الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ولادة إنسان

صيقع سيف الإسلام

2017 / 4 / 18
الادب والفن


ولادة إنسان
....
...
في 12 يناير الموافق للتقويم اليولياني ، ذكرى القديسة تاتيانا ، يستيقظ إيفان بصعوبة مع صداع قاتل يجبره على ابقاء عينيه مغمضتين ، فارضا عليه التحسس للاصوات المحيطة به فقط تفاديا لأي ألم يضيفه ... لحظات بعدها يستشعر يدا ناعمة تمسك ذراعه ، استعدادا لحقنة مورفين ، التي سرعان ما يبدو أثرها بنقص الصداع الذي يعاني منه إيفان ...
يفتح ايفان عينيه ببطء بعد الحقنة واجدا نفسه في حضرة ثلاثة اطباء ؛ المختصة صوفيا لوبانوف و اثنين غيرها يقفون بمحاذاة سريره المحاصر بالآلات و الاجهزة الطبية التي تقيس معدلات نبضه و تنفسه ... يقابله تماما جهاز ذو تقنية البصريات-الوراثية الذي لم يرى مثله ايفان من قبل ؛ حيث يديم النظر اليه طويلا مع الاشياء المتوفرة في باقي الغرفة كأنه طفل يبصر النور في لحظته الأولى لكن بدل صرخة البكاء كان هناك صمت مطبق .
تتلفظ المختصة صوفيا لوبانوفا : " مرحبا سيد ايفان... انا المختصة صوفيا في امراض الذاكرة ؛ و قد كنت المسؤولة عن علاجك بسبب الحادث الذي اصابك ؛ تحطم سيارتك الذي سبب لك اصابات بالغة في راسك... ربما لا تتذكر الان اسمك او اي شيء على الاطلاق وذلك يعود لفقدان الذاكرة الرجعي الذي صرت تعاني منه "...
يصدم كلام صوفيا الشاب ايفان البالغ عقده الثالث ؛ محاولا استرجاع ذكريات سابقة... ذكريات البارحة و السنة الماضية.. ذكريات اسمه و منزله... ذكريات الحادث الذي تتحدث عنه هذه المرأة... لكن من غير فائدة ؛ فلم يكن هناك اي شيء ؛ كل شيء في ذهنه كان عبارة عن غيمة كبيرة و ضباب كثيف يظهر في مخيلته اذا حاول تذكر شيء ما ؛ كان ايفان قد خسر كل ذكرياته الماضية الا مهارات القراءة و الكتابة ؛ مما سبب له فزعا لحالته تلك ؛ يمرر يديه على وجهه و يضغط على نفسه لعله يكون مجرد حلم سيء... يزيد في ضغطه و يقطع التنفس عن نفسه لكي يستيقظ من الحلم.. لكن لا شيء ؛ فلازالت صوفيا واقفة امامه تنظر اليه بتعابير توحي بانها تحس بألمه و معاناته ؛ حينها بدأت دموعه بالانهمار و ارتفع تردد جهاز قياس النبض لتسارع دقاته ؛ كان ايفان يبكي على ماضيه رغم انه لم يعرف هل كان يمثل شيئا جميلا ام فقدانه لذاكرته افضل له للعذابات التي حملها ؛ ايفان رأى ان هويته فيما عاشه و فقدانه اسوأ ، برغم سعادته او تعاسته سابقا
... يحاول ان يتلمس املا ؛ فيخاطب المختصة صوفيا : " هل هناك فرصة لاستعادة ذاكرتي ؟ "
تجيب المختصة المسؤولة عن قسم الابحاث للذاكرة في جامعة موسكو الحكومية : " بقدر ما احب ان يكون هناك أمل ؛ لكن للاسف لا " ...
يسكت ايفان و هو يحس بالكلمات التي نزلت كالصاعقة على صدره ؛ فقد شعر باحساس يفوق لوعة من يفقد عائلته ؛ يفوق احساس من يخسر كل شيء الا نفسه ؛ اما ايفان فقد خسر نفسه و عائلته و كل شيء يربطه بالعالم في لحظة الحادث الذي لا يتذكره...
تتقدم الطبيبة نحو ايفان لتقدم له حقنة تساعده على النوم ؛ ثم تأمر من معها بالانصراف حتى يرتاح مريضها قليلا ...
تمر بضعة دقائق ... يستيقظ ايفان مباشرة على ضرورة الذهاب للحمام ؛ مما دفع به الى الوقوف حتى يدخل حمام الغرفة ليتبول بغزارة ؛ و ما ان ينتهي مستدير عائدا حتى يلاحظ قصاصة صغيرة معلقة في الجهة الخلفية لباب الحمام ، يقوم بالتقاطها ؛ فاذا بها بعض الجمل المكتوبة ؛ يحاول إيفان قراءتها بصعوبة مع الصداع الذي يعاني منه إلا انه يتمكن من ذلك
...
" اذا اردت استعادة ذاكرتك ؛ عليك اتباع تعليماتي يا سيد إيفان ؛ قم بالبحث تحت بطانية سريرك "
يستغرب إيفان من الرسالة التي امامه ؛ و الاسئلة تتساقط من كل جانب .." من كتب الرسالة ؟ ؛ و كيف علم انني ساكون في هذا المكان ؟ ؛ بل كيف علم أنني سادخل الحمام!!!!.."
...
بقدر ما اراد إيفان العودة لسريره لعله يستيقظ من هذا الحلم الفظيع الذي يراه ؛ إلا أن كلمات الدكتورة صوفيا لازالت تطرق اذنه ؛ و تعصر قلبه.
.. " للاسف لا " .. قالت صوفيا ..
يتجه إيفان نحو سريره و يقوم بقلبه ؛ فيجد تحته خريطة لمدينة موسكو مع قصاصة ثانية كتب عليها
...
:" اسمك مسجل في زيارة للميتم رقم 48 ؛ كن هناك بعد نصف ساعة "
...
يفتح إيفان الخريطة التي كانت تحتوي على اربع علامات اكس في مناطق مختلفة من المدينة ؛ مع اربع علامات اكس اصغر منها ؛ حيث كانت كل علامة اكس صغيرة في نفس منطقة الاكس الكبيرة مع مسافة فاصلة ؛ ثم دائرة تمثل منطقة خامسة كانت نقطة الانطلاق ؛ جامعة موسكو الحكومية التي يتواجد فيها إيفان ...
راح إيفان يفكر في كلام صوفيا لوفانوفا و القصاصة التي وعدته باستعادة ذاكرته ؛ بين العدم و بين الامل ولو كان كاذبا... يفكر بصوت عال : " ان اسوأ شيء ممكن ان يحدث لي هو الموت وحتى هذا ليس بشعا كالشعور بالضياع.. "...
يخرج إيفان ببطء يريد التخفي حتى لا يتم ضبطه لكنه يفاجئ بأن الاروقة كلها فارغة ؛ لا احد فيها ؛ حيث يبدأ في فتح بعض الغرف في طريقه لكن كالمتوقع تماما فلا احد متوفر... يرفع رأسه ليبصر سهاما حمراء كبيرة مرسومة على الجدران تدله على المخرج من المركز ؛ فيزيده ذلك تشويشا و احباطا طارحا التساؤل :
" أين ذهب الجميع ؟ ... اين المختصة لوبانوفا ؟ ... هل يعقل ان صاحب القصاصة دبر كل هذا ؟ "
...
تخالج الاسئلة ذهن الشاب الروسي ؛ لكنه يستمر برغم الغموض الذي بدأ لا يفهم تفاصيله ؛ يستمر في متابعة الاسهم الحمراء وصولا للمخرج ؛ الذي كان عنده شيء من الملابس الجديدة يستبدل بها إيفان رداء التمريض ...
يقوم الشاب الروسي بارتدائها سريعا و يخرج للشارع المقابل للجامعة الحكومية ؛ ممسكا الخريطة بيده ؛ مركزا على الطريق في أمل ايجاد سيارة تبلغه الميتم 48 سريعا ؛ الامر الذي لم يدم طويلا ؛ حيث توقفت سيارة أجرة لوحدها لما رأى السائق حالة إيفان ؛ لما يظهر عليه من هالة الضياع و التفتيش عن شيء ما ... يصعد إيفان سريعا و يخبر السائق بوجهته الميتم 48 ؛ لكن السائق راح يبحث عن مزيد من التفاصيل ارواءا لفضوله حول الغرابة التي تكسو هذا الشاب الروسي ؛ فيسأل السائق :
" هل يمكنني ان اعرف سبب ذهابك الى هناك ؟ "
...
لم يفكر إيفان طويلا ؛ فبعد ما شاهده من السيناريو الغريب في المركز ؛ لم يستبعد احتمال ان هذا الشخص ايضا ضمن خطة صاحب القصاصة ؛ الا انه درس احتماله هذا بأن تكون ردة فعله ان يستجيب لسؤال السائق حتى يستل بعض المعلومات ؛ أو يكون هذا الشخص دعامة لقصته في حالة حدوث شيء له ؛ مما جعله يرجح قرار ان يشرح للسائق حالته و ما جرى له حتى نقطته هذه ...
...
بعد سماع قصة الشاب الروسي كاملة ؛ قرر السائق مساعدته في باقي يومه كاملا و ان هذا هو واجبه الانساني تجاه اخيه الانسان ؛ الامر الذي جعل إيفان يشتبه اكثر فيه ؛ و يزيد من قوة احتماله بأن توقفه له لم يكن ابن الصدفة ابدا ؛ الا انه اراد مسايرته عسى ان يكشف له عن بعض التفاصيل المهمة التي يحتاجها...
...
استغرق الامر خمس دقائق للوصول الى الميتم رقم 48 ، خلال الرحلة القصيرة كاملة كان إيفان مشدود البال مندهشا من تعاليم مدينة موسكو كطفل صغير يسجل معلوماته الاولى في الحياة من جديد ، بأنف ملتصق بزجاج السيارة و فم مفتوح من الانبهار خصوصا حديقة مكسيم غوركي ( 1928) للثقافة و الراحة ، على نهر موسكفا ، بجانب حديقة نيسكوتشني ، فقد كانت اجمل شيء يراه إيفان منذ بداية يومه هذا ، كانت ذكرياته الجميلة الاولى التي يصنعها بعد الحادث ....فجأة ينكسر تأمل الشاب الروسي بتوقف أندريه سائق السيارة ، و من غير كلمة ، يترجل إيفان و هو يتابع اللوحة المعلقة على باب الميتم المرسوم فيها عبارة " الميتم 48 " ، و ينظر في خريطته يتأكد من صحة الموقع ..
يترجل إيفان و يتقدم نحو باب الميتم 48 بخطوات توحي بشخصية تملك كاريزما مؤثرة ، إيفان صاحب اللحية الكثة ، لحية الشيوعيين أتباع ماركس ، و عيون الدهاء ، عيون مكيافللي ، و أنف فولتيير ، و قامة ألكسندر بوشكين ... حيث تلاحظه المشرفة على الميتم الآنسة الحسناء بولشاريا ، مخاطبة إياه : " يبدو أنك السيد إيفان ايها المحترم ، لقد كنا بانتظارك ، هيا لأريك فوجك المسؤول عنه " ... بدأ الشاب الروسي يفقد اعصابه ، كيف أن الجميع يعرفه وهو لم يعرف اسمه إلا صباح اليوم ، فيسأل المشرفة بولشاريا بنبرة صوت مرتفعة و بلكنة حادة ، لكنة سكان سانت بطرسبورغ : " من أعلمك أنني سأكون هنا ؟ " ....
" وصلتنا رسالة البارحة من مصدر مجهول قال انه لا يريد البحث عن الشهرة في إحسانه للميتم وأنه سيرسلك ، من غير معلومات إضافية " ثم أضافت المشرفة : " و قد طلب مني اعطاءك هذه الرسالة "...
...
" لا تطرح الاسئلة ونفذ الاوامر ، اذا كنت تريد استعادة ذاكرتك "
...
يقوم إيفان بتمزيقها بغضب بعد قراءتها ، و لأنه علم الآن لا جدوى في طرح مزيد من الاسئلة ، يأمر المشرفة بولشاريا بتوجيهه الى العمل الذي ينتظره ، فتشرح له أن اليوم مخصص للزيارة الاطفال و التسلية معهم و مؤانستهم ، بعد نشر اعلان لمن يريد من اهل الاحسان بالتبرع بوقته لهؤلاء الملائكة ، يتقدم بعدها إيفان للساحة المخصصة للتسلية فيجد طفلين صغيرين بانتظاره ، الاول نيكيتا من اصول افريقية داكن اللون ذي 6 سنين ، الثاني ميخائيل روسي الاصل لكنه كان مقعدا لا يستطيع المشي ذي 9 سنين...
...
بدأت عملية التعرف في الساحة الخضراء للميتم 48 ، حيث في بداية الامر كان إيفان يرى ان هذا مضيعة للوقت ، وأن صاحب القصاصة يتلاعب به ، لكن هذا الشعور لم يدم طويلا ، حينما بدا الشاب الروسي يستمع لرفيقيه الصغيرين ، وهو يتابع كلامهما و يتفاعل معه ، فقد كان نيكيتا محبا للقراءة في الكتب القليلة التي يملكها الميتم ، و راح يشرح و يلوح بيديه السوداوتين يمرر الافكار التي أعجبته ونالت منه الاستحسان ، حيث قال نيكيتا : " لدي اسئلة كثيرة عن دستويفسكي ، انتظر الوقت الذي سابلغ فيه الثانوية حتى استطيع الظفر ببعض الاجابات " ...ظل إيفان مبتسما طول الوقت من نيكيتا الاسود و كيف انه يملك روحا رائعة و محبة للبحث و الفكر ، بل وقد اضاف نيكيتا معلومات جديدة لذهن إيفان كونه فقد ذكرياته كلها ، وكل أفكاره الشيوعية التي صقلها عبر سنينه الثلاثين ، مما جعله يدخل في حوار ماتع مع المفكر الصغير ، يتعرف فيه إيفان عن العالم من خلال هذا الصغير ، الشأن الذي لم يكن أقل حالا مع ميخائيل المقعد ، الذي كان مهتما بشدة بالمسائل التاريخية و بالرياضة ، حيث راح يسير بدولاب كرسيه وهو يتحدث عن برج شوخاريف و كاتدرائية كازان ، و كاتدرائية المسيح المخلص التي هدمت في عهد ستالين ، يتحدث ببراعة تزينها براءة الطفل الصغير ، يبعث ذلك احاسيس الانبهار و الاعجاب و الحب في قلب الشيوعي إيفان ، بل و يبتسم اكثر حينما يصف ميخائيل حادثة تهديم الكاتدرائية :" إنه عمل مشين ، إنه عمل من لا ذوق له " ، فيزيد إيفان في ارواء فضوله مع هاذين الصغرين اللذين نالا اعجابه و توقيره ....يقول إيفان لميخائيل :" ماذا تحب ايضا ؟ " ...
يرد ميخائيل : " أنا مشجع ليفنتوس ، لذا كتبت إلى فابيو كانافارو ، و طلبت منه أن يستمر في اللعب أو التدريب ، ولا يعتزل "
بدأ الشاب ( الشيوعي سابقا ) يكتشف العالم الجميل الذي يملكه هاذين الطفلين ، فقد جعلاه يشعر بالحنين الى الطفولة ، بالسعادة التي تتغلب على الظروف و المعيقات ، بل و تجعل منها قطعة في لوحة أجمل ، فمن مثل نيكيتا يتحدث عن دستويفسكي ، ومن مثل ميخائيل يتحدث عن الذوق و الفن ، تلك كلمات حركت وتر الحب في قلب إيفان مع البراءة التي تكسو الصغيرين ، فقد كانت تلك اللحظات التي عاشها في الميتم هي السعادة الاولى التي شعر بها بعد فقدان مخزونه الذاكري ...
...
يرن جرس خفيف من دار الميتم معلنا عن نهاية اللقاء ، تاركا إيفان يتحسر على عدم سنوح وقت أكبر ليقضيه مع نيكيتا و ميخائيل ، لكنه وعدهما بالعودة ...
...
يخرج إيفان مسرعا حتى يستطيع ادراك المحطة التالية من المواقع المتوفرة في خريطة مدينة موسكو ، يدقق في علامة الاكس القريبة من الميتم 48 ، حيث ينتهي تتبعه و بحثه عند صندوق بريد من طراز قديم ، ازرق اللون ، عليه شعار الشيوعية بلون احمر ، يفتحه إيفان ، فاذا به ورقتين هذه المرة ، واحدة ظاهر عليها انها مبتورة من كراسة ، و الثانية شكلها مناسب لا تعطي نفس الانطباع ...
كتب في الورقة الاولى :
" أنا أكره الإنسان الأسود ، هم تشوه للبشرية حصل و يجب ان ينقرض ...أنا أكره المعوقين فهم لا فائدة منهم الا أن نستعملهم كفئران تجارب " . . . حيث شعر إيفان بالتقزز من هذه العبارة و سخر من قائلها : " صاحب القصاصة الغبي " وهو يتذكر لحظاته مع نيكيتا و ميخائيل .
...
كتب في الورقة الثانية :
" محطتك القادمة هي كاتدرائية القديس باسيل ، قباتها ذات الشكل البصلي ، التحق بالوفد العابر من تلك المنطقة ذوي الاقمصة البيض ، فقد وضعت لك قميصا "
ينظر إيفان مجددا داخل الصندوق ، فإذا بقميص ابيض حقا ...يرتديه سريعا و يتجه نحو السائق اندريه متجها لكاتدرائية القديس باسيل ، يوقفه اندريه حين وصوله للسيارة مستغربا من الرمز الموجود على قميصه ، فقد تفطن اندريه أن الرمز المتوفر على القميص كان تابعا لجماعة قديمة معروفة باسم زملاء بيتراشيفسكي التي بسببها تم اقصاء دستويفسكي إلى سيبيريا اربع سنين ، بعد ان تم التنازل عن قرار اعدامهم ، لكن إيفان لا يعطي للسائق أي فرصة للحديث معتبرا أنه مازال في حكم المشتبه به عنده ، الأمر الذي لم يغفل عنه أندريه ...
استعجال إيفان للوصول إلى كاتدرائية القديس باسيل لم يمنعه من الاستمتاع مجددا بمدينة موسكو الجميلة ، فأنفه لازال ملتصقا و فمه مفتوح بشكل أوسع عن سابقه ، يسجل ذكرياته الجديدة ، و يستعيد ماضيه القصير الذي بناه قبل ساعات فقط ، مع صوفيا لوبانوفا ، مع اندريه ، مع نيكيتا و ميخائيل ، مع بولشاريا ، و الاهم مع صاحب اللعبة . . .
...
يصل الشاب الروسي ( الشيوعي سابقا) في الوقت المناسب مع مرور الوفد ، فيترجل مهرولا نحو الجموع التي تسير ، و ينضم اليهم محاولا ان يفهم سبب هذه المسيرة ، و الجموع المتحركة بلون واحد متناسق يمثل الوحدة ، وفي خضام تقليب رأسه بحثا عن دليل يحل سؤاله ، يلتفت بذهنه الى اللافتات المحمولة فوق السواعد ، سواعد الرجال ، سواعد النساء ، لافتات تقول : " نحن ضد هدم المعالم التاريخية في مدينة موسكو وفي أي مدينة " ... لقد كانت المسيرة بالقرب من كاتدرائية القديس باسيل حتى تحاول منع السلطات من تدميرها ، كونها تمثل هوية للمدينة و لسكانها من قبل ، وللمسيحيين بشكل خاص ، فقد قامت السلطات بهدم معالم تاريخية ذات قيمة كبيرة كفندق موسكفا ( 1930) ، متجر فوينتروج (1913) ، برج شوخاريف ، مما جعل إيفان يشعر بالتعاطف معهم ، حيث كانت قضيتهم ان التاريخ يمثل الهوية ولا يمكن إزالته تحت أي ظرف و إلا زالت معه الهوية ، الشعور الذي تفهمه تماما إيفان لأنه فقد هويته لما فقد تاريخه وماضيه السابق ، مما جعله مؤيدا و مناصرا لقضيتهم ، فصار يقول معهم بصوت واحد ، يردد عبارة نيتشه من كتابه ما وراء الخير و الشر : " المرء يقف برهبة ووجل أمام هذه البقايا العظيمة لما كان عليه الانسان في زمن غابر " ...
يمر إيفان على صندوق بريد مشابه للذي كان امام الميتم 48 ، فيستيقظ من صياحه ، و يفتح خريطته مباشرة ، مدركا أنه عند موقع الاكس الصغيرة تماما ، فالصندوق يحمل نفس المواصفات ، لون ازرق و شعار الشيوعية بلون احمر ، يفتحه ليجد ورقتين كالمرة السابقة ، واحدة يظهر أنها مقطوعة من كراسة ما ، و الثانية شكلها مناسب ...
...
كتب في الورقة الاولى :
" نحن غارقون في الارثوذكسية لركبنا ، لماذا لا يتم تهديم كل هذه البنايات السخيفة ، إن الماضي الذي نردده لم يبين لنا إلا مقدار الجهل الذي كانت تعيشه البشرية ، فعن أي هوية يقولون أنها تساوي الماضي ، بل هويتي تتعلق فقط بحاضري "
لم يجد إيفان إلا شعور التقزز و الغثيان مجددا ليتفاعل به مع كلمات هذه الرسالة ، ثم يعلق ساخرا :
" يجب على هذا الاحمق أن يفقد ذاكرته مثلي ليعرف قيمة الماضي وأنه يمثل الهوية بمقدار كبير "
...
كتب في الورقة الثانية :
" انطلق الى شارع اربات ، توجه لمقام ألكسندر بوشكين عند الساعة الرابعة تماما ، ستجد سيدة هناك ، قم بمراقبتها من غير ان تعلم بوجودك و انتظرها حتى ترحل " ...
...
يطلق إيفان صرخة مدوية في الهواء نتيجة الغضب العارم الذي اجتاح صدره ، من تلاعب هذا الشخص به ، وبدأ يحلل في المواقف السابقه ، كيف أن الجلوس مع اليتامى و المسير مع المتظاهرين ومراقبة سيدة ، سيساهم في استعادة ذاكرته ، بدأ الشاب الروسي يفقد الامل و يفكر بالرحيل نهائيا ، لكن سرعان ما يسترجع كلمات المختصة صوفيا لوبانوفا :
" للاسف لا " ... فيشعر بضيق في صدره و ان كل شيء بدأ ينهار ، كأن نهايته بدت وشيكة ، في تلك اللحظة تلمس كتفه يد دافئة ، فيلتفت لاقيا السائق اندريه بجانبه ، يقول له :
" اشعر بك يا صديقي ، لا تيأس ...فربما لازال الامر في صالحنا ، سنحارب لآخر دقيقة "
نزلت كلمات اندريه على قلب إيفان كالمرهم ، حيث قال إيفان لنفسه :" لقد بدا هذا السائق صادقا هذه المرة ، أم أنني أمر بحالة ضعف فقط ؟ "
...
حديث اندريه كان كافيا لاعطاء إيفان دفعة أمل ، بها انطلق نحو مقام الشاعر و الكاتب ألكسندر بوشكين في شارع اربات ، ليصل قبل خمسة دقائق من الساعة الرابعة ، متخذا موقعا ذي احداثيات يصعب كشفه فيها ، حتى شعر كأنه كان قناصا في الجيش ، من خلال دقة تموقعه . . .
شارع اربات كان من اقدم شوارع موسكو ، و ساحة للادباء و الشعراء و الساسة ، الذي اقام فيه ألكسندر بوشكين مع زوجته ناتاليا غونتشاروفا ثلاثة اشهر ، المكان الذي كانت تزوره السيدة كاترينا ايفانوفيتش كل مساء أحد ، بعد زيارتها للكنيسة ، تأتي لتتحدث مع روح بوشكين وتشكي له حالها ، فقد كانت كاترينا هي الأخرى مثل بوشكين من سانت بطرسبورغ ...
...
سانت بطرسبورغ لا يتجاوز فيها عدد الايام المشمسة 62 يوما ، وكذلك كانت كاترينا إيفانوفتش غامضة و لها غيوم تمنع غيرها من فهم شخصيتها ، سانت بطرسبورغ لا يتجاوز فيها النهار 6 ساعات في الشتاء ، وكذلك كانت كاترينا تعشق الليل و تنتظر قدومه حتى تختلي بنفسها ، و تدخل مملكة العزلة التي لها ، سانت بطرسبورغ التي يظهر فيها موسم الأيام البيض بوضوح من 25 مايو ل17 يوليو ، الأيام التي يلتقي فيها الشروق و الغروب ، كذلك كانت كاترينا إيفانوفتش مزيجا ملتقيا من الحب و الكره ، من السطحية و العمق ، من الذكاء و الغباء ، الا صفة الجمال فلم يكن لها غروبها ابدا ...كانت تأتي كاترينا لروح بوشكين حتى تبكي وتقرأ قصائده عنده ، فقد كان عشيقها مؤمنا بفلسفة سارتر الوجودي أنه ضمن العلاقة الواحدة و الحب الواحد يستطيع الطرفان ممارسة الحب مع من يريدون ، لكن كاترينا لحبها الصادق ، موقفها تماثل مع عشيقة سارتر سيمون الوفية الصادقة فقد أحبت سارتر هي الاخرى ، كذلك كانت كاترينا مع معشوقها مؤمنة به وحده فقط من غير شريك ، في حين هو كان سارتريا في الحب ، مما جعل كاترينا تقطن عند بوشكين ، عند وفاء بوشكين لناتاليا ، و تتغنم بقصائده في الحب الوفي ، مؤنسة نفسها به ، فقد كان ألكسندر بوشكين شاعرا إنسانيا عظيما ، أبدا لم يكن سارتريا ...
...
بقي إيفان في حيرة من أمره ، فالورقة لم تصف حال السيدة التي ستأتي . . . لكن بمجرد أن دخلت كاترينا مقام بوشكين ، حتى شعر إيفان بأنها هي المقصودة ، لم يعرف كيف ، لكنه كان متأكدا ، فراح يراقبها عن كثب ... لحظات فيلمحها تبكي ، و تتكلم وحيدة ، لم يتمالك نفسه فتقدم بحذر حتى لا تراه . . . اقترب بما فيه الكفاية ليسمع صوتها ، و يرى لمعان دموعها على خدودها ، فشعر بحرقة كبيرة في صدره ، كأن هذه الإنسانة ذات روح جميلة جدا ، اخترقت دموعها قلب المسكين ، مخلة بدفاعاته كلها ، مشعرة إياه ، حرام أن تنزل مثل هذه الجواهر لتدنسها الارض بترابها ، يحاول ان يستنتج ما بها ، فيسمع كاترينا تتلو قصيدة أحببتك لبوشكين في المقطع الذي يقول :
...
" احببتك ، و مازلت أحبك ....فاللهب لم ينطفئ في قلبي ....لكن لا تدع حبي لك يزعجك بعد الآن ...فلا اريد ان اسبب لك مزيدا من الحب ....لقد احببتك بصمت ، بلا امل .....بكل خجل ، ومع ذلك مزقتني الغيرة ....احببتك بكل صدق ، بكل حنان ....و ادعو الله أن يهيئ لك شخصا آخر ليحبك هكذا "
...
انهمرت دموع إيفان بعد سماع الكلمات تلك مباشرة ، فاقدا القدرة على التنفس ، بشفة ترتجف بشدة ، وقلب يتباطئ نبضه ، كأن الزمن بدأ يتناقص في سرعته ، في جو من الصمت ، خسر فيه القدرة على التعبير ...
بعدها وقفت السيدة كاترينا ، و بدأت مغادرة مقام بوشكين ، تمسح دموعها ، تعاني صعوبة في ابتلاع ريقها ، من الغصة التي اغلقت حلقها ، أما إيفان فقد بقي متسمرا في مكانه ، لو لم ينادي عليه اندريه ،منقذا اياه من الاحاسيس التي انتابته ، لكن إيفان لازال مخدرا من المشهد الذي شاهده ، فيمسك اندريه الخريطة يبحث عن علامة الاكس الصغيرة ، ثم يرفع بصره يقلبه في محيط ، حتى يلمح صندوق البريد المهترئ ، المرموز عليه برمز الشيوعية ، فيمسك يد إيفان و يسوقه لموقع الصندوق ، فيحاول الشاب الروسي أن يتمالك نفسه ، و يتناسى المشهد بالتفكير فيما تركه له صاحب اللغز من جديد هذه المرة ...
...
كالعادة كانت هناك ورقتان ، واحدة يظهر انها ممزقة من كراسة ، و الثانية شكلها مناسب ...
كتب على الورقة الاولى :
" لا افهم لماذا يجب على المرء ان يلتزم بعلاقة واحدة ، فحتى الكتب المقدسة جعلت الارتباط عشوائيا كما جعلت القتل كذلك "
هنا شعر إيفان بالتقزز للمرة الثالثة ، و جعل يراوده شعور الكره اتجاه صاحب هذه الكلمات ، كره شديد ، وهو يسترجع في تلك الاحاسيس التي سببتها له كاترينا بقصيدة بوشكين و بمشهد بكائها المؤثر
...
كتب على الورقة الثانية :
" هذه هي المرحلة الاخيرة قبل ان تستعيد ذاكرتك ، الموقع الاخير في خريطتك منعزل قليلا عن المدينة ، ستجد شيخا هرما هناك ، سينتحر امامك "...
...
يصاب إيفان بصدمة ، معتقدا أن الامر كله في الاخير من أجل إلصاق تهمة قتل به ، مسببا له كابوسا اسوأ من فقدانه لذاكرته ، و في خضم تلك المشاعر يقرر الانسحاب نهائيا و البحث عن حل بديل ، لكن اندريه يقترح رأيا مخالفا :
" يمكننا فعل الامرين يا سيد إيفان ، انت زر العجوز ، وأنا سأحمي ظهرك ، في حال ظهور امر ما "
يرد إيفان بعنف : " ربما أنت وراء كل هذه المهزلة ...ابتعد عني "
...
يتبادل الرجلان النظر لبرهة ، تحت صمت مسيطر على الوضع ، ثم يلتفت اندريه مباشرة متجها نحو سيارته من غير النطق ببنت شفه ، يقطع بضع خطوات فينادي عليه الشاب الروسي ( الشيوعي سابقا ) قائلا :
" اعتذر يا صديقي ، لقد فقدت السيطرة على مشاعري ، هيا لنقتل ذاك العجوز الهرم "
يبتسم اندريه متحسما ، و ينبعث الروسيان في سباق مع الوقت ، متتبعين علامة الاكس الكبيرة الدالة على المنزل المنعزل ، الذي جعلهم يستغرقون اكثر من 20 دقيقة ، كون الموقع خارج حدود المدينة ، رغم السرعة و المهارة التي كان يتمتع بها اندريه في القيادة ...
يترجل إيفان بعزم و اصرار الدخول الى المنزل كأنه لا يبالي بما سيحدث ، في حين يبقى اندريه بالقرب من السيارة تحسبا لأي طارئ يحمل خطرا أو تهمة ...
يجد الباب مفتوحا ، يدخل بخطوات صامتة ، لكنه يفاجئ بصوت قادم من العمق في المنزل : " لقد كنت في انتظارك سيد إيفان "
يدقق إيفان فإذا رجل مسن يتكئ على عكازة ، بارز أنها إصابة بالغة ناجمة من حرب ، مع وجه حاد ، يظهر الحنكة في المواقف و الخبرة في السنين ، اما الصوت فقد كان هو الافضل و الاكثر تماسكا لا يوحي البتة بأي مظهر في العجز لصاحبه . . .يتكلم الشاب : " كيف عرفت اسمي أيها المسن "
...
" هذا ليس مهما ، أنت هنا الآن لتشهد شيئا و تسمع اشياء ، فأنصت جيدا ايها الشاب " تلفظ العجوز ثم اضاف قائلا :
" اسمي هو بيتروف و قد عشت حياتي كلها ملحدا ، لكنني الآن امشي على طريقة بعض الملاحدة قبلي لما شعرت به ، فالبارحة أنهيت مقالة في إنكار وجود الإله ، ثم لم اطفئ الضوء لما اردت النوم خوفا مما سيفعله بي الرب حينها ، لقد ادركت في لحظتي تلك كيف شعر أنتوني فلو ، وكيف شعر سارتر حينما استدعى القس في آخر لحظات من حياته ، ولأني ملحد عنيد قررت أن استمع للقس و انتحر ، قبل ان تموت خلاياي قابعة في عذاب الرب الابدي "
...
لم يحاول إيفان فعل أي شيء سوى المراقبة ، و انتظار ماذا سيحدث ، لكنه تفطن لسؤال أخير فتلاه سريعا على مسامع المسن بيتروف :
" من الذي يزعم انه سيرد لي ذاكرتي "
ابتسم العجوز و كشف عن ازرار قميصه ، مخبئا هناك نوعا من الافاعي المعروفة بالافعى الشائعة ،فقدرة بيتروف على الحفاظ على هدوئه في الحرب و المواقف المحرجة مكنته من عدم ازعاج الافعى وهي معلقة في صدره تزحف ، ثم راح يستثيرها حتى لدغته ، فسقط من فوره من غير ان يتفوه بكلمة جواب عن سؤال الشاب ...
...
يخرج إيفان مسرعا لكي يتخلص من الوضع ، يلحق بالسيارة ، وهو يتابع الخريطة يريد تحديد موقع علامة الاكس الصغيرة ، حيث ينطلق الروسيان معا صوب صندوق البريد ، الحامل لرمز الشيوعية ، و ليس بطويل حتى يبرز موقعه ، فيتوقفان سريعا للنظر ، حتى يتمكنا من الفرار من الموقع في اسرع وقت . . .
كالعادة هناك ورقتان ، واحدة ظاهر أنها ممزقة من كراسة ، و الاخرى شكلها مناسب و معتدل ...
كتب في الورقة الاولى :
" ان الذين يقتنعون بقضاياهم قناعة مطلقة ، سوف لن يضرهم حضور الموت عندهم ، فليس الاحساس بالحياة عندهم مانح إياهم الشعور بالأمان بل القضية ذاتها "
...
بالنسبة لإيفان كان الكلام هذا هراءا ، فما فعله المسن بيتروف قبل قليل أبرز أن إحساس الإنسان بطول الأمد كفيل بأن يعطيه قناعات كاذبة ، ثم في المواقف الحرجة ، خاصة الموت ، يفقد الانسان احساسه بطول الامد فتتغير قناعاته بمناسبة الخطر الذي يعتلج بين ضلوعه ..
كتب على الورقة الثانية :
" توجه الى المركز العلمي لجامعة موسكو الحكومية ، ستجد السيدة صوفيا تنتظرك ، هناك ستسترجع ذاكرتك... "
...
لم يعلم إيفان كيف ينفعل مع هذه الرسالة الاخيرة ، فقد كان كل شيء طلاسم بالنسبة له ، منذ فقدانه لذاكرته و الافعال الغريبة التي اضطر أن يقوم بها ، بلوغا للسيدة صوفيا التي ألغت كل أمل في استعادته لذاكرته ، فراح يحدث نفسه ، هل يمكن أن تكون صوفيا لوبانوفا وراء كل هذا ؟
فكر إيفان أنه قد وصل لمرحلة ، أين لا يمكنه التراجع ، فلابد من انهاء المسألة بضربة واحدة ، فإما الجنة وإما الجحيم ، حيث ينطلق مع أندريه الى جامعة موسكو الحكومية لانهاء هذه الامسية ، من غير تلاعب اضافي ، او ممارسات غريبة ثانية ، لكنه كسوابق المرات لم يمنع نفسه من الاستمتاع بمدينة موسكو الجميلة ، خصوصا في المساء مع توديع الشمس ، و استبدالها بقطعة النور تلك ، القمر في صورته الكاملة ، بتركيز مستمر لا تشوبه شائبة ، حتى توقفت السيارة في موقعها الاول في بداية اليوم سابقا ، عند الجامعة تماما ، فيترجل الروسيان معا كرفيقين عاشا من المواقف ما يعادل عمرا عند آخرين ، يدخلان المركز ، فإذا هو فارغ في أروقته وغرفه كما تركه إيفان في بادئ الامر . . .حتى يسمع الرفيقان وقع حذاء كعب عال ، كانت صوفيا لوبانوفا بلباس السهر و المرح ، لا بلباس المختصة و المشرفة على قسم ابحاث الذاكرة ...
استغرب الرجلان ، لكنها تقدمت بخطواتها الواثقة نحوهما قائلة : " الليلة سنحتفل يا عزيزي إيفان " ، في تلك اللحظة تذكر إيفان كلمات الورقة الثانية : " هناك ستستعيد ذاكرتك " ، فيعلق الشاب الروسي بسخرية : " لم أكن أعلم أنني ساستعيد ذاكرتي بهذه الطريقة ؟ "
تأمر صوفيا الشاب بالدخول لغرفة العلاج التي كان فيها سابقا ، لكنه يقاطعها قائلا : "أريد تفسيرا يا جميلة ، لا أريد أن أتمدد على سريرك ، فضلا عن أن أتخيل باق القصة " . . .تقابل صوفيا كلام الشاب بابتسامة ، و اندريه يشاهد ، يبتلع ريقه مع كل جملة تصدر من احدهما ، حينها تتلفظ الحسناء صوفيا : " سنعيد لك ذاكرتك يا عزيزي ، لا تقلق ، فتمدد حتى أتمكن من تشغيل الجهاز ذو تقنية البصريات-الوراثية "
يجلس إيفان مقابلا للجهاز ، فقد استنفذ جميع الحلول ، و لم يملك خيارا الا مسايرة هذه السيدة ، راضيا بما آل إليه الأمر ، فلا قابلية للتغيير الآن ، سوى الأمل ، ولو كان الأمل الكاذب فقط ...
شغلت صوفيا الجهاز الذي يطلق موجات ( ضوء ازرق ) و موجات اقصر في الطول (اشعة تحت حمراء ) تقوم باختراق خلايا الدماغ المخصصة للذاكرة متجاوزا العظام ، التي تعطيها نوعا من النشاط ، يجعلها تفتح ملفات الماضي المحفوظة داخلها ، الامر الذي جعل إيفان يشعر بصداع قاتل جدا من جديد ، يجعله يغمض عينيه بقوة ، و في النهاية يغمى عليه فوق السرير ...
...
ينذهل اندريه و يصرخ في وجه صوفيا : " ماذا فعلت به ايتها الساحرة؟؟ "
ترد هي ببرود : " سيستيقظ بعد نصف ساعة ، امهله قليلا من الوقت ايها...من أنت مجددا ( بسخرية ) ؟؟"...
...
تمر الدقائق و الثواني ، وكل من صوفيا و اندريه يراقبان الساعة المعلقة على الحائط ، لكن إيفان كان أفضل من التوقعات ، فقد استيقظ بعد 20 دقيقة فقط ...
يستيقظ ايفان ، ثم ينظر لصوفيا و اندريه ، ثم يبتسم ابتسامة كبيرة ، تدل على أنه استرجع ذاكرته ، بل و اكتشف صاحب اللعبة ....صاحب اللعبة كان هو إيفان نفسه ...
قبل أن يفقد إيفان ذاكرته :
إيفان الشيوعي الماهر ، الرياضياتي و الفيلسوف الذكي ، كان يدرك مع صديقته صوفيا الباحثة في الذاكرة البشرية ، و جده بيتروف الفيلسوف الاشتراكي و المحارب المحنك ، أن الانسان يملك وعيا ولاوعيا ، شعورا ولاشعورا ، وان القسم الأكبر الذي يتحكم في حياة الانسان هو اللاوعي و اللاشعور ، حيث ينشأ هذان ( اللاوعي و اللاشعور ) من التجارب الاولى التي تحدث للانسان
...
يخاطب إيفان بلغته الفلسفية صديقته صوفيا :
" الطبيعة هي مصدر المعرفة الوحيد ، و بالحس فقط تنشأ لدينا المعلومات الاولى ، ثم تصير هذه المعلومات بعد أن كانت وعيا ، تصير مدفونة في ادمغتنا فتكون اللاوعي الذي نفكر به ، بعد ان كانت وعيا " ، ثم يستطرد قائلا : " هذا افضل تلخيص لمذهب هيوم عزيزتي صوفيا "
...
استغرب كل من الباحثة و الفيلسوف المحارب المغزى الذي ينشده هذا الشيوعي المحترق ، فيكمل شارحا فكرته :
" ما أريد قوله أيها السادة ، أنني بمساعدتك يا صوفيا ، سوف تقومين بمسح ذاكرتي ، ثم نضع بعض المسائل المهمة قيد التجربة ، ونرى هل النتيجة تطابق قبل فقدان الذاكرة و بعد استرجاعها ام لا ؟ "
يستفسر بيتروف :
" و ماهي القضايا التي تخطط اختبارها يا بني ، وبأي اسلوب ؟ "
حينها بدأ إيفان يشرح في القضايا التي سيعالجها من افكاره نحو الاجناس البشرية ،ونظريته في الحب ، و افكاره حول عتاقة او سخافة الماضي ، وصولا لفكرة الموت و تأثيرها ، حيث قام باقتطاع المواضع التي تتحدث عن هذه الامور من مذكراته الشخصية ، وقام بالتحضير للعملية كلها ، ضمن مسلسل متسق غير مختل ، حتى يضمن لنفسه افضل تجربة ، ليستنتج في النهاية التطابق من عدمه في مسألة اللاوعي و الوعي ، و على مستوى أعمق ، هل اختياراتنا التي شكلت اللاوعي الخاص بنا ، اختيارات صحيحة ؟ ؟
إيفان بعد استرجاع ذاكرته :
بعد ان استيقظ إيفان من تأثير الجهاز على ذاكرته ، مستعيدا كل ما مضى ، مرفوقا بذكريات التجربة التي حدثت اليوم ، طلب من صوفيا ان تحضر له ورقة وكراسة فارغة ليفرغ فيها مضمون ومغزى تجربته اليوم ، إلا أن صوفيا احضرت له احد السجلات الطبية الفارغة ، وقد كان ضخما قليلا ، لكن مناسب .... فيمسكه إيفان بمهارته الكتابية ولغته الفلسفية البارعة ، كانه يكتب بريشة من ذهب في أبهى انواع الجلود المصبوغة . . .
...
ادرك إيفان كم استمتع اليوم مع نيكيتا و ميخائيل ، وكيف أن الجمال الذي كان يحملانه تجاوز لون البشرة وتجاوز الاعاقات أيا كانت ، و ادرك إيفان أن الماضي يمثل الهوية بشكل رئيسي للاحساس الذي راوده حينما خسر كل ذكرياته و شعر أنه بلا هوية ، و ادرك كم كانت تحبه كاترينا وهو سارتري لا يقدر الوفاء ولا الحب ، و ادرك الشاب الروسي الانساني حاليا ، الشيوعي سابقا ، أن القناعات تتحطم أمام جدار الموت ، وطول الأمد يغري بالانسان ، و راح يؤلف في كتابه المعنون بــ ولادة إنسان في مسودته الاولى المنحوتة في السجل الطبي الضخم ، بمساعدة صديقته صوفيا و جده بيتروف ، الذي لازال حيا ،فالافعى الشائعة التي لدغته كانت منزوعة السم اصالة ، و كونه محاربا فقد استطاع التكيف مع الوضع و التمثيل ببراعة كبيرة ، جعلت إيفان يصدق كل ما يحدث أمام عينيه ، واخيرا لقد علمه صديقه اندريه معنى انسانيا راقيا ، كيف أنه ساعده في حالة ضعفه وشعوره بالضياع ، مبرهنا له القيمة في اسمى معانيها ، فقد كان كالاسكافي الذي ساعد الملاك المعاقب من طرف الرب في قصة تولستوي ...
في الصباح التالي حمل إيفان مذكراته مباشرة ، وقام باستدعاء كاترينا عند مقام بوشكين ، حيث حرق امامها مذكرات شيوعي ، ووضع مذكرة جديدة هي مذكرات انسان ، ثم ركع على ركبته وهو ينظر في عينيها قائلا :
" هل تقبلين الزواج بي ؟ . .هل تقبلين ان اكون بوشكين كاترينا ؟ "
اظن أنكم تعلمون اجابة كاترينا ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث