الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العباءة السوداء والعمامة السوداء

ساطع هاشم

2017 / 3 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الملابس هي اعلان هوية فكرية او ثقافية او مهنية , وهي تقول اكثر مما تقوله الكلمات , عن المجتمع والافكار والتمايز الطبقي بالمجتمع , وقد جعلت الاديان المنتشرة حول العالم ورجالها من الازياء بيانات سياسية وايدلوجية , وانسجة القماش المصنوعة خصيصا لاغراض دينية قد لعبت دورا مركزيا في حياة المجتمعات ولكن بسبب سرعة حركة التغيير الاجتماعي والثقافي العالمي منذ انطلاقة الثورة الصناعية قبل مئتين سنة , فان الكثير من هذه الاعراف والتقاليد زالت او في طريقها للزوال , وربطت الديانات الابراهيمية الاسود بالافكار السيئة والسلبية , لان الديانات الوثنية القديمة في العراق القديم ومصر الفرعونية كانت تقدس اللون الاسود , ويكفي ان تذهب الى اي متحف في العالم لديهم اعمال من الفن العراقي القديم مثلا حتى تكتشف بنفسك وبكل سهولة بان تماثيل ملوك جميع السلالات التي حكمت العراق سوداء , ومسلة حامرابي سوداء , وجميع الاشياء الهامة والمقدسة سوداء , والسبب لان تلك الحضارات كانت تقدس الاسود وتعتبره رمزا للخلود والمجد والرحلة الى عالم الابد , بينما الابراهيميون فهم ضد هذه الافكار والمعتقدات ولايعترفون بتعدد الالهة وهذا ماجعلهم يحتقرون الاسود , ولكنهم لبسوا السواد كالوثنيين وغطو اضرحتهم به واخترعوا منه ثيابهم وارديتهم وعمائمهم التي ينشرون بواسطتها معتقداتهم بين العامة بالضبط كما فعل حمورابي الوثني , ومازالوا الى الان يغطون الكعبة بالاسود ويقدسون الحجر الاسود , واكثر ما يلبسون عمائم سوادء , بالضبط كما فعل نارم سين وملوك الاشوريين الذين تحطم اثارهم اليوم في كل مكان .
فلماذا هذا النفاق والدجل ؟
لقد بدا الانسان بتصبيغ الملابس بين الالف الرابعة والسادسة قبل الميلاد فيما يسمى الان بالعصر الحجري الحديث بالتوازي مع الثورة الزراعية , واقدم منول ومصبغة ملابس تم العثور عليها لحد الان هي من اختراعات السومريين جنوب العراق , غير ان تصبيغ الاجساد وادوات الصيد فهي ابعد من ذلك بالاف السنين .
والالوان مرتبطة في اذهان البشر – كافراد او جماعات – باشياء الحياة اليومية وقيمها الاجتماعية والفكرية كوسيلة اتصال وتفاهم , ولاتفهم مثلما تفهم شفرة العلماء في المختبرات , فمثلا الاحمر يدل على التوقف عند سائق التاكسي والثورة عند الثوري والحب عند العاشق , والاخضر يعني ساحة كرة القدم عند الرياضي ويعني النبي الخضر وطلب الرحمة عند الامهات المنكوبات في العراق , وهذه التقسيمات كلها اجتماعية تساعد الانسان في صراعه في سبيل البقاء , فنحن ننقل ونهتم بالالوان كفكرة وليس بحد ذاتها , ويجري التأثير علينا بشكل متواصل دون ان ندري من خلال الالوان , اذهب الى السوق لتشتري اية حاجة فهناك مهتمين بالتصميم للتأثير على الزبائن في كل حالة , وجعلهم يميلون الى هذا دون ذاك , وهذه العادات بالتأثير قديمة جدا قدم الانسان نفسه لان اللون يحتل مكانة مركزية في تكويننا النفسي والبايولوجي , والسبب هو في طبيعة وتركيبة الدماغ البصري والعين البشرية , وهذه اكتشافات حديثة طبعا لكن البشر كانوا يشعرون بها دائما بدون التمكن من تفسيرها وخاصة في الديانات والعادات الشرقية القديمة , فالغربيون مثلا يميلون للتكفير عن ذنوبهم الى تكريس انفسهم لاعمال البر والتقوى , بينما الشرقيون ينسحبون من العالم الى التأمل ويستعملون الالوان في هذه الحالة لشل الدماغ او تثبيته في مكان واحد للوصول الى – الذهول – , ويقال ان فيثاغورس كان يداوي المرضى بالموسيقى والشعر والالوان , وفي القرون الوسطى الاوربية استعملت الملابس البيضاء للمصلين , والاحمر للمحاربين والاسود لمن يعمل بيديه او للشغيلة وهذه تقاليد رومانية قديمة تم احيائها .
لماذا جرى تمثيلنا على هذا النحو ؟
عبادة عشتار - تموزفكرة خيالية او مجردة ظهرت في عقول المؤسسين الاوائل للثورة الزراعية او قل الفلاحين الاوائل الذين استقروا بالقرى والمدن الاولى والتي تكونت بعد نهاية العصر الجليدي الاخير على الارض , قبل حوالي عشرة الاف سنة , وتسمى هذه المرحلة ايضا بالعصر الحجري الحديث الذي يمتد حتى العصر البرونزي حيث اكتشاف النحاس وصناعة سبيكة البرونز منه بحدود 5000 قبل الميلاد , ثم اعقبه مباشرة وربما في وقت واحد اختراع الكتابة الصورية وبداية العصور التاريخية.
هذه العبادة هي امتداد لعبادة الام التي كانت موجودة عند غالبية قبائل الصيادين الرحل في العالم قبل العصر الجليدي , يعني خلال العصر الحجري الوسيط (الزمن ماقبل العصر الجليدي الاخير على الارض يسمى بالعصور الحجرية الوسطى والقديمة) وقد استمرت عبادة الام كل هذه الالاف من السنين باشكال متجددة لتلائم وضعا اقتصاديا واجتماعيا جديدا ولمواكبة تطور الافكار والمعتقدات التي نشأت بعد اختراع الزراعة وتدجين الحيوانات , ويعتبر هذا الشكل الجديد من العبادة عشتار – تموز هو اول دين ظهر بالتاريخ بمعناه الذي نعرفه الان , يعني معابد ثابتة وعبادات وكهنة وطقوس سنوية او موسمية متكررة ومرجعية والهة وغير ذلك من صفات الاديان.
اما قبل هذه بمعنى قبل الثورة الزراعية فقد كانت هناك مرحلة اقدم ومعتقدات اخرى تسمى في ادبيات العلوم الحديثة الان بمعتقدات السحر او بممارسات السحر التي رافقت مرحلة الصيد , وهي تختلف كثيرا في شكلها ومضامينها عن عبادة عشتار - تموز او عموم عبادات الفلاحين او الثورة الزراعية التي جائت بعدها , وقد استمرت تقاليد السحر في الوجود بعد ان دخلت ضمن تقاليد الديانات الجديدة كشئ موروث ومعترف به وليس كشئ مستقل قائم بذاته ينافس العقائد الجديدة بعد الان.
والسبب في هذا التطور كما يعلله المؤرخين وعلماء الانسان (الانثروبايولوجي) هو شعور البشر بضرورة وجود عقد اجتماعي معين يربطهم وينظم حياتهم الفلاحية الزراعية ذات الاستقرار الجديدة , او سلطة معينة تقودهم وتساعدهم على مواجهة اخطار وغدر الطبيعة لمساعدتهم على البقاء , واسباب ظهور الدين عديدة جدا وهي سبب لخلافات عميقة بين المختصين بتاريخ الافكار , ولكن باختصار يمكن القول انه كان لمساعدة الانسان على تنظيم حياته الاجتماعية ووضع الضوابط والحوافز المعنوية لحياته الاقتصادية دائمة التطور والتعقيد , وقد ادى الدين هذا الدور في كل انحاء العالم الذي دخلته الثورة الزراعية قبل ثمانية الاف سنة , وحتى دخول البشرية مرحلة الثورة الصناعية قبل مئتين سنة.
وحتى عقود قليلة ماضية من الزمن كان الاعتقاد السائد بين الباحثين في اصل الحضارات وخبراء الاثار والاركيولوجي , يقول بأن الثورة الزراعية قد بدأت من مركز واحد في الشرق الاوسط (تحديدا جنوب العراق) ثم انتشرت بعدها من هناك الى بقية العالم , غير ان الاكتشافات الجديدة (في الصين خاصة) جعلت الكثيرين يشككون بهذه النظرية , ويرجحون قيام الثورة الزراعية في وقت واحد تقريبا من النيل وحتى النهر الاصفر .
وهذا الصراع في سبيل البقاء في المجتمعات الجديدة يفترض من البشر تفسيرا معينا لاهوال الطبيعة , حتى يستجمعوا قواهم سوية في العمل والمواجهة , فكان ان تخيل الناس ارضهم وحيواناتهم وكل مايملكون تحت حماية ورعاية – الام العليا – والتي هي مسؤولة عن انجاب الحياة لكل الكائنات التي انتجتها , وقالوا ان اسمها – عشتار – وذلك لايتم الا باقترانها الدائم بتموز , زوجها (بعلها) وحامي املاكها والمحارب الخالد بالدفاع عنها .
ولهذ فقد تمحورت كل الطقوس والعبادات الاولى لقدماء العراقيين في زمن السومريين التي استمرت لاكثر من الف عام حول شخصها بالذات فهي ملكة الالهة الاساسي / العلوي لكل الموجودات وتتجلى للبشر باشكال مختلفة مرة على هيئة ملاك او طير او امرأة او عروس او سماء وبحر وكل ماهو ارضي من احياء وجمادات على حد سواء , لذلك ترى رموزها في كل مراحل الفن العراقي ابتداءا من رمزها الشهير في الاختام الاسطوانية الاولى على شكل حزمة من القصب معكوفة في نهايتها العليا عندما كانت تتربع على عرش الالوهية , وحتى شجرة الحياة في المنحوتات الاشورية المتأخرة عندما فقدت مكانتها واصبحت مجرد اله عادي بين الالهة كلها .
واذا استطعنا الان اعادة تلوين تلك التماثيل والاثار الباقية (حسب اعتقادي لالوانها) , بالاخضر للاشجار والاسود للمباني والالهة وملابس الكهنة , والاحمر والاسود معا للمحاربين و الازرق او الاحمر للخلفية وللارض والازرق للانهار والماء المتدفق , فسوف نكتشف لون العباءة الاسود بسهولة , ومما يعزز هذه القناعة هو كثرة التماثيل المنحوتة من احجار سوداء منها على سبيل المثال سبعة وعشرون تمثالا بالاحجار السوداء للملك كوديا ملك سلالة لكش الشهيرة بالتاريخ والتي من المرجح ان يكون الملك كلكامش احد ملوك هذه السلالة الاوائل ايضا, وعند مقارنتها بالعراق الحديث فسوف نتبين وبكل سهولة باننا رغم كل تلك الالاف من السنين التي مرت علينا والحروب والنكبات والقتال المستمر والكوارث والسلام المؤقت مازلنا نعيش تقاليد الاقدمين ونقدم القرابين ونحيا بالخرافات والخرافين.
كان اله القصب في حضارات العراقيين الاولى ذو لون اسود واخضر وهو الذي يبعث الحياة بهذا النبات وتقام لاجله الاعياد والطقوس لان القصب هو المادة التي تصنع منها المنازل والاثاث وزوارق الصيد وناي العازفين الموسيقيين وغيرها , لذلك فلابد ان يكون بداخله ساحر او اله يمنحه هذه الحيوات المختلفة , يعني لابد من عبادته وتقديسه وكسب عطفه , بينما صار فيما بعد عندما تغيرت طرق التفكير مجرد نبات عادي .
فهل يستحق اللون الاسود كل هذا العذاب ؟ الجهلة والكفار والمجرمون والمجانين يوصفون بالاسود , واجمل العيون التي تغزل بها الشعراء هي العيون السود , وذلك غير مقتصر على شعوبنا التي تتميز بكثرة العيون السود فيها ولكن حتى في اليونان وروما القديمة مجد شعرهم العيون السود ورفعوها الى قمة الجمال , والان فهل ظلام الروح هو نفسه ظلام الجسد او ظلام العالم ولماذا كانت اجمل الايام تذكر بلياليها الجميلة .
التفسير العلمي يختلف عن التفسير الاجتماعي للالوان الذي حاولنا تقديمه اعلاه باختصار , يقول العلماء :
عندما يتفاعل الضوء مع المادة فانه يأخذ شكل تلك المادة ويتشكل حولها عبر سيل من الجسيمات اللانهائية تسمى الفوتونات , هذه الفوتونات هي التي (تحمل) اللون , فبعض الاجسام تمتص قسم او اغلب هذه الفوتونات والبعض الاخر – يرتد – ينعكس – الى الخارج فتبدو للعين البشرية بشكل لون معين او عدة الوان , هذا هو ميكانزم الظاهرة الطبيعية للون المرئي .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت