الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد عناني … ذلك العظيم

فاطمة ناعوت

2017 / 4 / 4
بوابة التمدن


حين شاهدتُ ابنته على خشبة "المسرح القومي" العريق، تُلقي كلمة أبيها في اليوم العالمي للمسرح، شعرتُ بهول اللحظة. يعيشُ بيننا رجلٌ عظيم ساهم في تغيير وجه المكتبة العربية وإعادة رسم ملامحها بقلم رفيع وفكر رفيع ورؤية رفيعة وإبداع عزّ نظيرُه. وحين خرجنا من قاعة العرض بعد انتهاء مسرحية "ميراث الريح" في ثوبها العربيّ البهيّ: "المحاكمة"، أسرعتُ نحو تلك الابنة التي أكرمها الزمانُ بأبوّة هذا الرجل الاستثنائي، ثم عانقتُها وقبّلتُها، فكأنما بهذا كنتُ أُقبِّل جزءًا أثيرًا من الرجل الذي أدينُ له بالكثير، مثلما تدين له مصرُ والناطقون بالعربية، بالشيء الكثير.
مازلتُ أذكرُ خفق قلبي بعنف وأنا بعدُ في بداية مشواري الأدبي، جالسةً في مكتب الأستاذ بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة، أنتظرُ لقاءه، بوجل، وشغفٍ، وترقّب، وقلق، وحبّ، وفرح. مجموعة من الصراعات النفسية المتنافرة لا تلتقي في قلب إنسان، إلا قُبيل لحظات مواجهة العظماء. كنتُ قد هاتفتُه وطلبت لقاءه راجيةً أن يكتب لي تصديرًا لأحد كتبي الذي يضمُّ ترجمةً لإبداع قامة إنجليزية شاهقة. ولم أذكر له اسم المؤلفة الذي ترجمتُ أدبَها خوفًا من سخريته أو رفضه المُسبق. وكنتُ قد أعددتُ كلامًا كثيرًا حتى أقنعه بالموافقة على تصدير كتاب لكاتبة في بداية مشوارها، هي أنا، لم تصنع اسمَها بعد وقتذاك، والأخطر أنني قادمةٌ من عالم بعيد كلّ البعد عن عالم الآداب والفنون. فماذا تفعلُ خريجةُ كلية الهندسة في دنيا ترجمة الآداب المعقّدة؟ خصوصًا حين تتصدّى لإبداع روائية "مخيفة" مثل فرجينيا وولف، تُعدُّ أحد أهرامات الأدب العالميّ، ضربَها القَدرُ بمسٍّ من الفصام الذُّهاني جعل إبداعَها يقفُ على الحافة الحرجة بين الإبداع وبين الجنون! وهالني أنني لم أحتج إلى حُجج ليوافق على مقابلتي، وضرب لي موعدًا بمكتبه بجامعة القاهرة. وكانت لحظات الفرح والشغف برؤية رجل عظيم، والقلق والترقّب تحسّبًا لرفضه. ودخل الأستاذُ في كامل بهائه وجماله وسطوته وتحضّره وسموّه وبساطته ورأفته وحُنوّه، ثم ذكائه الحادّ الذي جعله يقرأ فورًا على صفحتي عيني كل ما بداخلي من صراعات. استقبلني كأنما يعرفني منذ دهور، ورحبّ بي كأن لي باعًا في دنيا الأدب، ووافق على تقديم كتابي كأنما أبٌ رحيم يُهدي ابنتَه قطعة من الألماس من خزانة مِداده وحروفه. سألني: “ترجمتِ لمين يا حبّوبة؟" وحين سمع من كلماتي المتعلثمة كلمتي: “فرجينيا وولف"، ضحك قائلا: “ايه اللي وداكي في سكّتها؟ دي حارة سدّ.” وهنا، تأكدتُ من رفضه وغشاني الحزنُ، حتى فوجئتُ به يقول: “قرأتُ كتابَك الأول عن وولف: "جيوب مثقلة بالحجارة" وأعجبني، وقرأت ما كتبه د. ماهر شفيق فريد في مقدمة الكتاب، وهي شهادة طيبة عنك، فدعيني أقرأ مخطوطة كتابك الجديد، ونشوف.” وهنا أقدّم الشكرَ عظيمَه للدكتور ماهر، أحد أكبر رموز فنّ الترجمة، وصديق الأستاذ عناني ومصدر ثقته. بعد أيام، هاتفني الأستاذ عناني ليقدّم لي عدة ورقات تحمل مقدمةً رفيعةً لكتابي الجديد بخط يده الجميل. مازلتُ أحتفظُ بها في خزانة كنوزي الأثيرة. مقدمةً أتيهُ بها فرحًا كأنما هي وثيقة حيثيات فوزي بجائزة نوبل للآداب. إضافةً إلى كون تلك المقدمة بمثابة درس عميق في فن الترجمة، لا يقلّ قيمة عن كتابه العمدة "فن الترجمة". أذهلني تواضعُه حين كتب: “كنتُ انتوي كتابةَ كلمةٍ موجزةٍ عن فرجينيا وولف ... ولكنني عندما قرأتُ مقدّمةَ المُتَرجِمة، هنا بهذا الكتاب، التي تنثر فيها مفاتيحَ قراءة وولف التي أسمتها ناعوت: "الفَرَسُ الحرون"، وجدتُ أنها تفي بالغرض، وهكذا اكتفيتُ بالمراجعة اللغوية.... نجحت ناعوت في تَمَثُّل أبنيةِ فرجينيا وولف واستيعابها قبل نقلِها بلونٍ من المحاكاة يقترب من الإبداع الجديد، فهو بلغةٍ جديدة، وهو ترجمةٌ (والترجمةُ في معناها الاشتقاقيّ نقلٌ للمكان)، تنقلنا من مكانٍِ إلى مكان، فتعيدُ فاطمة ناعوت بناءَ المواقف الشعورية في القصص الأصلية بلغة الضاد، متيحةً للقارئ العربيّ فرصةَ الاطلاع على فنِّ فيرجينيا، ولو اختلفتِ اللغةُ.... لقد نجحت فاطمة ناعوت فيما تصدَّتْ إليه هنا في هذه المجموعة: "أثرٌ على الحائط"، مثلما قدمّت لنا قبل سنواتٍ كتابًا آخر لفرجينيا وولف ذاتِها، عنوانُه: "جيوبٌ مُثْقَلةٌ بالحجارة"، ونرجو أن تتبعه بآثارٍ أدبية أخرى تُثري بها المكتبةَ العربية.”
أثرى الدكتور محمد عناني ذاكرة الأمّة العربية ومكتبتها بما يُقارب المائتي كتاب من أمّهات الأدب الإنجليزي وعيونها لأساطين الأدب مثل شكسبير، ملتون، هارولد بنتر وغيرهم، بالإضافة إلى فرائد من الكتب في تعليم فنون الترجمة الأدبية، وعشرات من إبداعه الخاص في المسرح، عطفًا على موسوعة "المصطلحات الأدبية الحديثة"، على أنني أقفُ مشدوهةً أمام ترجماته لمسرحيات هارولد بنتر التي يحارُ المرء كيف كُتبَت فضلاً عن كيف بوسعها أن تُترجم حيث يقف الحوارُ بين الشخوص على الخيط الحرج بين الغرابة والتهديد واللامعقول والفانتازيا والارتجال والعبثية.
ثمّة أسطورة فكرية وأدبية ولغوية تعيش بيننا، اسمها د. محمد عناني، قبّلتُ جبيَن ابنته قبل أسبوع، وأقبّل اليومَ يدَه عبر هذا المقال. وإن كان هناك ما أندم علي في حياتي، فهو أنني لم أتتلمذ على يد هذا الرجل العظيم، فطوبى لمن حصدوا هذا المجد ونالوا ذاك الشرف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مخاوف من استخدامه كـ-سلاح حرب-.. أول كلب آلي في العالم ينفث


.. تراجع شعبية حماس لدى سكان غزة والضفة الغربية.. صحيفة فايننشا




.. نشاط دبلوماسي مصري مكثف في ظل تراجع الدور القطري في الوساطة


.. كيف يمكن توصيف واقع جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة؟




.. زيلنسكي يشكر أمير دولة قطر على الوساطة الناجحة بين روسيا وأو