الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


( أعود مع المطر ) قراءة وخواطر

حسن مروح جبر

2017 / 4 / 7
الادب والفن


أعود مع المطر*
( قراءة وخواطر )

حسن مروح جبير

يحاول الروائي الياباني ( تاكوجي ايشيكاوا ) أن يجعل روايته مزدانة بأطياف الحس الياباني وشذاه ، وبهاء قمّة جبل ( فوجي ) الناصعة البياض ، وهي تبارك في كل فجر جديد وجه ( طوكيو ) .
رواية خاضت في فلسفة الوجود البشري وماهيته ، وإشكالات الوجود والعدم ، والحضور والغياب ؛ من خلال الأواصر المنظورة ، والمتخيلة . ووفق نظرة ذاهلة ( الراوي ) إلى الحقيقة والخيال ، في محاولة المزج بينهما تمهيداً لخدمة وبناء الرواية وفق قوام آخر امتلك قوة السحر والإدهاش .
انسابت تفاصيل أحداثها انسياباً هادئاً وحزيناً ، لا يشذ عن حزن الياباني الدفين ، الوقور ، كلما استعاد نكبة ( هورشيما ، ناغازاكي ) في مخيلته . وعلى الرغم من استغراقها في أكثر من ثلاثمائة صفحة ، فأن أحداثها لا تثقل على المتلقي ، أو تفقد جمالها في عينيه ، فيشعر بالسأم .
شكّلت شخصية ( ميو ) محور الأحداث الذي دارت حوله ثيمات الرواية التي بعثت ذلك النزيف المتواصل بألوان الحزن ؛ وكلما لاحت أطياف ( ميو ) ، أو تم انتظارها ، أو رؤيتها في متنزه أو غابة ، أو حينما ترعى ولدها ( يوجي ) بنظرة أم حنون ، فإن كل ذلك يوحي بالفراق . إلّا أن حضور ( ميو ) ظلّ يحتل حيزاً فسيحاً فاض منه الكثير على ذهن المتلقي في طقس شذي ، تضمخ بالألوان القزحية ، فكان حضوراً باهياً ، متصلاً لا ينقطع . ولهذا راح الزوج ينعى نفسه وأبنه على رحيل زوجته ( ميو ) ، وحياتهما الغريبة بفقدانها ورحيلها إلى ( الأرشيف ) ، الذي أرست دعائم واقعه الصدمة العنيفة ، والإحساس الصادق بغيابها المخيف ، ولهذا قال : ( إننا سنجهز أنفسنا للحزن مرة أخرى في وقت لاحق ) . وكأنه يلقي في بالنا أن الحياة ليست سوى سلسلة من الأحزان ، وليس لنا إلّا مواجهتها ؛ فتولد ذلك الحزن من الفقد .. فقد الأشياء الرائعة ، بينما تبقى أطياف الأم (ميو ) .. الأم المحبّة ، الرائعة ، بينما الزوج يتحدى ثقل ذلك الانكسار ، وعتمته الموحشة . إنه لم ينفك يلمس منها : ( رائحة شعرها المثيرة للحنين ) ، ولا زال في القلب غصة وفراغ ، تركه : ( شخص غادر العالم ولم نزل نشتاق إليه ) . ومثلما انبرى قبله الأديب الياباني الكبير ( يوكيو ميشيما ) في رباعيته ( بحر الخصب ) ، في إشارة رائعة للفقدان :
( إن هذه الدنيا أصبحت فجأة بغير الأميرة تشان ! ) ، وكأن تشان هي الدنيا . و( ميو ) هي الأخرى حققت بفقدها ذلك الأثر الرائع منها . وفي قول الراوي ( الزوج ) ، وكأن الفقد أدرك ذلك النسيج الرائع فعمل فيه تشويهاً ، أو خراباً ، وذلك بقوله : ( أشعر باستمرار في وجودك قربي ) .
كان شعور الزوج بحضور ( ميو ) ، رغم وجودها في ( الأرشيف ) ، يؤكد حضوراً جديداً لها ، حضوراً راسخاً يجعل الزوج يشعر بالتعويض ، والرضا ، والنسيان في ذهنيته ؛ ويترك نفسه قادرة على استرجاع ما فقده بكل جزئياته وتفصيلاته . وهكذا حقق الكاتب مراده في مزج الواقع بالخيال ، ويقفز بشكل رائع بين العالمين في صياغة وبناء عمل روائي رائع وثري ، ومجرّد من صيغ واسترسال السيرة الذاتية في نفس الوقت . وبدت كتابته أشبه بلعبة ممتعة ارتقت بمضمون الرواية ارتقاء موفقاً ، وفريداً .
تشكّل بناء الرواية على الربط بين عالمي الدنيا والآخرة ، أو عالم الأحياء والأموات ، المتمثل بالحياة الدنيا و ( الأرشيف ) ، مثلما جاء في الرواية ، فجاء بناء محكم اشتغل عليه الكاتب بحرية وبراعة ؛ عبر هذا الحنين الشرقي ، حتى جسّد الحضور الدافئ لـ ( ميو ) ، أي الحضور المتكامل ، متحدياً رحيلها ، مستثمراً الحنين والأسف لانقطاعها ، وعدم مواصلة الحياة مع أسرتها ، وهذا ما أكّده كلامها العاتب : ( سأعود لأرى كيف تدبران أمركما أنتما الاثنان ؟ ) .
هكذا تركت ( ميو ) أسرتها على أمل أن تتحقق عودتها ثانية .. ولكن متى ؟ فليكن مع موعد سقوط المطر ، هذا الموعد الآصرة ، التي ارتقى إليها خيال الكاتب إلى عالم الفنطازيا الرائع . أو إلى عالم الحلم والانبعاث . وبتلك اللعبة ارتقى الكاتب بالرواية إلى عالم حيوي ، مشرق بأنوار مسرّات اللقاء الموعود . الذي عاش الزوج ، ثم المتلقي عذوبته ، وبدا كأن ( ميو ) لم تغادر هذا العالم المثقل بالأوجاع ، وأن ( يوجي ) لم يصبح يتيماً ؛ فها هي ( ميو ) تحل بين ظهرانيهم ، وتأكدت من سلامة ولدها ( يوجي ) . ولكن بعد أن تحمل الزوج أوزار ذلك الحنين .. حنين العودة من ( الأرشيف ) ، وراح يناطر موعد سقوط المطر ، حيث سيحل الربيع وتبدأ الحياة دورتها الجديدة .
لقد برع الكاتب الياباني ( تاكوجي إيشيكاوا ) في طريقة بناء روايته ، فبيع منها فور صدورها في اليابان ما يناهز المليون نسخة ، وارتقى إلى مصاف الكتاب اليابانيين الذين ذاعت شهرتم ، لتفرد أعمالهم الأدبية المفعمة بحسّ جمالي وشاعري . فالياباني ، وفي كل مجالات الفنون والآداب ، وحتى الصناعات ، امتلك ناصية الإبداع وقد صدق ما قيل عنه : ( أخذ الياباني الحضارة دون تحرّج من الغرب ، ونقلها بكل تفاصيلها إلى جزره ، ثم تجاوزها حين أخضعها لنظرته الوجودية الخاصة بالإنسان الياباني ) ** ، وهكذا الحال بالنسبة للفنون والآداب اليابانية الأخرى ، فخرج ذلك الإبداع بروح ، وحسّ ، ومضمون ، وشكل ، وطني مميز كل التمييز عن ضروب الإبداع في أصقاع العالم الأخرى .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : أعود مع المطر ، رواية من تأليف تاكوجي إيشيكاوا ، وترجمة راغدة خوري .
** : حكايات المعبد الياباني : الكاتب السوري محمـد عضيمة .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث