الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إبراءُ ذِمّة … وشهادة

فاطمة ناعوت

2017 / 5 / 1
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




لستُ أدري إن كانت ميزةً أم عيبًا في تركيبتي الذهنية والنفسية. أرفضُ التسليم بأمر أراه ناتئًا عن منظومة المنطق والعقل والتحضُّر، مهما شاعَ ذلك الأمرُ، وانتشر وتكرر كلَّ يومٍ، حتى أصبح من طبائع الأمور التي لا تُدهشُ الناس. تظلُّ تُدهشُني. وأقاوم الاعتياد عليها، وأستغربُها كأنها تحدث للمرة الأولى. إن أنت اعتدتَ على مشهد رجل يضرب طفلا، أو يهين امرأةً، أو يعذّب حيوانًا، أو يقطع شجرة، أو يُلوّث الطريق بالنفايات، اعلمْ أنك في خطر. مرّنْ نفسَك على الدهشة من كل قبحٍ تراه، مهما صار شائعًا، كأنك تراه للمرة الأولى. لماذا؟ حتى تقاومه. لأنك لو اعتدت على القبح، صار بالنسبة لك عاديًّا. والإنسانُ لا يقاوم العادات المتكررة. تلك حيلتي الذهنية التي مرّنتُ نفسي عليها منذ طفولتي، لأعصم نفسي من فعل ما يرفضه عقلي، لمجرد أن "كل الناس بتعمل كده". لهذا لا تبرحني الدهشةُ كلّما اصطدمتُ بمحنة طائفية أو تمييز عَقَدي. أندهش كأنما أرى ذلك القبح للمرة الأولى. فكلما فُجّرت كنيسة، أو قُتل مسيحيٌّ على يد تكفيري، أُصدَم وأغضب وأرفض أن أُسلّم بحدوث ما يحدث ويتكرر منذ أربعين عامًا.
لكن يبدو أن عقلي الذي أُجبره على أن يرى كلَّ مأساة كأنها الأولى، يُسجّل الكوارثَ، في غفلة مني، على عدّادٍ خفيّ يعمل في المنطقة المظلمة من عقلي: اللاوعي. وقت تفجير كنيسة البطرسية بالعباسية مع نهاية العام الماضي، تأزمتُ كثيرًا ولم أخرج من تلك المحنة إلا حين أقنعتُ نفسي بأن تلك ستكون آخر المحن الطائفية التي تمرُّ بها مصر. على أي أساس قلتُ لنفسي هذا؟ لا أدري. مجرد أمنية حوّلها عقلي إلى عهد ويقين بأن مصر لن تسمح، بعد اليوم، أن يُهدم فيها دارُ عبادة أو يُقتل فيها مسالمون عُزّل يُصلّون. هكذا واسيتُ نفسي لأخرج من المحنة وأكمل حياتي. لهذا حين وقع تفجير كنيسة طنطا ثم الأسكندرية في يوم واحد الأحد قبل الماضي في "عيد السعف"، انهرتُ تمامًا، وأدركتُ أنني كنت أضحكُ على نفسي، وتيقنتُ أن الأمرَ أكبرُ من قدرتي على التحمّل. وكان لابد من شيء أفعله لأصمد وأقاوم وأكمل حياتي. وكان القلمُ طبيبي. كتبتُ ما أطلقتُ عليه "إبراء ذمّة"، لأصالحَ نفسي على نفسي، وأُشهِدَ نفسي على أنني بريئةٌ من دم الأبرياء. وكانت القطعة التالية التي أوثّقها اليومَ في مقالي هذا:
أقباطَ مصر المسيحيين، أنتم أكثر سموًّا وشرفًا وغفرانًا مما نستحقّ. أقباط مصر المسيحيين أنتم أكثر وطنيةً من كل أدعياء الوطنية والتديّن. أقباط مصر المسيحيين، لن أطلب منكم أن تسامحونا على ما يفعل السفهاءُ منّا كل يوم في حقكّم. لأنني أعلمُ أنكم مجبولون على السماحة والغفران، وتلاقون إساءاتنا المتكررة بالغفران. أقرُّ أننا مدينون لكم بالكثير وأننا غير قادرين على سداد ديوننا نحوكم مهما فعلنا.
الآن لم يعد بوسعي حتى تقديم واجبات العزاء لكم لأنني غارقةٌ في الشعور بالخجل والخزي مما نفعله بكم منذ عقود طوال، وإلى أمد لا يعلمه إلا الله.كلما فعلنا بكم سخافةً أو تفجيرًا أو مجزرة، أعزّي نفسي بأنها الأخيرة، لكنها لا تكون الأخيرة، وتتبعها سخافةٌ وسخافاتٌ وتفجيرٌ وتفجيرات، ومذبحةٌ ومذابحُ، فتظلُّ رأسي تنخفضُ أمامكم يومًا بعد يوم حتى بِتُّ أتمنى أن تنشقَّ الأرضُ وتبتلعني قبل أن ألتقي مسيحيًّا لأقول له: أُعزيّك، البقاء لله، سامحني! منذ تفجيري طنطا والأسكندرية، لم أستطع أن أنام وارتفع ضغطي ولم أسع حتى لعلاج لأنني أرجو أن أرتاح من هذه الدنيا الظالمة المدنسة بكل سوءات العالم. لحسن الحظ أنني كنت يومها خارج الوطن حتى لا يرى أطفالي دموعي فيجزعون ويشعرون بالخجل من النفس كما شعرت أنا. لن أقول: أعتذر لكم! ليس فقط لأنكم لا تنتظرون اعتذاري، بل لأن الاعتذار فقد معناه وبات لونًا من البلاهة والاستعباط الذي لا يليق بي، لأنني حتى لا أملكُ يقينًا أنه سيكون اعتذاري الأخير. تعبتُ من كثرة أخطائنا، وتعبتُ من كثرة غفرانكم، وتعبتُ من الرجاء بأن ينتهي كل هذا دون أن ينتهي، وتعبتُ من عدم القدرة على فهم ما يحدث حولي. عقلي لا يستوعب أن يقتل أحدٌ أحدًا حتى مع وجود سبب للقتل مثل الثأر أو القصاص أو غيره. فكيف أستوعبُ أن يقتل إنسانٌ إنسانًا أعزلَ لا يعرفه وهو يصلي! وهو يصلي! وهو يصلي في عيده! أشهدُ أنني لم أسمع في كنيسة كلمةً تسيء لي كمسلمة، ولا لديني ولا لإنسان. أشهدُ أنني أسمعكم في كنائسكم تدعون لمصر ونيل مصر ورئيس مصر وللمصريين مسلمين قبل مسيحيين. أشهدُ أنكم ترعون في طقوسكم الخدمية أبناءنا المسلمين الفقراء كما ترعون أطفالكم المسيحيين.أشهد أن راهبةً مسيحية لم ألتق بها إلا مرة واحدة في حياتي تُصلّي منذ سنوات لابني المريض "عمر نبيل" في كل صلواتها حتى يشفيه الله. أشهد أن مسيحيين قد ساندوني في محنتي بما لا مجال لأن أنساه ما حييت. أشهدُ أن صلوات كثيرة رُفعت باسمي على مذابحكم في محنتي طوال عامين؛ أنا المسلمة التي لم تقدم لكم أي شيء.أشهدُ أنكم لا تعرفون إلا الحب لكل الناس دون قيد أو شرط. ومَن يفعل غير هذا منكم تتبرأون منه ولا تقبلونه بينكم لأنه لا يسير على خطى السيد المسيح، رسول السلام. أشهدُ أنني تعلمت من أساتذتي المسيحيين في مراحل التعليم المختلفة ألا أكره حتى من آذاني؛ لأن الكراهية دنسٌ للنفس. وألا أقابل الإساءة بالإساءة.أشهدُ أن مفاتيح بيتي وسيارتي وكافة شؤون حياتي تكون في أسفاري في حوزة أسرة مسيحية شريفة ترعى مصالحي وتخاف علىّ أكثر مما أفعلُ أنا لنفسي وأكثر مما يفعل أقربائي وشقيقي الوحيد. وأشهدُ أنني لم يعد في جعبتي كلماتٌ تعبر عما في نفسي من حزن وخجل وفقدان أمل في هذا العالم.هذا العالم لم يعد صالحًا للحياة. هذا العالم صار أبشع من قدرتي على الاحتمال.هذا العالم تعسٌ ودنسٌ وغير جميل. سامحني يا ربُّ فأنا لا ألعنُ الدهرَ؛ بل ألعن الفحشاء والوحشية والغدر وانعدام الإنسانية في بني الإنسان. وفي بني جَلدتي. وفي بني ديني الذي يحثنا على الرحمة والتراحم.أقباطَ مصر، أقدِّم لكم احترامي، وأضع بين أيادكم خجلي وشعوري بالعار. ولله الأمر من قبل ومن بعد. فاطمة ناعوت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ابرا ء ذمة وشهادة للمسيحيين وحدهم
عبد الله اغونان ( 2017 / 5 / 1 - 13:52 )

كلام جميل في ظاهره مثير الاستفزاز
لأنه يخص المسيحيين وحدهم بالرثاء والاعتذار والبكاء والنواح
لكن كل ضحايا القمع والقهر الاخرين
لابواكي لهم
صحايا الانقلاب من شهداء ومسجونين
ابتداء من مجازر رابعة العدوية والنهضة وغيرها
ضحايا السياسة الانقلابية
ضحايا الاعلام والفكر والهوية
ضحايا الغلاء والغباء والتسلط
نكلك الى ضميرك ودينك ووطنيتك فالحق والعواظف النبيلة لاتقبل الجزئية

اخر الافلام

.. تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!


.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي




.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر