الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بول نيزان، المثقف والمساجل مسيرة صحافي شيوعي ملتزم

آن ماتيو

2006 / 1 / 26
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


كان بول نيزان، المولود منذ مئة عام، والذي أشاد به جان بول سارتر في مقدمته الشهيرة لكتاب "عدن ـ العربية"، صحافيا شيوعيا واسع النفوذ وكاتب مقالة وروائي معروف. وفيما نشهد اليوم تواطؤا بين الصحافة واوساط النشر، لم يكن نيزان يتراجع امام الاندفاع في وجه السلطة ولا امام النقد اللاذع.

كان بول نيزان صحافياً سياسياً منذ حزيران/يونيو 1935. بداية في صحيفة "لومانيته" وابتداءً من آذار/مارس 1937 في الصحيفة اليومية الجديدة "لوسوار" التي تأسّست بأموال الحكومة الجمهورية الاسبانية دفاعاً عن قضيتها. وقد تسلّم نيزان فيها مركز المحرّر الديبلوماسي الذي كان يُشغله في "لومانيته". وقد أُُتيح له، بشكل خاصّ، الاهتمام بالنزاع الايطالي ـ الحبشي (1935-1936) وإعادة عسكرة منطقة نهر الرّين الالمانية (آذار/مارس 1936)، الحرب الاسبانية (1936-1939)، احتلال النمسا (آذار/مارس 1938) واتفاقية ميونيخ (ايلول/سبتمبر 1938). كذلك كانت له في الصحيفتيْن زاوية أدبية، كما تسنّت له الكتابة في صحف أخرى.

الصحافيّ، كما يظهر في مقالات نيزان، هو في الوقت نفسه "مؤرّخ اللحظة" والمثقّف الملتزم الذي يحلّل الأحداث ويُساجل بحماسة [1]. في تموز/يوليو 1939، خاض معركة الدفاع عن حرّية الصحافة. وكان فيها ساخراً لا يشبه في شيء الكلام الخافت والمهذّب الذي نسمعه اليوم: "بعد أن قرّر السيدان رئيس الحكومة ووزير العدل أن يحتكرا مسؤولية الحقيقة، منعا الصحافة من قول ما تعرفه حول الجرائم التي تُرتكب او تلك التي يجري الإعداد لها ضدّ أمن البلاد وتوازنها. الحاضر ممنوع عليها وجلّ ما يمكنها التطرّق اليه اعتبارات خارج الوضع الراهن. لا يحقّ لها ان تقول ما يحدث، بل فقط ما حدث سابقاً" [2]. ثمّ يعمد نيزان الى تقديم لائحة ساخرة بالممنوعات، متوقّفاً عند "بعض المصادفات" التي يمكن التطرّق اليها "والتي تكشف جليّاً ما هو المحرَّم علينا تناوله". في هذا المقال، المؤرَّخ 19 تموز/يوليو 1939، يعبّر بول نيزان عن مفهومه للصحافة: لذّة الكتابة والاسلوب، المقدرة على التمتّع والاستنكار والارادة في توفير كافة المعلومات.

في آذار/مارس 1939، أصدر كتابه الاخير "حوليّات أيلول"، وهو بحث صحافي دقيق في اتفاقيات ميونيخ مع مقدّمة يصف فيها نيزان "المحرّر الديبلوماسي" بأنه "مؤرّخ الراهن" [3]. ويتطرّق فيها الى "مصادر الصحافي اليومية"، معتبراً أنها مرتبطة بالمراجع التي تأتي منها وبالطريقة التي تُعاد فيها صياغتها. فالـ"الفعل الصحافي" لا يخضع، في رأيه، الى أيّ قواعد غير قواعد الظاهرة التاريخية. فهو "مثلها موضوع مقاربة غير مباشرة ومعرفة تقوم على الآثار المتبقّية، باستثناء الحالات النادرة التي يكون فيها الصحافيّ شاهداً أولاً، ممّا يتطلّب ايضاً اكثر اشكال النقد تشدّداً من الذات على الذات. فجميع القواعد المعهودة لتقييم الشهادات تسري هنا: الزمن الفاصل بين الحدث وسرده لا يفترض أن يغيّر في جوهر المشكلة". لا أهمية اذن للضرورة الخرافية بايجاد مسافة مع الحدث ولترداد لازمة "الوقائع، لا شيء غير الوقائع".

إنّ مسلّمات من هذا القبيل تخفي برأيه انحرافاً ايديولوجياً واجتماعياً: "ما من شهادة فريدة وصلت الى حدّ الوضوح بحيث تكون مُعفاة من النقد. إنّ صدور الشهادة الفريدة عن رئيس للوزراء لا يمنحها امتياز المصداقية" [4]. الصحافة الملتزمة، وفق مفهوم نيزان، تقدّم المعلومات وتكشف الأضاليل وتتدخّل دفاعاً عن القضايا التي تعتبرها عادلة، نظراً الى العناصر المتوفّرة لدى الصحافي ووفق رؤيته للعالم.

إنّ الواقع الذي يراه نيزان كما هو الواقع الذي يراه أخصامه، مبنيّ او مُصاغ من جديد عبر الالتزام، وهو يُوصم بأنه "الحقيقة" التي تمثّل "حقيقة" من جملة حقائق، وهذا ما يعرفه مؤلف "كلاب الحراسة". ففي هذا الكتاب، الصادر عام 1932، يقوم خرّيج المعهد العالي للتعليم وزميل الدراسة لجان بول سارتر وريمون أرون (يحتفل بعيد ميلاده المئة) بمهاجمة الفلاسفة من حرّاس وضامني الحقيقة وذلك باسم استحالة الموضوعية: "في عالم مُنقسم بجلافة الى أسياد وعبيد، علينا الإقرار علناً بتحالف خفيّ وطويل الأمد مع الأسياد او الإعلان عن انحيازنا الى معسكر الخدّام. لا مجال لعدم انحياز المثقّفين. لا يبقى امامنا سوى معارك الأنصار" [5].

فالمواجهة بين "الحقيقة" و"الكذب" تمثّل بالتالي ترجمة لأخلاقيّات الصراع الطبقيّ على المستوى العالميّ، حيث يشكّل الكذب الآلية الاساسية للعالم الذي يسعى الصحافي للانقلاب عليه. فمفهوم "المظهر" يصبح اذن مركزياً، عندما يبقى المسؤولون السياسيون والصحافيون اليمينيون والعديد من الفلاسفة والكتاب في مستوى "الظاهر" لا يكشفون منه إلاّ جزءاً من الواقع ولا يقدّمون عنه سوى محصّلة موجّهة وحتى رؤية مزوّرة.

كذلك عبارة "مناورة" تتكرّر في مقالات نيزان، وتسمح بالتهجّم ليس على مؤامرة ما يتخيّلها عقل ذُهاني بل أفعال تهويميّة يُقدم عليها رجال السلطة: "مناورة ديبلوماسية"، "مناورات في الكواليس"، "مناورة كبرى لتضليل الرأي العام". ويستخدم نيزان، للدلالة على هذا السلوك، استعارة "ستائر جنيف" عندما راح يستنكر في آب/اغسطس 1935 عجز عصبة الامم إبّان النزاع بين ايطاليا والحبشة.

ففي خفايا العالم السياسي الضيّق، يهدف السلوك النمطيّ لأصحاب القرار الى إبقاء الشعب على الهامش وإلهائه برسائل معهودة ومختلفة المضمون عن القرارات المتّخذة. فخارطة الطريق متشابهة من الفلسفة الى الاعلام "البورجوازي"، فلكلّ منها "مهمّة جعل نظام ما مقبولاً من خلال جعله مُحبّباً وإضفاء النّبل عليه وتقديم المبرّرات اللاّزمة له" [6].

اذا كانت البورجوازية، المُمسكة بزمام السياسة والصحافة، تجهد لتضليل الشعب كي تمنعه من التمرّد، فإنها تتلاعب به ايضاً عبر الثقافة والأدب: "إنّ الثقافة والمعرفة تجعلان من يتمتّع بهما اقلّ عرضة للتلاعب به بالكلمات وتصديق الاكاذيب. بل انهما تضاعفان المقدرة على فهم الواقع الذي يعيشه. إنّ لإدراك هذا الواقع قيمة تفجيرية، اذ لا تؤدّي سوى الى ارادة التغيير. فلا يبقى امام البورجوازية سوى إضعاف الثقافة وإدراك الناس المُهيمَن عليهم" [7].

على الصحافيّ، كما يفهمه نيزان، أن يفكّ، من جهة رموز تصريحات المسؤولين والنضال، ومن جهة أخرى ضدّ ما يتضمّنه الاعلام المسيطر من تصوير وتحليل للواقع. ولا يتردّد نيزان في اللّجوء الى الحماسة، فيكتب عن بيار لافال خلال النزاع الايطالي ـ الحبشي: "نادراً ما كان لرئيس حكومة خدم جيّدون، نادراً ما برهنت الصحافة عن هذا القدر من الطواعيّة". لكن الانتقاد يندرج ضمن سياق أوسع، حيث يتواطأ اصحاب الصحف مع تجّار الاسلحة. إزاء انتصار "الجبهة الشعبية" في اسبانيا والمبشِّر بفوز التجمّع الشعبي في فرنسا، تتوقّع الطبقة الحاكمة أياماً صعبة قادمة. ضمن هذه الظروف، تبدأ الصحافة اختراع خطر انتشار "الفوضى". وقد أتت اضرابات حزيران/يونيو 1936 لترفع التوجّس الى مستوى الهاجس.

يأتي جواب نيزان ساخراً: "لم يحذّرونا بعد من أكلة لحوم البشر في اسبانيا، ربما يقومون بذلك بين دورتي الاقتراع" [8]. لكنه لا يخفي غضبه عندما يتوجّه الى زملائه: "هل يجرؤ الكتّاب الفرنسيون والبريطانيون على الاستمرار في أكاذيبهم البلهاء، بعد المقالات اللامعة التي سطّروها في آذار/مارس (1939) حول هدنة عيد الفصح والعطلة التي منحها هتلر لأوروبا؟ [9]". في كتابه "عدن ـ العربية" (1931)، الذي نشره جان بول سارتر عام 1960 مع مقدّمة شهيرة خصّ بها زميل دراسته، يعبّر نيزان عن صدمته لتحريف المفردات على لسان المسؤولين في العالم: "هذه الأغراض تسمّونها حرباً وتجارة وترانزيت: هل تعتقدون أنّ هذه الكلمات تغفر كلّ شيء وحتى نهاية الازمنة؟ [10]". مع تحوّله الى الصحافة، لن يتوانى عن فضح التضليل في المفردات، مُعتبراً أنّ استعادة الكلمات معانيها الحقيقية يعطي الأفعال ايضاً مغزاها الحقيقي.

من هذه العبارات، كلمة "السلام" التي لاقت نصيبها من الانحطاط في المعنى وفي السياسة خلال النزاع الايطالي ـ الحبشي. فيكتب نيزان عام 1935: "لا بدّ أنّ السلام يعني بالنسبة للسيد لافال سحق الشعوب الضعيفة". وفي ميونيخ، في ايلول/سبتمبر 1935، يصبح الإنحطاط كاملاً وتتحوّل الكلمة الى أكذوبة: "ربما اعتقدوا انهم انقذوا السلام باغماض العين عن الاختفاء الغامض لتشيكوسلوفاكيا المعزولة في قعر اوروبا. الواقع أنّ اوروبا هذه ستسقط في اتون حرب لن يتمكّن أحد من ايقاف عدواها [11]". وفي عودة الى اتفاقية ميونيخ، في آذار/مارس 1939، يلاحظ نيزان "ان هذا السلام الشهير لم يكن سوى سيطرة للعنف المنتصر" [12].

لكن كيف لا يخلط بين اتفاقية ميونيخ واستدراك الحرب، طالما أنّ اجتياح الحبشة وُصف، في تموز/يوليو 1935، بالسلمي: "هل تحاول كلّ من بريطانيا وفرنسا إقناع الحبشة بالموافقة على غزوها سلميّاً؟". السخرية نفسها تطال عملية ضمّ منطقة "السودات" في ايار/مايو 1938: "في الاسابيع المقبلة، سيبدأ تفكّك الدولة التشيكوسلوفاكية "سلميّاً"، بالضمانة البورجوازية لبريطانيا العظمى". وعندما وضعت الجمهورية الاسبانية على قدم المساواة مع المتمرّدين الذين شنّوا عليها الهجوم؟ وعندما تقرّر حكومة ليون بلوم (الفرنسية) عدم التدخّل في آب/اغسطس 1936، ليصبح التضليل فاضحاً أكثر فأكثر؟: "اذا لم تكن ديبلوماسياً، يمكنك تسمية الأمور بأسمائها والقول أنّ اسبانيا ضحية اعتداء". منذ العام 1932، عرض مؤلف كتاب "كلاب الحراسة" لمنطق التوريّة هذا: "عندما تتحوّل الحرب الى فكرة، تختفي الحرب كواقع... لا تعود لعبة دمويّة لصالح صانعي الاسلحة، بل حملة صليبية فلسفية، معركة داخل العقول".

اذا كانت كلمات نيزان ما تزال تثير اهتمامنا، فلأنّها صارخة رافضة، وأيضاً بسبب الرغبة الدقيقة في الإعلام والإلتزام. كان نيزان صحافياً مناضلاً في سبيل مهنته، كما في سبيل ايديولوجيته الشيوعية. ففي عداد مقالاته نصوص موالية تجعل من الاتحاد السوفياتي "بلد السلام" الذي زال منه "القلق" [13]. تتميّز الصحافة المُلتزمة بأنها تُبرِز خياراتها ولا تلبس لبوس الموضوعية. وقد نجح نيزان بأسلوبه الحماسيّ في التعبير عن مآسي حقبته. مأساة الجمهورية الاسبانية: "هل نترك اسبانيا الجمهورية تتحمّل وحدها، على حساب دم العمّال والفلاحين والنساء والاطفال، هجوم المتمرّدين المتحالفين مع المانيا وايطاليا؟". مآسٍ تسبّب بها تردّد وتخلّي الديموقراطيات الاوروبية وأفضت الى الكارثة النهائية: "هل قرّرنا متأخّرين أن نقول الكلمة التي لم نجرؤ على لفظها قبل برشتسغادن، الكلمة التي لم نقلْها للحبشة واسبانيا ومقاطعة الرين والنمسا، كلمة "كلا" التي كانت ستنبّه هتلر قبل انزلاقه الى حدّ يمنعه من التراجع كي لا يخرّب اسطورته الخاصة؟ [14]".

تثير مقالات نيزان اهتمامنا ايضاً بسبب مقاربتها للاخبار والكلمات. لا نخال قارئ المستقبل سيجد في صحافتنا الراهنة ما يستوقفه طويلاً غير ما تحمله من "شهادات". فالشائع اليوم هي الموضوعية والمسافة والكلمات التي تخفي الانحياز، الشائع هو الخطاب المفتقر للنبرة والمفردات المعهودة والنقاشات المهذّبة والشاحبة.

يُحيي نيزان ماضياً ليس بالبعيد، حيث كان الشعور بالصدمة شعوراً نبيلاً والسّجال مشروعاً، وحيث الاقلام الخائضة غمار المعركة تعوّض شيئاً من سواد العالم. للأفضل أو للأسواء.






--------------------------------------------------------------------------------

* مديرة مجلّة "عدن ـ بول نيزان"، باريس.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] نشرت هذه النصوص مؤخرا في كتاب Paul Nizan, articles, itineraries litteraires et politiques, vol I, ed. Joseph K. Paris, 2005 (textes réunis, annotes et commentes par Anne Mathieu)

[2] “ La France trahie - I - Ce qu’on a le droit de dire ”, Ce soir, 19 juillet 1939.

[3] Chronique de septembre, Paris, Gallimard, 1978, p. 7.

[4] المرجع السابق، ص. 17.

[5] Les Chiens de garde, Agone, Marseille, 1998, p. 55.

[6] المرجع السابق، صز 107.

[7] “ L’Ennemi public n°1 ”, Regards, 14 mars 1935, in Paul Nizan, articles littéraires et politiques, volume I, éditions Joseph K., Paris, 2005 (textes réunis, annotés et commentés par Anne Mathieu).

[8] L’Humanité, 25 avril 1936.

[9] Ce soir, 9 avril 1939.

[10] Aden Arabie, Seuil, “ Points ”, Paris, 1990, p. 111.

[11] Ce soir, 25 septembre 1938

[12] Héritages de Munich ”, Ce soir, 15 mars 1939.

[13] L’homme nouveau ”, Russie d’aujourd’hui, août 1935 (mensuel des Amis de l’Union Soviétique).

[14] Ce soir, 27 septembre 1938.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة.. -إيلون ماسك يستوفي كل الشروط لقيادة العال


.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث بجرف شاهق




.. غارات على مناطق متعددة في قضاء صور جنوبي لبنان


.. كيف التهمت أوكرانيا وإسرائيل دفاعات أمريكا الجوية؟.. قائد عس




.. باريس سان جيرمان يبحث عن ثلاث نقاط جديدة في الدوري الفرنسي