الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المحاضر والتجربة والحكاية

محمد السعدنى

2017 / 4 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


الحكاية شهيرة ومعروفة خصوصاً لدى أولئك المنخرطين فى مجالات التنمية البشرية، وهى ذات مغزى ودلالة وأبعاد إنسانية قبل تماسها مع عالم السياسة الذى لامهرب منه إلا إليه.
تقول الحكاية: في إحدى ورش العمل التدريبية في أحد الجامعات كان الحضور قرابة خمسين متدرباً، وكان التكنيك "أى الطريقة" التى اتبعها المحاضر بذكاء هى القيام مع المتدربين بالتجربة العملية أولاً ثم تحليل نتائج التجربة للوصول إلى مستهدفاته التى يريد ترسيخها فى عقولهم. قام المحاضر بإعطاء كل متدرب بالونة وطالب كل منهم أن ينفخها ويربطها، ثم يكتب بالفلوماستر اسمه عليها، جمع المحاضر البالونات ووضعها في غرفة صغيرة فملأتها تقريباً.. طلب من الحضور أن يدخلوا الغرفة وأن يحاول كل متدرب خلال خمس دقائق أن يجد البالون الذي يحمل اسمه، إندفع المتدربون جميعاً للغرفة تزاحموا وأحدثوا جلبة حتى انتهى الوقت ولم يستطع أياً منهم أن يجد البالون الذي يحمل اسمه.. هنا أشار عليهم المحاضر أن يأخذ كل متدرب أي بالون أيا كان الاسم الذي يحمله ثم يعطيه لزميله الذي يجد اسمه مكتوباً عليه. هكذا تمت العملية بسرعة ونظام وكان مع كل متدرب البالون الذي يحمل اسمه، وضج الجميع بالضحك والسعادة.
بادرهم المحاضر، الآن تضحكون فى سعادة ولعلكم تكتشفون معى دلالة التجربة ومغزاها، فإذا اعتبر كل منا أن بالونته تمثل سعادته التي كان يبحث عنها، فماذا حدث؟ ببساطة، عندما كنا نبحث عن سعادتنا فقط، استحال علينا أن نجدها، ولكن عندما قدمنا السعادة للآخرين منحونا السعادة، فالسعادة هي بما تقدمه للآخر، لمن حولك، لمن تعرف ولمن لا تعرف، لمن يحتاج ولمن يبحث، لمن يساعدك ولمن ينافسك، فيفرح ويبتسم، وعندها تجد سعادتك في ابتسامته. قدم للآخرين سعادتهم يقدمون لك سعادتك.
ولعل المحاضر هنا تماس ربما دون أن يدرى مع واحدة من نظريات "دوركايم" فى تنظيم العمل، وماكس فيبر فى رؤيته للنظام الاجتماعى، وإريك فروم فى الإنسان بين الجوهر والمظهر. ماذا أريد أن أقول؟ ببساطة ليس مطلوباً منا جميعاً أن نتعلم وندرس أعقد النظريات العلمية حتى نرتقى بالسلوك العام، يكفى أن يقوم عنا بذلك العمل المعقد طليعة مثقفة تنقله إلينا، فنتمثله ونمارسه، ولعلنا بعدها نقرأ حوله أو نقرأ غيره لأن القراءة فى حد ذاتها تؤهلك لتقبل مستجدات الحياة وتحولات العصر وطوارئ الدنيا. القراءة تعطيك عمقاً فى الزمن والخبرات والتجارب، بالقراءة تعيش الحياة أطول وأعمق وأجمل، ترى الأشياء لابمنظارك الذى مهما انفرجت زاويته تظل محدودة مقارنة بمناظير أخرى أكسبتك القراءة أبعادها الكثيرة المتنوعة. هذا أو تكون رهناً لإعلام هو بالأساس فاقد للشئ الذى ينبغى أن يعطيه، أقصد الثقافة، فإعلامنا فى مجمله مسطح خاو المضمون ببرامج تغيب وعى الناس ولا تنتج إلا التخلف عن العصر والبعد عن الجدية والحداثة.
ولعلى أتجاوز تجربة المحاضر التى حددها فى عمومية السعادة وعدواها، وفى جماليات التعاون والتضامن الانسانى وتبادل العطاء واقتسام مشقات المصائر بالبصائر وجميل الضمائر، وأذهب بك إلى شخص المحاضر ذاته، فما فعله مع تلاميذه المتدربين هو علامة على امتلاكه بصيرة وثقافة وكفاءة وقدرة، مكنته من إتقان واحد من أهم فنون التدريس والتعليم، هو لم يقم بالتلقين واجترار المعارف بالتكرار والتدوير، إنما أعمل فنون التجريب والقياس والتحليل والاستنباط والاستنتاج والاستدلال وموضوعية وعلمية تكوين الأفكار والقناعات. ولعله قدم للمتدربين تجربة لن ينسوها، بدأها لعبة مسلية وانتهى بها نظرية علمية لها أبعادها الاجتماعية ومؤثراتها الإنسانية والأخلاقية، فأنت بعد هذه التجربة لا تتقبل الآخر فحسب بل تشاركه وتتضامن معه وتعملان سوياً بروح الفريق لتحقيق هدف مشترك، ربما جاء بسيطاً فى هذه التجربة، لكنك بالقياس عليه يمكنك أن تقدم لمجتمعك ونفسك الكثير والمهم والنافع والجميل.
لقد كان المحاضر فى هذه الحكاية ذكياً بأن اختار السعادة مثالاً للعمل المشترك والتفاعل الإنسانى، ولعله جاء محقاً رائعاً فى اختياره هذا، لأننا فى بلادنا المحروسة علمتنا الأيام وتصاريف الأقدار تجاربا كثيرة بعد ثورتين، لكنها من أسف رغم انضاجها لمعظم الناس سياسياً أو للدقة خلقت طلباً عاماً على السياسة إلا أنها كرست لدى الناس بدواعى ضعف الحكومة وعدم كفاءة المسئولين وسوء الاختيارات والانحيازات العامة أن خلاص الفرد مسئوليته وحده، فرأينا من يقتص لنفسه بقطع يد السارق أو سلخ وسحل السارق وتعليقه فى إحدى أشجار القرية، أو خطف تاجر الحشيش وقتلة جزاء وفاقاً لتجرؤه على خيانة عصابته وبعضهم من ضباط ومتنفذين فى أجهزة الدولة، أو محاصرة قرية فى الأقصر طلباً لتسليم أسرة مسيحية لإبنتها لبعض المهوسين بالتطرف لتزويجها لمن ادعى اسلامها وإعادة سيناريو "أختى كاميليا" وعدم احترام الدولة وأجهزتها بتسييد قانون الغاب والبلطجة، وإطلاق الرصاص فى سوهاج لوقف تنفيذ أحد مشروعات المحافظة، وقبلها التهديد تحت قبة البرلمان بضرب الصحفيين بالجزمة، وعدم تنفيذ حكم لمحكمة النقض بعضوية نائب منذ عام تقريباً وإعادة مناقشة تيران وصنافير بعد حكم نهائى بات بمصرية الجزيرتين، وأخيراً التحرش بالقضاء وخلق مشكلات نحن فى غنى عنها ويستخدمها الغرب للتشهير بنا وأننا مجتمع ضد حقوق الإنسان ولايحترم القانون، بما له من تداعيات على التنمية والاستثمار.
بهذا كله وغيره تولدت قناعة خاطئة وخطيرة لدى الناس بأنك "تاخد حقك بإيدك" وأن الخلاص فردى وليس جماعى. وهكذا جاءت أهمية حكايتنا ومحاضرنا والتجربة العملية فى مؤداها ومضمونها: "أن قدموا السعادة للآخرين، يقدموا لكم فى المقابل سعادتكم"، وإذ قدمت لك القصة وماوراءها فهذا دورى وتلك رسالتى، بقى عليك دورك ورسالتك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شهداء وجرحى إثر غارة إسرائيلية استهدفت منزلا في مخيم النصيرا


.. الشرطة الأمريكية تعتقل طلبة معتصمين في جامعة ولاية أريزونا ت




.. جيك سوليفان: هناك جهودا جديدة للمضي قدما في محادثات وقف إطلا


.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي




.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة