الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تحملوا الأزهر فوق طاقته

سمير الحمادي

2017 / 4 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الذين يحمِّلون الأزهر مسئولية العنف الجهادي المتوحش الذي يضرب مصر هذه الأيام يبسطون الأمور إلى درجة تثير التعجب. قراءتهم للمشهد ليست فقط غير دقيقة، ولكنها سطحية، تتعامل مع الأحداث بشكل اختزالي: خارج سياقها، كأنها وحدات معزولة، وليست نسقاً يتطلب تحليله استحضار أجزاء الصورة كاملة.
إن توجيه أصابع الاتهام إلى الأزهر، والمبالغة في إدانته، يحمله فوق طاقته وقدراته وإمكانياته، ويسبغ عليه حضوراً وأهمية لا يملكهما، أو لم يعد يملكهما، إلا إذا كنا نتحدث عن أزهر آخر غير الذي نعرف.
فالأزهر لا حول له ولا قوة، تم تأميمه، وإخضاعه بالكامل، وتحويله إلى مؤسسة تابعة للدولة، منذ زمن بعيد: من يوليو 52، ومن وقتها، وهو محاصر بتناقضاته، إما خارج المشهد، أو على الهامش، فقد قوته ونفوذه، ومعهما هيبته، ولم يعد له أي تأثير فعلي، لا على الجمهور الديني، ولا على الجماعات الأصولية التي تجاوزته بالفعل، ولا تكترث لا له ولا لمشايخه، ومن السذاجة أن نتصور أن الإخوان أو السلفيين أو القاعدة أو داعش يضعون شيخ الأزهر أو أحداً من علمائه في حساباتهم.
الأزهر في الوقت الحالي مجرد كيان ضعيف وهش، ليس له ذلك الدور الحيوي والمهم الذي يتصوره البعض في مسارات الحالة الدينية: لا تطرفاً لنتهمه بأنه مسئول عن أحداث العنف الجارية، ولا اعتدالاً لنعول عليه لمواجهة المتطرفين وإلقامهم حجراً.
إن الأزهر نموذج مثالي لما يسميه لوي ألتوسير"أجهزة الدولة الأيديولوجية" التي تتحدد وظيفتها في النظم الدكتاتورية والسلطوية في ضبط العقل / الوعي الجمعي، والتحكم في توجهاته بشكل دقيق وصارم، وإخضاعه بالكامل لسلطة الدولة: التي تُختَزَل بشكل آلي في شخص الحاكم.
وبوضوح أكبر: يمكن النظر إلى الأزهر على أنه مؤسسة أمنية، وإلى شيخه على أنه وزير داخلية ثان، يؤدي نفس المهام الموكولة إلى وزراء الداخلية العرب كافة: وهي "هندسة الطاعة" والحفاظ على استقرار النظام وضمان النصاب اللازم من الأمن السياسي والاجتماعي لاستمرار الحكم السلطوي بأقل تكلفة: دون مخاطر ودون تمردات. الفرق فقط في أن وزير الداخلية يتعامل مع "الرعية" من خلال القوة الصلبة (القمعية)، وهي الإدارات الأمنية وأقسام الشرطة والسجون، بينما شيخ الأزهر يحتكر أدوات القوة الناعمة، وهي الدين ونصوصه: من قرآن وسنة وأكوام من الشعارات والتأويلات / المغالطات التي يكتظ بها فقه الطاعة في التراث الإسلامي (مع العلم أن ثورات / انتفاضات 2011 المغدورة أثبتت أن المؤسسات الدينية الرسمية أصبحت خارج الخدمة، وأن الأجيال الجديدة لا يؤثر فيها هذا النوع من "الدجل الديني / السياسي" الذي كلفنا تاريخياً ما لا يعد ولا يحصى من الخسائر والأزمات).
أما في ما يتعلق بالمناهج التعليمية الأزهرية التي تتضمن مواد تحرض على التطرف والكراهية والعنف، فالحقيقة التي يعلمها الجميع أن الأزهر لا يبتدع ولا يبتكر ولا يؤلف ولا يأتي بشيء من عنده، فالمواد التي يدرِّسُها ليست حصرية، خاصة به وحده، لا وجود لها إلا في مقرراته، بل هي جزء من الفقه المنتشر في السوق، في كتب الجهاد والسير والمغازي التراثية، المعروضة عل نطاق واسع في المكتبات العامة، وعلى الواجهات أيضاً، تباع بأسعار زهيدة لا تغطي حتى تكاليف طباعتها، بل إن هناك مكتبات معروفة بالاسم متخصصة في هذا النوع من "البضاعة"، تحقق سنوياً أرقام مبيعات يتجاوز بأضعاف ما يحققه غيرها.
فالأمر لا يتطلب ولا يشترط أن يكون الواحد طالباً أزهرياً ليفقد وعيه، ويخرج عن طوره، ويصير انتحارياً جاهزاً لتفجير نفسه ومن حوله (مع التنبيه إلى أن التحول إلى التطرف العنيف عملية تراكمية معقدة، تتداخل فيها محددات موضوعية وشخصية متعددة، فالموضوع ليس سهلاً وبسيطاً إلى هذا الحد)، ذلك أن المناهج الأزهرية ما هي إلا ملخصات سكولاستية لكتب تراثية متداولة بالفعل في المكتبات من عشرات السنين، تحت أعين الأجهزة الأمنية وإداراتها المكلفة بمتابعة النشاط الديني ومكافحة الإرهاب، والعلم الذي يلقنه أساتذة الأزهر لطلابهم على مدار السنة ليس فيه حرف واحد: جرة قلم، خارج نطاق الفقه السلفي (المعصوم) الذي تتضمنه هذه الكتب: بلغته وأفكاره وتخريجاته وتنظيراته الطاعنة في البداوة والخشونة والتشدد.
إن ما يباع في المكتبات المصرية أسوأ بكثير مما يدرسه الأزهر في معاهده، ويكفي أن تعلموا أن كتاب "العمدة في إعداد العدة" لسيد إمام الشريف (عبد القادر عبد العزيز أو الدكتور فضل): الأمير السابق لجماعة الجهاد، وأحد مؤسسي تنظيم القاعدة، وأكثر المنظرين الجهاديين أهمية وخطورة على مستوى العالم (اسمه مثل الطبل في دوائر الاستخبارات ومراكز الأبحاث المتخصصة في دراسات التطرف والإرهاب). هذا الكتاب الذي ألفه في بيشاور أيام الجهاد الأفغاني، بناءً على طلب شخصي من أسامة بن لادن ليكون مقرراً دراسياً في معسكرات القاعدة في أفغانستان، ظل حتى بعد ثورة 25 يناير (وربما إلى الآن) يباع في بعض مكتبات القاهرة بشكل طبيعي، دون أن يلتفت إليه أحد، ويمكن لأيٍّ كان أن يشتريه ويعود به إلى بيته دون مشاكل، كأنه اشترى رغيف خبز أو علبة سجائر، مع أننا أمام مرجع أساسي شكل وعي جيلين على الأقل من الجهاديين، وما تزال داعش حتى اليوم تعيد طباعته وتوزعه على معسكراتها التدريبية لتدريسه والاستفادة منه في تكوين وتثقيف مقاتليها، وتعتبره السلطات الأمنية والقضائية في مختلف دول العالم دليل إدانة قوي يساوي سنوات من السجن لمجرد العثور على نسخة منه في بيت أو في حاسوب أحدهم.
هذا مجرد مثال، ولا داعي للحديث عن أدبيات الدعوة الوهابية المنتشرة في كل مكان، مثل مجلدات "الدرر السنية في الأجوبة النجدية"، التي تعرض في المكتبات في طبعات فاخرة (للأمانة: ليس في مصر وحدها، ولكن في معظم الدول العربية، وهي تباع بأسعار متدنية جداً بالمقارنة مع حجمها وجودة ورقها)، وتتضمن تعاليم محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده في مسائل التكفير، والحاكمية، والديار، والولاء والبراء، والجهاد وغيرها من مصطلحات المعجم الإسلامي التي يؤسس عليها الجهاديون لاهوتهم القتالي المتطرف.
