الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ربيع الدماء: عن حفاري القبور!!

سامي عبد العال

2017 / 3 / 20
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


دون قتلٍّ وبلا دماء... هل كان ممكناً قيام الربيع العربي؟! السؤال يحتاجُ خيالاً واسعاً لتصور ماذا كان سيحدُث. فالأمر بهذا الاحتمال يصعُب القفز إلى نتائجه البعيدة. ذلك حتى بالنسبة للأنظمة الساقطة. فقد لا تبرح مكانها. لتعتبر التظاهرات مجرد غيمة صيف وتنقشع. وكذلك تجاه التدخلات الدولية التي جرت. إذ لن تملك حينذاك سوى الضغط السياسي. وأيضاً ما الذي كان سيتم في أنظمة الثورات على افتراض نجاحها. ربما تأخذ في طرح البدائل بشكل مختلفٍ.
لكن يبدو أنَّ "لو" المفترضة هنا تفتح عمل الاحلام وليس عمل الشيطان. فالأدنى إلى القبول: كان ينبغي أن تتم الثورات الربيعية بنثر الأزهار لا الجماجم. وأنْ ينخرط المتظاهرون في صمت كوني بدلاً العويل مع أزيز الرصاص. على سبيل المثال حمل الاسلاميون أسلحتهم لأول وهلة رداً على عنف الأنظمة الحاكمة. ولم يكفوا عن ذلك بل اصبح السلاح لغة تتحدث عنهم. وتم فتح الجبهات على مصراعيها. لأن الجهاد يتجاوز الحدود. ويستنفر المتطرفين في أي مكان. كل ذلك من غير أي طرح لقضية.. ماذا بعد؟! وكيف تتحقق غايات الثورة؟!

اللاعنف هو المقصود، هو المطلوب تحت أكثر الظروف قهراً. لأنَّ المستقبل لن يأتي بإراقة الدماء إلاَّ حاملاً معه ظلامه الكثيف. القتل لا يصنع حضارة ولا سياسة ولا تنوعاً في الآراء. إنه يحفر أنفاقاً للخراب المتبادل بين كافة الأطراف. واللاعنف هو تقنية أصحاب الآفاق الرحبة. كالمهاتما غاندي. هذا الذي قبع في صومعته الكونية ناشراً بين يديه المغزل وخيوط الزمن. كأنَّه ينسج منها- وقد فعل- مقاومة أحدُّ من السكين. ولم يكن ثمة سلاح نافذ أبلغ من الهدوء تجاه المتربصين. لأنّه وضعَ الاستعمار في حالة تعجب من كيانه الغاصب.
وكذلك نيلسون مانديلاً الذي يشبه أشجار القارة الضاربة في تربيتها. فلم تزده سنوات السجن إلاَّ سمواً وارتفاعاً. لم يترك الكراهية تأكل أفكاره وعواطفه. وأبى إلاَّ أن يخرج سالماً إلى حياة متسامحة. رفض -عندما كان بالسلطة- أنْ ينتقم من أعدائه، من الذين سجنوه وعذبوه. ونسي سنوات القهر تاركاً قلبه الصغير يتسع للعالم كله. كان مانديلا رجلاً مستحيلاً بمعنى الكلمة. لأنَّه اعتقد أن التسامح -كما يقول جاك دريدا- هو الذي يتجاوز عن أشياء يستحيل التسامح إزاءها.
تلك المسألة مهمة لمعرفة: كيف شوهت دماء الربيع العربي أثواب الحياة؟ وكيف كان الدمار عنواناً لمن يحاول الدفاع عن موقفه؟! ولماذا يعتبر القتل فاعلاً رئيساً وراء تطورات لا علاقة لها بالثورات؟ وهو ما ترك ظلاله القانية على كافة الممارسات السياسية لا حقاً. وكان إشارة لتحويل الدماء إلى تصفيات إجرائية داخل البرلمانات والدساتير والانتخابات كما تم بالأوضاع المصرية أبان حكم الاخوان.

من هنا اختلف الناس حتى في تقييم الثورات العربية ونتائجها في بلد عن آخر. بل ظل هناك تطاحن اصطلاحي حول التسميات بتلك الخلفية. هل ما يجري كان ربيعاً أم صراعاً حربياً؟!! فلم يرض المؤيدون للثورة إلاَّ بتسمية الربيع العربي. لأنه كما يتوهمون قد أزاح الديكتاتورية والقهر. بينما رفض المعارضون كل مقاربة اصطلاحية من هذا القبيل. على أنَّ هناك أناساً- بخلاف هؤلاء وأولئك - يمقتون الدماء معتبرين أنَّ ما جرى لم يكن ليصدِق بهذه الوحشية.
هكذا كانت المشاهد الأبرز في ذاكرة الثورات العربية هي اسالة الدماء بشكل عبثي. لقد سقطت الاحلام مع سقوط القتلى بأول حالة. فالدماء هي الحد الأقصى لتاريخ من الاحتمال السياسي. وهي التعبير الأكثر حيوانية مهما كانت الغايات سلمية!! وليس ثمة مبرر لأنَّ يهلل الثوار مع ذبح الضحايا باسم الديمقراطية. ولا يمكن قبول أية اسباب لصلوات الذبح فوق جثث الأنظمة السياسية. كيف نتصور ثائراً مزعوماً يقطع جثة مكبراً بإخراج عينيها؟ بينما تقف خلفه أشباح ذات ذقون مهووسة بالموت.

وهؤلاء القتلة ليس لهم عنوان آخر غير هذا الوصف القميء. ولم يدركوا أنهم مهما صادفوا نجاحاً فسيكون مصيرهم الفشل. والاعتقاد السائد بينهم كونهم يجاهدون بأنفسهم ابتغاء الوصول إلى الحرية. وكأن الحرية لابد أن تأتي بالدماء. لكن: كيف إذا لم يتم ذلك؟ وفعلاً تحققت النبوءة في جميع دول الربيع العربي. جرَّتْ الدماء ضحاياً آخرين في مسلسل لا ينتهي. لأن القاتل سيدمن أعمال القتل تباعاً. لقد كانت السمة البارزة هي عدم قدرة الثوار القتلة ترك مهنة الاغتيال. هذا فضلاً عن نشوب الصراع الأهلي واعمال الثأر والتصفية القبلية والطائفية.
القتل حادثة لعنة على الأصالة... فكيف إذا كان حاملها ثائراً يحلم بوطن وبزمن أخضر؟!! لم يعد اسمه ثائراً. أي اسم دونه يختار إلاَّ أن يكون كذلك. لأنَّ الاسم قانون رمزي له صوره المستقبلية. إنه ضرب من الوجه العميق لما سيكونه الإنسان. وقد حمل جميع الآثار التي سيخلفها والتي بإمكانه أن يجمعها عبر أطيافه. الثوار الجدد بدون اسم ما خلا عبثهم بفكرة الحياة. أوضح مثالين على ذلك ما حدث في ليبيا وسوريا بالتوالي.

أضحت ليبيا مع اراضيها الممتدة عبارة عن مذابح لجميع الأطراف. لم تفرق سكين الصراع بين مناصري الحراك وبين مناصري النظام. وامتدت الأيدي لقطف جميع الرقاب المناهضة لها. يومياً كانت الصور ترسل كم الأعناق المقطوعة على الجبهات المختلفة. وتتوالى الحشود لمحاصرة المدن الرافضة لأفعالهم. فتمنع الغذاء والدواء وتنكل بأبنائها. وتصر على اقتحامها بحثاً عن اتباع القائد الليبي.
مع أن تلك المدن مثلها مثل المدن الأخرى تستند في تكوينها الديموجرافي إلى العنصر القبلي. وأنه لمن السهولة بمكان تفجير القبيلة بكل موروثاتها وعلاقاتها بمجرد التضييق عليها. لأنَّ الانتماء القبلي له الغلبة على أية انتماءات أخرى. والاعتداء على ساحتها هو اعتداء على جميع أفرادها بلا استثناء. كما أن الثأر القبلي أبعد رسوخاً من أي ثأر آخر. لأنه يتحول مع الزمن إلى وعي عام يلازم الأجيال.
وقد حرصت القوى الدولية وبخاصة فرنسا وانجلترا وأمريكا من الخلف في الدفع نحو الدماء مبكراً. حيث لم تنتظر فرنسا آنذاك حتى يصدر قرارٌ من المنظمات الدولية. سعت مباشرة إلى الدماء بلا هدف. ثم أكملت الطريق العنيف دول عربية كقطر والسودان والسعودية والامارات. فلعبت على التحارب القلبي المذكور ونصبت القتلة ثواراً أحراراً. وأججت الصراعات الجهوية حتى يتم تمزيق المجتمع الليبي. بل وأغرقت القبائل بكميات مهولة من الأسلحة والخطط والدسائس. وبفضل الدماء بين القبائل لم تلتئم الجراح. فالاحتقان موجود بشكل أو بآخر مع الأوضاع المزرية التي آلت إليها البلاد.

أما سوريا، فقد رُسمت خريطة الدماء بجنون. من جهة أخرى زادت عن أوضاع ليبيا بكون القوى الخارجية تشكلت بمعالمها على الأرض. كل طرف - سواء النظام أم المعارضة- أتى بأذياله الخاصة. انهمرت الجماعات الارهابية شيعةً وسنة وغيرهما لتشارك في ولائم الجثث الساخنة. رأينا ليس القتل فقط بل هندسة الذبح والاغتيال والتفجيرات. ويوم أن أريقت الدماء على هذا النحو أزهقت روح الثورة السورية. ضاعت معالمها مع دخول نفايات العالم إليها. من مخابرات وجهاديين وعسكريين لدول متواطئة أو مساندة إلى أصحاب المصالح.
ليس هذا فقط بل اتسعت خريطة الدماء السورية بحجم الكرة الأرضية. ونجحت قوات الأسد وجماعات الارهاب في تدويل الدماء. وكأنَّ سوريا اضحت مقبرة ضخمة. لنتخيل الشباب الغض الذي كان يهتف مطالباً بالحرية والكرامة تحول بين يوم وليلة إلى قتلة باسم الثورة. وجاء أفراد النظام قتلة آخرين مع فارق الترتيب.
هل هذه بيئة حاضنة للديمقراطية كما تسمى؟ المدهش أن هناك كتائب على أرض المعارك تقتحم وتدمر القرى والمدن بشعار القوات الديمقراطية!! اختفى كل شيء وظهر المواطن السوري مشرداً أو لاجئاً أو ضائعا أو جثة على جانب الشارع بإحدى الدول الأوروبية. إن اختراع الديمقراطية حينما تم ذلك لم يعرف أن لها أنياباً مسلحة تنتهك وتدمر!!

أخيراً لعلَّ أنكى ما حدث هو الانكشاف اللاأخلاقي الحي لجسد المجتمعات العربية. فقد كانت مجتمعات ترتدي طوال حقب تاريخية نقاباً وبرقعاً وحجاباً في وقت واحد. إضافة إلى ذلك تغطي مكوناتها الاجتماعية بغلاف القهر وضغط السلطات المتعاقبة. فجأة وجد العرب أنفسهم على قارعة الطرق. أخضعهم ثوار الدماء إلى عمليات سحل وتشريد وتجارة في كيانهم المطرود. وبدرجات متباينة كان الإنسان العادي في دول الربيع هو العري الوحشي لما آلت إليه الأحوال السياسية. نادراً ما ترك هؤلاء الثوار فرداً دونما اعتداء عليه. لأن العنف هو الغالب في المقام الأول كما ذكرنا. ومع القتل كان لابد أن يعمل الثائر حفاراً للقبور ليس أكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ




.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب


.. Triangle of Love - To Your Left: Palestine | مثلث الحب: حكام




.. لطخوا وجوههم بالأحمر.. وقفة احتجاجية لعائلات الرهائن الإسرائ