الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خرابُ الإنسان

سامي عبد العال

2017 / 3 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


هل للإنسان أنْ يفرِّغ جوفه ( نفسياً وفكرياً وحياتياً ) من أي شيء سوى الخراب؟! يبدو أنَّ الإجابة لن تكون صعبة. وبخاصة وسط مساحات الدمار من المحيط إلى الخليج. إذ يضرب جذورَه في التكوين الحياتي لمجتمعات العرب مع الاحداث السياسية الراهنة. فليس من يخرج حاملاً السلاح ليقتل باسم الدين أو باسم الثورة أو باسم الطائفية إلاَّ منتجاً للخراب. وكأنَّ الأخير وظيفة في الحياة مثلها مثل التحضر والتمدن!!

علينا معرفة خراب الإنسان قبل خراب المكان. ولو جرى هناك تركيز على المكان فقط فالنتيجة الحتمية خراب الاثنين معاً. ولن تجد مجتمعاتنا أيَّ عنصر فاعل لصناعة تاريخها الخاص. فالتاريخ ليس مكاناً ولا زماناً بل هو نتاج كائن اسمه الانسان. إنَّه موضوع العمران الأول والأخير باصطلاح ابن خلدون أو هكذا يجب.
يقول بول فاليري: "التاريخ أخطر نتاج نتج عن كيمياء الذكاء منذ الأزل، ويجعل الأمم تسكر بالنشوة. وتثقل كاهلها بالذكريات...". لأنَّه ببساطة أثر للإنسان ليس أكثر. التاريخ عبارة عن انسان يعلن حضوره أفعالاً وخيالاً. وما لم يقطعه الإنسان نشاطاً سيكون مجرد أمنيات تضيع فيها معالم الوجوه. الآن من يستطيع على خريطة العالم العربي أن يرى وجهه؟! لا أحد... لأن إنساننا غدا نشوة الخراب اللذيذ حتى وإنْ جاء بأكثر الأشكال حداثةً.

الاهتمام بمظاهر التطور المادي بخلاف الإنسان ضرب من التشوَّه البراق. إنَّ ما نراه يعني قلب الإنسان رأساً على عقبٍ. رجلاه بالأعلى ودماغه بالأسفل. لنتخيل مجتمعات عربية بأكملها تسير بذات الطريقة المقلوبة. تلك الأرجل التي ترتدي الأحذية ومع ذلك تقف فوقاً بالأمام. تجد احدهم يقابلك بالحذاء وهو كومة من القاذورات الفكرية.

الحذاء يتكلم، يتأتأ، يتلعثم، يحشرج. وبدلاً من التواصل يكون العراك حواراً غامضاً مهيمناً على المشهد. لأتفه الأسباب تجد الصراخ –كما في الفضائيات الاعلامية- هو السمة الغالبة بين العرب. هناك لا انسان في الحقيقة. ينطق بأي شيء إلاَّ بكونه كذلك.
لعل أخطر ما حدث هو اجتياح الحداثة التقنية لمجتمعات العرب. كل ذلك على قاعدة ضياع الإنسان. هذا الظلام الذي يسكنها حتى النخاع. فالدول النفطية وغيرها لديها تراكم تقني طائل. غير أنَّ التراكم لا يشكل فائض قيمة معرفية أو حضارية. لكنه يقف عند حد الاستعمال اليومي لها. وهذا الاستعمال تمرين ظاهري تمشيَّاً مع الانماط السائدة. بينما جوهر الفكر مازال متخلفاً إلى درجة مزريةٍ.

لدينا لم تُغيّر التقنية رؤى الحياة والتاريخ والعالم. إنَّها الاستعمال البوهيمي(أو بالأحرى الاستعمال البهيمي) على طريقة الرسوم المتحركة. المنازل والمنتجعات النفطية مدججة بأحدث الآلات والوسائط الإلكترونية ووسائل الترفيه ومظاهر البذخ الرأسمالي. وتزامن مع ذلك تراجع الفكر الإنساني ذاته. كيف يستقيم ذلك الوضع؟

غياب الانسان عن المعادلة الحياتية لهو النمط السالب. إنَّ الدين والثقافة والسياسية مجالات تراكم استعمالاته. لئن كان يستخدم التكنولوجيا بالشكل الخادع، فالأنظمة السياسية تستعمله هو الآخر. لا تفرغه من جوهره حينما تمنعه من العيش الحر والمبتكر لوجوده فحسب إنما تعطيه ملكية زائفة. فحين تتيح له الحياة الحديثة اختياراً يشعر كما لو كان يمتلك شيئاً. بيد أنه في الواقع مسلوب الإرادة، فاقد الوعي. لكونه مع الخراب الضارب أطنابه عبر كل شيء يصبح معلقاً ضمن عالم آخر. إذ ذاك سيجد الأوهام ملاذا مفضلاً.
وهذا سبب أنَّ الرفاهية الزائفة تحيط بإنسان العرب أينما حل. لديه أكثر من موبايل، أكثر من تلفاز، أكثر من سيارة، أكثر من منزل فخم، أكثر من زوجة أخر موديل. لكنه لا يعطي عقله أدنى فرصة للتفتح الفكري. لا يبدل عقله كما يبدل جواربه. لا ينظفه، يتركه نهباً للخرافات والمؤامرات. وتلك المعضلة صعبة المراس لدرجة أنها تخترق أكبر العقول ثقافةً. أي أن التعليم يفشل – بذات السياق- في تغيير الذهنية.

وربما هؤلاء الحاملون للذقون والأسلحة هم الوجوه الأخيرة لهذا الخراب التاريخي. وبالتالي لن تكون داعش والنصرة ومن قبل الاخوان والسلفية الجهادية والوهابية إلا أقنعة تنظيمية له. ومالم نتساءل: كيف وصل إلينا الخراب خفياً في "ماهية إنسان" لن يحدث أي تطور للمجتمع العربي!! إنَّ ذلك يحتاج تنقيب في جميع متعلقات الإنسانية داخلنا. كيف ننظر للموضوع من جذوره؟ لماذا يتكرر طوال قرون في أغلب المجالات. حتى وصل إلى ذروته الراهنة رغم التقدم المذهل لمجتمعات أخرى.

1- لقد حافظت التكنولوجيا لدينا على ثقافة التخلف. إذ ظفرت ببيئة حاضنة لها دون مساس. بدليل امتلاء الوسائل الالكترونية بغث الأفعال والصور والتعليقات والعلاقات. حتى باتت المجتمعات العربية أسوأ الشعوب من جهة محتوى التواجد على شبكة المعلومات.
2- تعاملت المجتمعات العربية بنعرة أننا على الطريق الصحيح. بينما هي مجرد" محميات اجتماعية" لعصور الظلام والجهل. يراقبنا العالم كله ويضعنا تحت منظار النهب لثروات الأرض والفضاء والتراث.
3- خضعت التقنيات لآليات المجتمع وتقاليده. لا يفوتنا هذا القمع للمرأة إذا استخدمت النت في بعض البلدان العربية. حيث طرح رجال الدين فتاوى بتحريم ذلك. وأنه لمن الضروري لها اصطحاب "مِحْرِم" كي تستطيع الاطلاع على المواقع وإجراء حوارات(شات).
4- زادت التكنولوجيا من الهوة بين البلدان العربية سياسيا. لأنها نقلت الصراعات على مساحة أوسع. وهنا لا يُنكر دور وسائل الاعلام في التلاعب بالآراء. وتسيس المواقف لإحداث تحولات بعينها كما كشفت قناتا العربية والجزيرة أثناء الربيع العربي.
5- استثمرت الجماعات الارهابية قدرات التقنية في نشر أفكارها. وتجنيد عناصرها للتفجير والقتل والفتك بخصومها. وربما هذا هو الاستغلال الأبرز للتكنولوجيا. وهو أيضاً دليل على توطن الخراب إلى أقصى مدى.

من هنا لم يُطرح استفهام الخراب على طاولة النقاشات الفكرية والفلسفية. وتم تجاهله عن عمد. بينما الأمر ملح كما أشار إليه ت. اس. إليوت في قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب". حيث جسد فيها مأساة التدهور الفكري والحضاري للإنسان الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. كان أحرى أن تصاغ الارض الخراب من جديد. فما يعيشه العالم العربي ليس أقل من حروب الإبادة بأيديهم!!

ففي العالم العربي تضيع معاني الإنسان كأنه مشروع وجودي فاشل. لكن ذروة الفشل ألا يعي كونه خرباً على الإصالة. وأنه أشبه بعربة قديمة صدئة تسكنها الحشرات والقوارض. وتصبح مكاناً لرمي القمامة والنفايات على ناصية أحد الشوارع المهجورة.
أيضاً الإنسان الخرب مسألة لا ترد بالنسبة للثقافة. لأن الثقافة لا تسمي ذاتها إلاَّ بما تحدد سلطتها الجارية إجمالاً. وعلية ما كانت لتطرحها للتفكير الحر كظاهرة وجودية. وأحد أسباب "تكفير الإنسان" هو الكفر به أولاً. لقد تم قتله من الداخل قبل تكفيره دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً. ويخطئ من يتصور كون التكفير الديني يحل دماء المخالفين في المعتقدات. كما لو أن الإنسان لو اعتنق نفس الأفكار فلربما يُترك وشأنه.

المسألة أبعد من ذلك. إننا لو رأينا حتى هؤلاء المتماثلين في الاعتقاد والتنظيم الديني لوجدناهم قوالب حجرية تُحاور بعضها البعض. الإنسان كإنسان منعدم الحضور لديهم. لا يعيش بما يشعر ويحب ويتعاطف إنما بكل عنف يروج لما يعتقد. ويبني جماعات هي المرآة التنظيمية للجهل بالحياة وتنوعها.
لأن فكرة الإنسان ذاتها لا قيمة لها. وكشف هذا هو الأساس في بناء أي تصور حول المستقبل سلباً أو إيجاباً. الإنسان نفسه كان ينبغي أن يعد موضوع إيمان على الأصالة. ولو ضلت تلك الفكرة طريقها سيكون خراب الإنسان هو المآل. إن التدمير، التكفير، التهجير كلها تنويعات على هذا الوتر الأساس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تنظر الحكومة الإسرائيلية لانتهاء مفاوضات القاهرة دون اتف


.. نتانياهو: إسرائيل مستعدة -للوقوف وحدها- بعد تعهد واشنطن وقف




.. إطلاق مشروع المدرسة الإلكترونية في العراق للتقليل من الاعتما


.. نتنياهو: خسرنا مئات الجنود بغزة.. وآمل تجاوز الخلاف مع بايدن




.. طلاب إسبان يدعمون غزة خلال مظاهرات في غرناطة