فالتركيز، إذاً، على الأزهر، الذي ما هو إلا واجهة متداعية لأزمة تاريخية معقدة وخطيرة، متعددة الأبعاد والخلفيات، يعاني منها المسلمون جميعاً، تحايل تعسفي على المنطق، ومحاولة للهروب من المواجهة الحقيقية، التي تعني أن نبحث عن مصدر الخطر، لا على هوامشه، أن نسعى خلف الصنم، لا من يروجون لعبادته، والمؤلم أن من يدفع ثمن هذا الاستخفاف دائماً، وبأبشع طريقة، هم الأبرياء الذين يبذلون دمهم دون ذنب ولا حساب.
إن البحث عن حل جذري وحاسم لهذه المعضلة التي نفَقِّس الموت والخراب في أوطاننا، وعلى كل أرض، لم يعد ضرورة، صار شرط وجود، والحل لن يتحقق باللف والدوران وإنكار أصل الموضوع وتكثيف عروض الحزن المسرحية التي يتقنها البعض: هنا وعلى شاشات الفضائيات. من يريد أن يطهر بيئته عليه أن يتعامل مع الشر رأساً، لا مع أحد الأشرار. فالأزهر مجرد ناقل للعدوى، وقد خسر وزنه، وأصابه الهزال، ولم تعد له قيمة، لكن الشر ما يزال موجوداً، في كامل قوته وعافيته، ينزلق عبر الأزمنة، يتشظى في كل مكان، يتحدى سنن الحياة، وعوامل التعرية، ويراوغ كل محاولات الإمساك به وتكبيله واقتياده إلى المشرحة.
هذا الشر اسمه: التراث: تراث الأولين، تراث السلف، فقه السلف: أوهام تاريخية عمَّدونا بها في أولى سنواتنا في المدرسة، وحملناها كرهاً بعد ذلك: يوماً بيوم، لا نفهمها، نتلعثم بها، نعاني القلق والحيرة بسببها، إلى أن تخلصنا منها في النهاية (بمجهود شخصي شاق)، وصرنا نتنفس بعيداً عنها، لكننا في كل مرة نكتشف أنها ما تزال تطاردنا، تقطع علينا الطريق، تتوالى علينا طعناتها، فإما موتى وإما ننتظر.
هذا التراث هو القماشة أو المادة الخام التي يتشكل منها العنف الجهادي المعاصر، بكل خطاباته وتجلياته وتعبيراته، هي التي تجعله في حالة غليان: دائم الاشتعال، إن لم يجد من يقاتل، يتفرغ لقتال نفسه، وما لم نسارع إلى وضع يدنا عليه، وإخضاعه لتفكيك تدميري: من أوله إلى آخره: عن بكرة شيوخه، فإننا سنظل في نفس النفق الطويل، محاصرين بالعتمة والخوف، لا نتزحزح عنه قيد خطوة.
أنا مع إنهاء مهام الأزهر، وتسريح العاملين فيه ليسعوا على رزقهم بطريقة أخرى غير ارتداء العمائم واعتلاء المنابر لإطلاق الكلام على عواهنه، لكن ليس بسبب خطورته على الأمن الديني / الروحي، ولكن لأنه بالفعل مؤسسة لا وظيفة لها خارج ما ذكرت، فالمصريون لا يستفيدون منه في شيء، ولا يحصلون من أسراب موظفيه على أي مردود، ما يجعل الميزانية الضخمة التي تخصص له كل سنة إهداراً صريحاً للمال العام في بلد يعاني اقتصاده من أزمات بنيوية، ويعيش الملايين من أبنائه على الكفاف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن