الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطفل الأحمق والطفلة الغبية

فاطمة ناعوت

2017 / 4 / 4
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أشار طفلٌ إلى طائر يجوب السماء، وقال لأبيه: “أريدُ أن أطير مثل هذا يا أبي وأصل إلى قمة الجبل." فسخر الأبُ من ابنه وقال بثقة العالِم: "الإنسانُ لا يطير يا أحمق." فصمت الأحمق. جلست طفلةٌ على ضفّة النهر تراقبُ الموجات، ثم ركضت إلى أمها: “أمّي أودُّ أن أغطس في عمق الماء.” فهزأت الأمُّ منها قائلة: “كفى غباءً فأنت لست سمكة.” فكفّت الغبيةُ عن غبائها ومضت تكنسُ الدار. كبر الطفلُ الأحمقُ وكبرت الطفلةُ الغبية عامًا وقالا لأبيهما وأمهما: “اشتقنا إلى حكايات الجدّة التي تسكن في البلدة البعيدة. كيف يمكن سماع صوتها عن بعد؟" فضحك الأب والأم من بلاهة الطفلين وجهلهما، وأخبراهما أن الإنسان ليس عفريتًا ليسمع عن بعد. وأنهما حين يكبران سيعرفان أن ما تمنياه مجرد نكتة سمجة. فسكت السمجان الأبلهان وانتظرا أن يكبرا.
سيكبرُ الأطفالُ ويموت الآباءُ والأمهات. لكن ستبقى نظرياتهما الأسطورية خالدةً خلود قوانين الطبيعة الصارمة. حين يكبر الأطفالُ سيعلّمون أطفالهما أن الإنسان لا يطير، ولا يغطس، ولا يتحدث أو يُنصت عن بعد. وتمرُّ السنوات والعقود والقرون ونصلُّ إلى القرن الحادي والعشرين دون أن نعرف شيئًا اسمه طائرة، ولا غواصة، ولا هاتف، ولا موجاتٍ صوتية وضوئية، ولا حاسوب كالذي أكتب عليه ما أكتب الآن، ولا مطبعة تنقل أفكاري إليكم. فالسلفُ الصالح لا يتكلم هراءً، وما يُقعّدوه من نظريات لا يجوز مسَّها، لأن الأقدمين مقدسون لا يخطئون. وانتقاد قول الأموات خطيئةٌ ومروق وكفر. فمن تمنطق قد تزندق.
في القرن الرابع قبل الميلاد، قال سقراط إن عدد أسنان المرأة أقلُّ من عدد أسنان الرجل. لم يقل هذا كطبيب أسنان، بل كفيلسوف يرى أن المرأة بفمها "النونو" الأصغر من فم الرجل، لابد أن يحتوي على أسنان أقل. وحين جاء أول طبيب أسنان في التاريخ ليكشف خطأ تلك الفرضية، اِتُهم بالجنون والعته والكفر والشذوذ، لأنه يحاول أن يُكذّب رجلا من السلف، بالرغم من أن هذا الرجل السلفي، سقراط، قد حُكم عليه بالموت بتهمة الزندقة والكفر وازدراء الآلهة في شريعة الإغريق.
للموت هالةٌ تمنح الميتَ قداسةً، ليست فيه. ومن ملكات الإنسان الحسنة توقير الميت ونسيان عيوبه، أو تناسيها. وفي الحديث الشريف: “اذكروا محاسنَ موتاكم، وكفّوا عن مساوئهم.” وهي خصلة طيبة، لأن الميت لم يعد هناك ليدفع أذى القول عن نفسه، فأمّنتْ له الإنسانيةُ ان يرقد في سلام ويتوفر بكامل طاقته للعالم الآخر، دون الاضطرار للذود عن اسمه السابق في دنيا تركها إلى غير رجعة. لهذا ننسى أخطاء موتانا ولا نتذكر إلا مواقفهم الكريمة وذكرياتنا الحلوة معهم. إلى هذا الحد، يُعدُّ الأمرُ إنسانيًّا ومقبولا. لكن الأمر قد يتجاوز حدَّه، فيتحول هذا الميت إلى قديس أو عالم. وكما تعلمون فإن “لحوم العلماء، مسمومة” كما قال ابن عساكر! فتغدو كلمات الراحلين أقوالا مأثورة تشارف القداسة، وقد تختلط أفعالُهم بالطقوس الدينية والسنن واجبة المحاكاة.
انتبه فرنسيس بيكون، المفكر الإنجليزي التنويري ابن القرن السادس عشر، إلى تلك الآفة البشرية في "تقديس الأولين"، دون مجرد الرغبة في تحليل أقوالهم وغربلتها وتمييز الصالح منها والطالح، والعميق منها والعفوي، والعلمي منها والجهول. وأسمى تلك الآفة بـ" صنم المسرح"، ضمن الأصنام الأربعة التي تعوقنا عن معرفة الحقيقة. واستشهد بتجربة عملية علمية أجراها مجايله الإيطاليّ العالم الفلكي الفيزيائي "جالي ليو جاليلي”، الذي أثبت، على رؤوس الأشهاد من علماء رياضيات وفيزياء، وأمام حشود العامة من الناس، في تجربة عملية واقعية، أننا لو ألقينا من أعلى برج بيزا، حجرين يزن أحدهما رطلا، والآخر يزن عشرة أرطال، فإن الحجرين سوف يصلان الأرض في لحظة واحدة. وشاهد الناسُ ذلك بعيونهم، لكنهم كذّبوا عيونَهم ولم يصدقوا ما رأوا واتهموا جالي ليو بالجنون! لماذا؟ لأن أرسطو الفيلسوف الإغريقي الشهير، الذي مات قبل تلك اللحظة بعشرين قرنًا، له رأي آخر يذهب إلى أن الحجر الأثقل وزنًا، يصل الأرض أسرع! أرسطو "قال" ولم يثبت نظريته بتجربة عملية. وجالي ليو "أثبت" نظريته عمليًّا. لكن الناس صدقوا "الميت" الذي "قال"، ولم يصدقوا "الحيَّ" الذي أثبت! لماذا؟ إنها "هالة الموت" التي تجعل من الأموات قديسين وأنبياء وعلماء لا يخطئون. وحدث الشيءُ نفسه حين أثبت جالي ليو بالمعادلات الرياضية أن الأرض تدور حول الشمس، فحكمت الكنيسةُ عليه بالموت لأن في هذا مخالفة لقول الأولين وما فهموا من الكتب المقدسة من أن الأرض هي مركز الكون، تدور الشمسُ حولها. فاضطر جالي ليو، إنقاذًا لحياته، إلى العدول عن قوله ومجاراة أقوال الكهان المغلوطة.
أديرُ الآن رقم هاتف "جالي ليو" وأعاتبه قائلة: لو كنتُ مكانك لتمسّكتُ برأيي ولم أخف." فضحك وقال: "لم أخف منهم يا عزيزتي. إنما رأيت أن أولئك الناس يليق بهم الجهل، فتركتهم في غبائهم، حتى أنصفني التاريخ حين خرجت أوروبا من غفلتها التغيبية وأفاقت على نور العلم وإشراقة العقل.”
بعد "جالي ليو" وبعد الطفل الساذج والطفلة الغبية في أول المقال، جاء أطفالٌ آخرون، أخبرهم أباؤهم أيضًا أن الإنسان لا يطير ولا يغطس ولا يسمع عن بعد، لكن أولئك الأطفال الجدد لم يصدقوا آباءهم. أولئك الأطفال أنعم اللهُ عليهم بمَلكة عظيمة اسمها "الشكّ" في المُسلّمات التي يقولها الموتى. الشكّ هو أبو الإبداع، ولا إبداع دون شكّ، ولولا شكّ العلماءُ في أقوال سابقيهم، ما اخترعوا لنا كل ما نستمتع به اليوم من منجزات العقل والشك. لو سلّم الإنسانُ القديم بأن الإنسان لا يطير كالطائر، ولا يغوص في البحر كسمكة، ولا يقدر على السمع عن بعد كعفريت، ما كانت الطائرة ولا كانت الغواصة وما كان الهاتف.
أسقطوا الهالةَ عن رؤوس الأموات، وأعمِلوا العقلَ في كل ما فات، وفكروا في كل ما تسمعون وفيما تقرأون، لأن الله هو الذي منحنا هذا العقل لنفكر، لا لنُسلّم قوادنا لغيرنا كالأنعام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مداخلة
شاكر شكور ( 2017 / 4 / 4 - 21:52 )
شكرا استاذة فاطمة على هذه المقالة الفكرية الجميلة ، لحد الآن هناك من يحاول باصرار التمسك بمقولة أن العظام تخلق للجنين اولا ثم تكسى باللحم وذلك لكي لا يكذب قول الأولين وتسقط قدسيتهم ، وهذا ينطبق ايضا على من يساند نظرية الأرض كيف سطحت وليست كروية ، فالأنسان أسير من أحَبْ حتى لو كان الذي احبه من ضاربي الودع او فتّاح فال

اخر الافلام

.. مقيدون باستمرار ويرتدون حفاضات.. تحقيق لـCNN يكشف ما يجري لف


.. تعمير-لقاء مع القس تادرس رياض مفوض قداسة البابا على كاتدرائي




.. الموت.. ما الذي نفكر فيه في الأيام التي تسبق خروج الروح؟


.. تعمير -القس تادرس رياض يوضح تفاصيل كاتدرائية ميلاد المسيح من




.. تعمير -القس تادرس رياض: كنيسة كاتدرائية ميلاد المسيح مرسومة