا هذه العلاقة بالماضي الملتف حول تحربة الإنسان، وخبرته، صرنا أحرص على الحاضر الذي نهديه ساعاتنا، وأبعد من الغد ‏الذي نتوجس ‏خيفة من غوائله الفاتكة، لأننا ما دمنا لا نملك لغة الدخول إلى قعره، ولا خصوصية تمنعنا مما يحدث فيه من اختلاف ‏الهويات، وصراع الإرادات، فإن تسويغ الرجوع ‏إلى محدد الزمن في الماضي، هو الذي يعلمنا كيف لا تذبل وردتنا، وكيف لا تذوب ملحتنا، ‏وكلاهما يراهن عليه الإنسان فيما يأتي من صوارف الأحداث الضجرة، ‏والكئيبة، وضروب الفتن، والمحن، إذ المرور على الدنيا التي يغرينا ‏حبها، ويردينا كرهها، ما هو إلا ربط للأزمنة في قيود الطبيعة، ووصل للحقب بين تواريخ البشرية. ‏وإلا، فما قيمة التراث الذي ندافع عنه، ‏وهو ميراث تخلف بين أيدينا من كدح آباء عاشوا ما فيه من حكايات البراءة، والطهرانية.؟ أو ما معنى أن نكتب التاريخ، ‏وهو خزان الأقوال، والأفعال، ونحن لا ندبر بتدوينه إلا عقد نقص نسترها باختيار ما نراه في ماضينا عزا، ومجدا، وفخرا.؟
‏ وعلى هذا، تكون السلفية مقولة مشتركة بين كل الديانات، والثقافات، والحضارات، لأنها الفعل البشري في محيطه المادي، والمعنوي، ‏والإنتاج ‏الذي يخترق الزمن، ويبني المستقبل الممتد على محيط الإنسان. ومن ثم، فإن فرضية القطيعة مع الماضي في ضرورة التقدم الذي ‏ننشده حين تكون عقولنا سليمة البناء، ‏وقويمة التركيب، أو حين لا نشعر بصداع الانتماء إلى دائرة ضيقة، وبؤرة قلقة، أو حين نتجاوز لحظة ‏التشاؤم التي تغرينا بالسواد، وتدنفنا بالظلام، لن تكون قادرة ‏على كسب المبتغى من الآمال المرغوبة، ولا المرتجى من الأحلام المحبوبة، إذ ‏استمرار هذه النظرية في تقديرنا لحقيقة الانتساب إلى تاريخ الزمن، يعني في نهاية ‏الاعتبار، أن نكون بدون مطلقات في العادات، ‏والتقاليد، والأعراف، لأن ما نرثه من ذلك، هو الذي يمتعنا بالهوية المشتركة. وإلا، فإن قطع الصلة بالماضي، هو ‏دفن كل ما أنتجه ‏الإنسان في باب الأخلاق، والقيم، والسلوك. وذلك مستعص ضبطه على الفهم، ومتعذر حده على الإدراك. وإن لم نقل بأن هذا الاعتقاد ‏السلبي، ‏يكاد يكون مستحيلا في منطق العقول السليمة، فإن قصارى الجهد في تبليغ المعنى الذي نستطرده ببعد من أبعاد القضية، هو ما نأمله في أن تصير ‏خصوصيتنا المحلية ‏وقاء، وشفاء، لأنها تؤكد على نوعٍ من المعنى في الارتباط بالقديم المتوارث، وتوحي إلينا بوجود مناط يمكن له أن يكون بداية الاكتساب لمهارة الفعل الإنساني ‏المسؤول، والملتزم. وهو على هذا استمداد من غابر الأحداث ‏التي حصلت بين عالم الغيب، والعدم، وإن كانت مصاديق وقائعها موجودة ومعروفة في دوائر الإدراك ‏بالشهود، والحضور، إذ المراد، هو أن تبقى ‏مكوناتنا صمام أمان يقينا من الذوبان في حضارة الآخر، وفي الوقت نفسه، هي ارتباط وثيق بالتاريخ الذي صاغ شعورنا، ‏ونظم عقولنا، ‏وسدد أخلاقنا، لأنها نفح الآباء والأجداد في أعماق الأبناء، والأحفاد. وإلا، فإن الانزياح عنها بدعوى التقدم إلى الأمام المفترض الأمداء، ‏لا يعني سوى ‏أن نلبس جبة غير جبتنا، وننطق بلغة غير لغتنا، لأننا لن نوجد بين الحقائق التي لها وجود مؤثر، وفاعل، إلا إذا تمازج فينا ‏الزمن بأبعادة الثلاثة، واختلطت تجربتنا فيه ‏بما اختبرنا معدن مادته، وحركة جرمه. وهو بهذا المعنى يحتوي على تفاصيل الإنسان الكامل، ونتاج العقل العاقل في ‏الزمان، والمكان. لكن هل يعني هذا أننا نسوغ ‏الرجوع إلى الماضي بفرضية من الفرضيات، ولكننا ننعاه على الآخر حين يكون مغاليا، ومجافيا.؟ ‏
لعل النزوع إلى الوراء سمة الإنسان في بدائيته، وتمدنه، إذ ما أزعجه شيء من نكد همومه، وكمد غمومه، إلا وتأخر عنه، ورجع القهقرى، وولى ‏ظهره ‏نحو تلك البسمة الحانية التي تعيش بين أحشائه المخضرمة بالأمل، والألم. فالضجر الذي يحصل اليوم بعد التقاء الأجيال المختلفة على معنى التحرر، والتقدم، هو السبب ‏في اختلافنا حول تحديد الموارد، ‏ومحال العودة، لأن الذي افترض القطيعة مع التراث بمقتضى السير إلى ما حلقت الإنسانية في سمائه من مدنية، لم يرد سوى أن ‏يسير وراء ‏قافلة الحضارة، ويعدو إلى اللحظة التي تتحقق بها سعادته، وهناءته، لأنه أيقن بوجود مسافات بين القديم، والحديث، وهو بهذا يصنع ‏قالبا للمعرفة ‏البشرية، ولكنه لم يدرك أن ما ينساق وراءه، لم ينس سلفه، ولم يبن على غير أساس، بل كانت براكين دمه تفور بين الأديرة، والمعابد، وركام جماجمه وأشلائه تشهد ‏على زمن كان السيف صقيلا، والكتاب شاحبا، ولولا ذلك، لما ‏استوطن وطن الحضارة، ولما عرف كيف يمشي الإنسان إلى الأمام الذي يخلب لبنا بين ديار تعالى ‏عليها صوت الدجل، والخرافة. ومن هنا، فإن القطيعة لن تؤثر في العقل العربي العاض بنواجذه على ‏تاريخ نشأته، وبنائه، لأن تشبث الإنسان بالتراث الذي يلوذ به ‏عند اسوداد الأفق، وانهيار المدى، لن ينهيه شيء مما يروج في الساحة ‏الثقافية، والفكرية، والعلمية، إذ تلك العودة إلى نقطة الانطلاق، هي التي تمنح الإنسان شيئا ‏من الهدوء، والثقة بالوجود، وهي التي تجعله قادرا ‏على معايشة صوارف الزمن بقوة، وحدة. ولولا ذلك، لفني كل من تخلف عن الركب، ولم يجد له سوى الانتحار ‏سبيلا إلى السكينة.‏
‏ ولذا تعتبر السلفية كُنا يعيش بين دروبه كل من أحس بضرورة قراءة تاريخه في تقدمه، أو كل من فر من وجعه إلى لحظة البراءة الكامنة في ‏مرآة ‏ذهنه، وهي تلك الطفولة التي تدل على وداعتها لحظة الاستكانة إلى القديم، لأن كل واحد منهما يتبنى خيار المراجعة، ولكن الأول ‏جعله درسا في تعلم كيفية السير بين ‏الديار التي صعقها التخلف، وصرعتها الرجعية، ولم تدر إلى أي مرحلة في التاريخ ستعود، وإلى أي مآل ستؤول. والثاني جعله ‏حصنا يحميه من الزوال، وهو بدون ‏أن يشعر بذلك، لن يكون موجودا في رفض الأشياء الجديدة، لأنها تدل عنده على المفاصلة، ‏والمقاطعة. وتلك سبته، ومعرته، لأنه لم يستحضر إلا الذي أراد هدم ‏الدور العتيقة، ويقلع الأشجار، والأحجار، لكي يبني على أنقاضها معالم حضارة فاتنة، تقوده إلى مهيع ‏الحياة الآمنة، والساعة الهادئة، إذ لو استحضر عمق فلسفة بناء ‏الثقافات، ونشأة الحضارات، لأيقن بأن الماضي الذي يضخمه الإنسان في صراعه مع حاضره، ولو ‏كان بائسا، ورديئا، إن أحسن اختيار ما هو نَسبٌ لنا فيه، وفيه ‏احتمالات اليقظة، والنهضة، فلا محالة، سيسوقنا إلى ما نريده من طرق اجتماع الأسلاف على مقتضى ‏الصلاح، والخير، وسيوصلنا إلى زمن نشأة الفلسفات الدينية، ‏والبشرية، لأن ما نسترجعه من الشكوى، وما نستهديه من الذكرى، هو تلك الصورة المتناهية في الأخلاق، والمتعالية في المثل، والمتسامية بالمعاني الإنسانية الخالدة، ‏لاسيما إذا اعتقدنا بوجود ضابط عقدي يحدد أفق كل ‏ما هو صالح، وما هو فاسد. وهو ذلك الإحساس بضرورة الاستقامة على لازم الإيقان بوجود صانع أبدع ‏الكون، وأراده مرفأ للذوات العابدة للجمال، والكمال. إذ الغاية في ‏كل فكر يعاد إلى مادته الأولى، هو تخليق الصورة التي تدل عليه، وتحسين وضعيتها في مرآة ‏المسقبل الذي نحفد إليه، لأن الأفكار لا ‏تتصارع في عالم المعاني، والحقائق، والمعارف، إلا إذا تضمنت الرؤى الوجودية للإنسان، والطبيعة، والكون، والحياة. ومن ‏هنا، فإن انتظار ‏العمل لغده الأخروي المشرق، هو الذي يمنحه القوة على الاستمرار، لكونه مقصودا بذاته، لا مرغوبا بنتيجته، إذ نتيجته قد تظهر على ‏العامل ‏بالوسيلة النظيفة، وقد تبرز فيما سيأتي بعده من أزمنة، وأمكنة. وهنا اختلفت نظرة الذي يقطع الصلة بالماضي في حركة البناء للمهد ‏الآمن بين أطباق الطبيعة، ونظرة ‏الذي يرى فعله مستلهما لروح الماضي، وقلب الحاضر، وعقل المستقبل.‏
وعلى هذا، فالفكر الديني حين يصارع من أجل حضوره الفعلي في بدع الأحداث، ومحدث الوقائع، لا يستهدي من أسس بنائه، وقواعد بقائه، إلا ‏ما ‏يجعله ثابتا، ويصيره راسخا، بل من شدة الغلو في تحصين تلك الصورة الجميلة، صار التغير المرتبط بناموس الحياة مرفوضا، ومنبوذا، لأنه لو ‏لم يكن الماضي بتلك ‏القيمة في اعتبار الإنسان، لما ضحى من أجله بأنفس الأرواح، وأغلى الذوات. وهكذا الفكر المادي في رفضه للأكنان ‏القديمة، والربوع العتيقة، وهو في بعض مظاهره قد ‏ألبس لبسة الدين، ومظهر الطهر، وأقحمت فيه الرغبات البشرية، والشهوات المادية. ولذا حارب من أجله ‏عاجن عجينه، وخالط طحينه، لأنه يهبه نعيم الحياة التي حرم ‏من رزقها بالكد الأمثل، والسعي الأجمل، ويمنحه لذات الذات التي تملكُه بشهواتها ‏المعرورة، ونزواتها المقرورة، وسواء في ذا من اتخذه وقاية لحمايته، وصيانته، أو من ‏صدع بصوت الرفض لكل ما يدل عليه من تاريخ الكون، ‏والإنسان، وهو يريد أن ينسف قبة العقيدة التي توحد بين الفعل وقصده في الغاية، لكي يؤمن بشيء غير ‏محدد في القيمة الاعتبارية، بل هو ‏أقرب إلى التهاويم من الحقيقة التي ترامى نظر العقلاء إلى منطقها الفاعل، والمنفعل، لأنها غير العقل حين يسكر بلغة الإنكار، وحدة ‏‏الرفض، ولم يجد له طريقا إلا الشتيمة، والوقيعة، إذ ما يريد أن يصل إليه في السطر الأعلى لمبتغى الذوات التي يتأرجح نظرها بين الشك، واليقين، هو عدم وجود إله ‏يدبر أمر ‏الطبيعة، ويحرك نظمها نحو طرق الاستمرار، ومساحات الامتداد. وذلك هو عين ما يتحدث عنه من أثبت القضية بوجه من الوجوه، وقال باستحالة ‏وجود شيء من لا شيء، لأن الإيمان الذي نشأ عنده، لم يكن إلا معلولا لعلة خارجية، وهي دليل الأثر على الحدث، وهو الفعل الذي لا فاعل يدعيه، وخلاءه من ‏الادعاء، يجعله صرفا لخالقه من عدم. وهنا التبست الطرق على السلفي المادي في تصوره، لأن قصارى الجهد أن نقول له: لقد أثبت العلة، وفاتتك نسبة الحصول ‏على علم بلا مقدمات الدليل، وهو علم إدراك الإله في كل شيء بلا انفصال، إذ الدليل يطلبه العقل، والقلب لا يطلب دليلا بعد استكمال المعنى لحقيقة الحضور، ‏والشهود. وإذا قلنا هذا في السلفي المتدين، وهو يحارب شك العقل بيقينه، وهو محلهما عند تنازع الأحكام على حيازة الأشياء، فإن المادي الذي نفى العلة، لم يكن ‏إلا مخالفا لمنهجه، لأنه يفتضي أن ينفي العلة الروحية بالمادية، لكنه أثبت اللقاء بين الأشياء بالمصادفة، وهو معنى غير محدد الجوهر، والجرم، وبهذا قال بالعلة الروحية، ‏ولو ظن أنه نفاها بقوله. ومن هنا نقول بأن المصادفة، ‏‏(الصدفة) هي التقاء شيئين بلا ميعاد محدد لهما في الحقيقة. وهل التقى شيء بشيء في محرر العقل من غير ‏أثر.؟ ‏
لو قيل بذلك في مرسوم الآراء، لعد قائله ‏أبعد عن سمات العقل العاقل، لأن وجودهما بالأثر ‏الذي تضمناه، هو السبب في قبول ضرورة علة ‏حدوثيهما، لأن ‏التركيب والترتيب في الأشياء، لا ‏يمكن لهما أن يكونا أثرا إلا بحدوث الشرط ‏الطبعي في الولادة، والنشأة. وتلك هذه قوانين ‏موجودة في كل ‏العلوم التي بحث الإنسان بين ‏أسرارها عن أنطولوجيا الوجود، والكون، ‏والإنسان، والطبيعة، إذ هي لا تقبل بمعلول من غير ‏علته، ولا ‏بمسبب من غير سببه. وهكذا النظر في ‏الأثر، لأنه نتيجة للفعل، ومقصد للعقل، وكلاهما ‏ينظران إلى نتيجتيهما في أصل التكليف بوجه من ‏‏الوجوه المعتبرة. وعلى هذا، فإن الأثر لا يمكن ‏القبول به، ما لم يكن تفاعلا بين ذلك الشيئين ‏اللذين حدث منهما الوجود، لأنهما إما أن يكونا ‏روحيين، وإما ماديين، وإما مختلفين، إذ لا يمكن ‏نفي أحدهما عن الآخر، ثم ننتظر النتيجة. وإذا ‏كانا موجودين ضرورة، فإن القول بمايديتهما، ‏يستوجب أن تكون المصادفة معلومة، ويكون لها ‏مصاديق في الخارج. وما دام مصداقها لم تكسبه ‏الحواس، ولم تفده فحوى التجربة، والخبرة، ‏فالقول بمعنويته أولى، لأنه لم يشهد ذلك في ‏الحقيقة. وما قال به الإنسان من مصادفة حدوث ‏الأشياء غير المنتظرة، فلا يعني به سوى المفاجأة، لا ‏الفراغ، (لأن المصادفة تتضمن معنى الفراغ.) إذ ‏هو لم ينف السبب، والعلة، وإنما صعقته الدهشة، ‏والذهول، فارتبك عن السبب، وقال بحدوث ‏المسبب اقتحاما. وهل يمكن درك تلك المادية ‏من القول بالمصادفة.؟ قد يكون ذلك صحيحا إذا ‏كانت العلة مادية، لكن العلة على اعتبار ‏المصادفة خلاء من السبب المباشر معنى من ‏المعاني، لا تدل إلا على حدوث شيء من غير ‏تخطيط ذهني له، وهو ما نعنيه تأدبا بقولنا في ‏إثبات علة الإيجاد: خلق الخلق على غير مثال سابق. ‏وما نؤوب به إلى عالم المعاني، فالقول بروحيته ‏أجلى، وأحلى. ‏
وعلى هذا، فالتقاء شيئين "وفق هذا ‏المعنى" بلا ميعاد مسبق، ولا ملحق، هو الأثر ‏الذي سينتج عنهما في العماء، والخواء، لأنه لم ‏ينتج إلا من فراغ، وما كان هذا حالا له، فالقول ‏بالفوضى فيه أولى من النظام. وأي أثر فيما لا حد ‏له، ولا ‏نهاية.؟ أليست المصادفة بهذا المعنى ‏شبيها للقول بوجود إله خالق بمعناه الروحي.؟ ‏ربما نجد في غير نهائيتها ما نجده وصفا لازما للإله ‏في أزليته. لكن القول بحدوث العالم مصادفة، ‏ولو لم ينخضع لما حوصر به الفكر من قوالب ‏المعرفة، هو ‏مقصد الفكر المادي رغبة، لأنه نفى ‏الإله، وأثبت الفعل الذي ننسبه إليه للفوضى، ‏لكي يقود الإنسان ذاته بلا مطلقات تحددها ‏الإرادية الفوقية، وإنما تؤسسها رغبته في إطفاء ‏سعير شهواته، ونزواته. ومن هنا كان الإلحاد ‏تسويغا للثورة على الدين المتجسد في رجالات ‏علمه، وسياسته، أو للإخفاق في ترويض الذات، ‏وإخلائها من الحظوظ النفسية السيئة، والغايات ‏العقلية الدنيئة، لا منحى عقليا، وفكريا، إذ لو ‏اتسم بتلك العقلانية، لاسيما مع وووجود موروث ‏مطعم بالدين، ومثقل بالتراث، وأوجاع التاريخ، ‏لكانت نتيجته القول بتعدد المعتقدات البشرية، ‏وتنوع مسبباتها، ومقتضياتها. وفي ذلك حد ‏مشترك يحصل بين الأسوياء من العقلاء؛ وهو ‏احترام معتقدات الإنسان الروحية، وميولاته ‏المادية. لكن المادي قفز من أعلى السطح إلى ‏مرتبة أدنى، لأنه لا يجادل في الإله الذي ‏أهال ‏التراب عليه، ودفنه في قاع اللاوجود، إذ غيبه ‏يعينه على رفض شهادته في آثاره، لأن إثبات ‏وجود العالم من مصادفة، هو تحديد ‏لزمن معين ‏يمكن الرجوع إليه في سياق التاريخ الكوني، ‏والإنساني. ‏








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا