الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية تحت عنوان تيتريت، نبت السماء الفصل الثاني

محمد شودان

2017 / 5 / 11
الادب والفن


قراء الحوار المتمدن تحيتكم طيبة،
هذه الرواية تحاول ملامسة أوضاع المثليات في أوطاننا الشرقية، سأنشرها على حلقات متتابعة وأرجو أن تنال إعجابكم.

لم تكن فرحتي ناجمة عن نجاحي في الباكلوريا فقط، ولا حتى بمجرد قبول طلبي للحصول على المنحة الجامعية التي ستكفل لي قسطا ماديا يغنيني عن مد اليد للعائلة كل مرة، بل غمرتني السعادة التي نسيت بابي قبل عامين، لأني أخيرا كنت على أتم الاستعداد لمغادرة زنزانتي الصغيرة والكبيرة، فلأول مرة في حياتي سيطلق سراحي من معتقل البلدة والحراسة المشددة التي ضربت علي بالأعين والألسن.
دخلت الغرفة الصغيرة في الدور الثاني من الدار الكبيرة، فأنرت المصباح وتأملتها، تلك الغرفة الضيقة التي اقتسمت مع أختي الصغرى حسناء، بعدما تركت غرفتي الفسيحة للأشباح التي طالما حاصرتني فيها وقضت مضجعي مرارا.
ولأني كنت وحيدة في الغرفة تلك الليلة، فقد اجتاحتني المخاوف من كل مكان وصوب، في الحقيقة، لم أرتجف، لا، ولم يرتعد كياني من الداخل، ولكن، امتلكني شعور كذلك الذي قد ينتابك لما ترقد في قبر وحدك، حتى وإن كان مفتوحا. أو أقلها كنت خائفة من عواقب السعادة التي غمرتني ذلك الصيف؛ لم أشعر بالطمأنينة رغم أن الضوضاء الصاعدة من الدار السفلى العاجة بالأنفس والحركة كانت كافية لتبعث في قلبي السكينة وبواعث الإحساس بالأمن، جلت ببصري بين أركان البيت لأحدد ما في زوايا السقف، وما قد يختبئ في الظلال. ولما اطمأن خاطري إلى خلوها، اقتربت من خزانة الملابس أكثر، وهي عكس كل الخزانات في الدار كاملة؛ مركونة كالثكلى في قاع الغرفة الصغيرة إلى اليمين، ففرض علي كيانها وموقعها تحديا بعيدا عن الصواب والعدالة؛ إذ لوصولها، وجب علي تجاوز السرير، العقبة الأولى، والوشم المشؤوم في الذاكرة، السرير الذي احتضن لياليّ الدامعات.
فحين يجن الليل، وتغيب أختي سابحة في نومها الهادئ، أتكوم كالجنين وأسمح لعيني بري الوسادة إلى أن تجف مقلتاي، فأغفو، ليسلمني الظلام إلى الكوابيس المزعجة والمرهقة، وكم ليلة أفقت من كابوس خانق بمشاهد الدماء والدمار، فأصيح مرتجفة وعرقي يتصبب.
جلست على طرف السرير المقابل للخزانة بتوجس، تاركة ظهري للباب الذي تركته مشرعا تحسبا لأي طارئ غير متوقع، وخوفا فظيعا دائما ما يجتاحني من الأماكن المغلقة، ودون أن أنحني لأتحسس ما تحته، شرعت أولا بتفريغ ملابسي الشتوية من رفوف الخزانة ووضعها إلى جانبي.
بدأت بطي الملابس الصوفية ولمها، تحسبا واستعدادا للموسم المقبل الذي ستستقبلنا به المدينة بعد الخريف الذي أوشك على الانسحاب من ساحة السنة لبرد الشتاء، الذي يأتي ممتطيا صهوة رياحه المولولة وجارا خلفه صقيعه المجمد للقلوب والمشاعر، فكل ما كان قد وصلني عن المدينة من أخبار يفيد أن لقرها زمهريرا لا يحتمل. ثم فتحت الحقيبة الوردية التي سحبتها من تحت السرير ببطء ورهبة. ظلت عيناي مثبتة فوق، في ركن السقف الشمالي، فقد لاح لعيني طيف ما هناك، فبدأ قلبي في الخفق فوق عاتقي توجسا ورهبة من المجهول.
بعد مدة من التنفس بعمق اطمأنت روحي وتنفست الصعداء، ثم بدأت التكيف والاندماج مع الفضاء، فوضعت المعطف أولا، ثم تذكرت أن حزامه مخزون في الدرج السفلي للخزانة مع المناشف وأدوات الحمام، ففتحته على مهل. تبع المقبض يدي بسلاسة على غير العادة فانزلق الدرج نحوي، ثم اندفع ألبوم الصور وانزلق فوقع بين قدمي كأنه كان بانتظاري.
ها هو ذا يلاحقني ثانية، حضورا وغيابا؛ باديا بتفاصيل وجهه المتصلبة، يتسع ليكتسح الفضاء كأنه مارد شهرزاد الذي خرج للصياد من القمقم، بحثت وأنا أرتجف عن أي شيء لأغطي به وجهه النابح علي من خلف البلاستيك الشفاف، لكن الدم تجمد في شراييني، فأحسست ببرودة تسير كالتيار الكهربائي الجارف، وتمتد إلى ناحية فؤادي، فلم أستطع مد يدي إلى المنشفة جواري، خفق قلبي بحدة، وزاد إلى أن فارق قفصي الصدري أو كاد.
احتل طيفه البيت كله، واكتسحني من الداخل أيضا، ثم امتدت الأيادي والألسن والآذان، من السقف والجدران، ومن تحت السرير، ومن أعماقي المتجمدة، فلم أستطع دفعها ولا الفرار منها؛ كانت كالأخطبوط المتشبث بفريسته، وكنت أنا هي تلك الفريسة الخانعة المستسلمة، طاوعتني يداي فأمسكت برقبتي ورأسي.
خشيت أن يختطفني فتشبثت بنفسي، رحماك يا إلهي في السماوات، تداركني ولا تتركني، املأني بك، وهبني قوة، سيأخذني هذا الشيطان إلى حيث لا أدري، أي جحيم ذاك الذي يطلبني؟ ربما إلى ذلك السرير المفجع ثانية، ما عساي أفعل؟ هل من منقذ؟ سأستسلم يا رب فتداركني؟
"لا"
اشتعلت كالجذوة من باطن قلبي وتمددت ناشرة حرَّها في كياني كله، لكنها لم تستطع مغادرة حلقي، كأن أحدهم خنق نفسي أو جفف حلقي، لكني حاربت فشلي وخوفي، فصحت بأعلى صوت ممتد "لا"، استنفدت فيها قواي كاملة، وقد طاوعتني يدي فاحتميت بهما إذ وضعت رأسي بينهما.
وسرعان ما سرت في أرجاء جسمي حميا الحرارة والدفء بعد ذاك البرود الفظيع؛ فاحتضنتني ملائكة الرحمان:
ــ لا بأس يا بنيتي، لا بأس ! ما بك؟ أوه، إنها الصور ثانية، لم فعلت هذا بنفسك؟ ألم يطلب منك الطبيب نسيان كل شيء؟
نعم إنها الصور، لهيب السعير ذاك الذي طالما لفحني بأنفاسه من كل الجهات، ولم أستطع التخلص منه إلا بمساعدة الدكتور أحمد، أستاذنا الذي غالبا ما قطع محاضرته وفتح أقواسا ليحدثنا عن أمور تخصه.
وحدث مرة أن كان منغرسا في كرسيه خلف المكتب، فلا يظهر منه إلا هامته وقليل من كتفيه. ونحن نطل عليه كالعادة من كراسي المدرج، ولأني أخشى الوحدة والانفراد بقدر خوفي من الزحام، فقد حرصت دوما على حشر نفسي في حشود المقدمة، ولذلك لم أجلس يوما إلا في الصفوف الأمامية. كان الأستاذ بصدد حديثه عن روايته التي كتبها بالفرنسية، فكانت محور المحاضرة، وشاءت خواطره المتداعية أن يحدثنا عن دوافع تأليفه لها، وسبب تسميتها بالخيول الجامحة.
وهو يتحدث بصوته الأجش الذي يكاد لا يصل مكبر الصوت أحيانا، فقد اضطرنا إلى الإصغاء بكل حواسنا، لمن أراد الاستفادة طبعا، وهذا نفسه ما ساعد بعض الطلبة في إحداث جلبة في الخلف بأحاديثهم الثنائية، الأمر الذي فوت علينا الكثير مما كان يقول، لكن صحوة انتابتني فجردتني من كل الأردية لما سمعته يقول بكل فخر وقد ألبس صوته جهورية مفرطة ربما أنهكته، والحق أنه بدا من طريقة نطقه للكلمات مثقلا بحمل ما، ولكنه ظل عازما على التخلص منه، ولذلك صرح ناصحا إيانا أنه لا يجدر بالإنسان أن يعيش على مخلفات الماضي مهما كانت، فإن الله وهو أعلم بكل شيء قد اقتضت حكمته أن خلق عيون الناس ناظرة إلى الأمام لا إلى أعقابهم، ما يخفي قصدا إلهيا وأمرا سماويا خفيا يحث الإنسان على السعي قدما، فانطلقت شفاهي وهي تتساءل بالجرأة التي لم يعهدها مني أحد،
ــ وإن كان الماضي ثقيلا جدا؟ ينوء بحمله البعير.
ــ دعيه للبعير.
حينها أدركت أن علي التخلص من ذلك الحيوان الذي يسكنني، وقد فُرِض عليه حمل الثقل، فهمت أن علي التخلص منه مهما كلفني ذلك، وقد كفاني الأستاذ همي وحيلتي لما أخبرنا أنه قد تخلص من كل ما كان يذكره بزوجته الخائنة؛ فلم يكتف بترك المدينة التي كان مستقرا بها، بل وقد أحرق كل شيء جمعهما، حتى الملابس التي كانت تغلف جسمه حينها.
دخل محلا لبيع الملابس، ومنه اشترى بدلته الأولى التي ابتدأ بها ما جد من حياته، ومن غرائب الصدف كما قال مبتسما أنه في ذلك المساء التقى بالتي ستصير رفيقة دربه وأم أولاده.
لم يفهم أي فرد من عائلتي ممن صادفت عودتي إلى الدار حضورهم ذلك المساء شيئا مما حصل، ولا أدركوا سبب عودتي من المدينة في ذلك الوقت بالضبط، ففي اليوم الذي أعقب تلك المحاضرة أخذت الحافلة المتوجهة إلى القرية صباحا، وبعد الظهر كنت في البيت، لم أتمهل ثانية واحدة، ودون أن أبادل أحدهم تحية أو نظرة بلهاء كتلك التي قابلني بها البعض، والحديث هنا عن زوجة عمي حليمة.
قصدت الغرفة القديمة التعيسة بعدما أخذت من غرفة أختي ألبوم الصور المشؤوم القابع أسفل خزنتها، اختطفته من الدرج دون توجس ولا خوف، فتحت الباب مقتحمة غرفتي القديمة، ورغم أن رائحة الرطوبة كانت قوية، إلا أنها ظلت أضعف من عزيمتي، جلت في أرجائها كالمجنونة، قاسية النظرات والقسمات، ثم أوقدت الولاعة وتركت نارها تلتهم الألبوم وفراش السرير، وفوق النار الملتهبة في الصور وقفت مفرجة بين رجلي، معلنة انتصاري.
أعلنت الانتصار على نفسي رغم أنهم أجلوني من المكان وحاولوا إنقاذ السرير دون جدوى، أخيرا ما عاد في حياتي شخص يدعى أحمد، ولا ذكراه، لا يوم الزفة ولا جحيم الدخلة، كل شيء احترق، كل شيء، تأملت تفاصيل وجهه في الصورة وهي تنكمش مع اقتراب اللهب المحاصر لمحيط الإطار، بدا كأنه يستنجد ولا منجد.
لم أرحمه، فعلت ذلك لأنه هو أيضا أحرقني وأطفأ شمعتي متجردا من الإنسانية، ضغط على فمي براحة كفه فخنقني وهو يقاتل ليلجني مفرجا بين فخذي بعنف، لكنني ما كنت ضعيفة لأستسلم، بل قاتلت، وكنت مستعدة لذلك منذ أن تركتني أمي في فراغ الغرفة الباردة المزينة بمدامعي، بعد أن جَرَّدَتْني من ملابسي الداخلية، وتركتني بقلب بارد على سريري الأشد برودة، راقبته وهو داخل من باب الغرفة.
ما إن أقفل الباب دونه حتى سمح لتبانه أن يسقط متكوما فوق قدميه، فشكل ما يشبه القيد من كتان، ثم سحب جلبابه أعلى وقد انحنى كأنه راكع نحوي، ولما استقام كان عاريا تماما، فأثار في نفسي رغبة بالتقيؤ من ذلك الزغب المكبب في صدره ورجليه كأنها حبوب شاي أسود، اقترب مني مبتسما كالأهبل، فصحت:
ــ "لا".
ما جعله يقفز نحوي، فخنقني بكفه وهو يلهث
ــ يا فضيحتي مع أهلي
ثم جرني من ساقي فاستويت على السرير مفحمة ومرتعبة؛ تملكني الخوف والرجاء، خوف من القادم، بعدما رأيته عاريا كالوحش المستعد للانقضاض على فريسته، ورجاء أن تنتهي المهمة بسلام، وبينما أنا كذلك، اقترب مني ليقبلني، ولأن رائحة الخمر كانت طافحة منه، فما كان من معدتي إلا أن تصب عليه مما حشوتها به صبا، فصفعني صفعة تردد صداها في الأرجاء، ولأن الزفاف كان في بيتنا الكبير، فقد دلفت أمي أولا، ولما ولولت لحقها أبناء العائلة جميعا.
دامت بصمة أصابعه على خدي أياما، وكانت كافية لزجه في السجن، وبإعلان طلاقي. وبعد ذلك، رفضت الحديث في أمر الزواج وما جاوره مطلقا، فرددت خطابا عدة دون أن أناقش أحدا في أمر، كلما شاوروني في أحدهم لا أرد إلا باكية، فتدوم عبراتي أسبوعا أو يزيد إلى أن يتدخل أحدهم فيعلن رفضي، وآنذاك ترجع لي أنفاسي.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث