الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لاتتركوا النارنج وحيدا

سمير عبد الرحيم اغا

2017 / 5 / 11
الادب والفن


لا تتركوا النارنج وحيدا



بعد العشاء يجب ان يحسم الامر ، قال احدهم ذلك رغم انه احس ببرود في سؤاله ، كان الضوء الفضي ينعكس على صفحة (شارع خريسان ) وفي زحمة اشجار النارنج وكثرة الاصوات ، تعالت الاكف تطالب وتسال :
- من سيكون مسحر بعقوبة هذا رمضان ..؟
- من يأتي بعد (ابو حيدر ) ...؟
لم يجب أي احد من الناس الواقفة والجالسة على هذا السؤال الذي تجول في ساحة الحديث وهم يستقبلون اليوم الاول من رمضان ، قال العم مصطفى وهو الذي جاء متأخرا عن موعده :
- يجب ان نتفق مع مسحر الحي المجاور ابو سعد ليقوم مقام ابو حيدر
رد عليه ( ابو عمر) وهو اكبر رجال الحي سنا وكان جالسا على دكة خشبية في رصيف الشارع .
- اننا لا نريد ان نجرح شعور ابو حيدر بهذا العمل وهو مسحرنا منذ اربعين سنة
رد ابو عمر ثانية : لماذا لا يقوم احد رجالنا بهذا الغرض مع انهم يعرفون ما اصاب المسحر هذا العام
قالت ام علاء المرأة الكبيرة وهي تسوي الشال الابيض حول وجهها :
- و لماذا لا تفاتحون ابو حيدر في موضوع صحته ..؟
رد عليها ابو عمر : لا فائدة من ذلك يا اختي ...معذور
سارت ام علاء مع من سارت من الناس الوافدة تجر اذيالها الى دارها القريبة من الحي وسار العم مصطفى مع اثنين من رجال الحي في اتجاه آخر صوب الحي بينما انسحب ( ابو عمر) بصمت . دون ان يفكر بحل لهذا الموقف ، اخرج علبته المعدنية فلف منها ثلاث سيجارات... رمى واحدة الى جاره (ابو كاظم ) الذي كان يجلس على كرسي صغير من القش ، وقد اسند راس احد اطفاله الى ركبتيه ورمى الثانية الى (ابي علي) حارس الحي بينما دس الثالثة بين شفتيه راح الثلاثة يمجون الدخان بعمق وهو في جلستهم يتأملون مئذنة (حسينية عبد الكريم المدني ) السامقة بأنوارها وبين حين وآخر يتمتعون بأدعية ويطلبون بركات الشهر الفضيل . اما ابو حيدر فقد كان يجلس على البساط الذي مدته زوجه في باحة الدار وفي يده مسبحته الطويلة يدفع حباتها لرب كريم .. هذا اول يوم من ايام رمضان – رمضان حدث هام في حياة ابو حيدر انه جزء من حياته .. يعيش بين اخوانه واهله ( ناجي اليهودي ، حسام عرب ، جليل البهرزي ، كريم اسطة عباس ) في بعقوبة بعواطفه كلها ، منذ اربعين سنة وابو حيدر مسحر المحلة ، من شارع خريسان الى سوق البريد ومن شارع المحطة الى سوق بندر ، استقبل اربعين رمضان بطبلته يدق عليها بإيقاع متوال وصوته العميق يرتفع في سكون الليل :
- يانايم وحد الدايم
يسير مع موكبه الى شوارع بعقوبة يوقظ النائمين ومعه يركض الاطفال في ذلك الوقت كما يشاؤون ، يطل رمضان بنوره على الحي ، يجلس ابو حيدر مع زوجه يتسامران كل ليلة ، فهو لا يسهر مع زملائه في مقهى (اكهوة مجيد ) بل يقضي سهرته مسامرة مع زوجه او الجلوس مع (ابو علي) حارس الحي ، يدور في احاديث طويلة او يفتح كتاب الله ويروح في تلاوة منغومة هادئة ، يستدير على مقعده في رفق حين تنام عائلته ......... اما هو فلا ينام يحسب اغصان النارنج واحد واحد ولا يمل من العد ، يعشق النارنج لأنها قطعة منه ، وعندما تحين الساعة بعد منتصف الليل يخرج من داره ليبدا جولته ويسير معه احد اطفال الحي يحمل الفانوس ويمضي الموكب في سير بطئ يدور في ازقة وشوارع بعقوبة النظيفة .في ذلك الزمان ، وابو حيدر يدق طبلته دقات متوالية وهو ينادي من تحت الابواب والشبابيك :
- يا نايمين اصحوا ...السحور بركة
وفي اكثر الاحيان ، تتمد الرؤوس من النوافذ ليقول اصحابها بصوت خفيف وكأنهم ينادون صديق لهم :
- ابو حيدر .. نحن مستيقظون ، ومنهم من يقول :
- بارك الله بك ابو حيدر
ابو حيدر يعرف اهل بعقوبة كلهم ، كما يعرف كل اشجار النارنج الممتدة على طول الشارع ، فهو يقف عند كل بيت ويسلم على اهله وعلى شجرة النارنج التي تمثل عمر كل شخص منهم ،يسلم ويبدا من جيرانه (ناجي اليهودي) الذي يحبه كثيرا ، لانه جيرانه منذ اربعين سنة ، يعرفه منذ كانا صغارا يلعبون في ازقة بعقوبة ، ثم الحاج مناتي وكريم اسطة عباس ، وحتى بيت ابو ادمون ، ينادي صاحبه باسمه ، انه يتذكر كيف ان (الحاج مناتي ) الذي يعمل حمالا في سوق ( المسكف ) والقاطن في اول الحي لم يكن يستيقظ قبل اكثر من خمس دقائق يقضيها هو وابو حيدر في الضرب على طبلته تحت النافذة ويصيح :
يا نايم وحد الدايم
وتمتد لحظات يرتفع بعدها صوت .عبد الامير
وتمتد اللحظات ويقول
- كاعد كاعد ابو حيدر
يرد ابو حيدر :
- لماذا لا تنام في النهار يا اخي ....؟
فيرد عليه عبد الامير بجملة واحدة :
- وهل نحن من الذين ننام في النهار ، نحن نقضي نهارنا ركضا وراء لقمة الخبز
يرد ابو حيدر :
- الله يرزقك !
ويسير ابو حيدر وموكبه على ضوء الفانوس . كم كان هذا الفانوس يضايقه ومعه الاطفال ، وكم فرح عندما طالب اهل بعقوبة بوضع المصابيح الكهربائية في احيائها فكان لهم ما ارادوا ، وارتاح ابو حيدر من حمل الفانوس ، اما الفرن الذي كان يمر من امامه فكان ابو حيدر يقضي نصف جولته عنده ، وعندما يصل الواجهة الزجاجية ، يقف وراءها يتأمل صاحب الفرن اخيه (ابو ادمون ) يجلس على كرسي خشب من الخيزران يغالب النعاس ثم يمد يده فيفتح الباب ويدلف الى الداخل وهو يقول :
كل رمضان وانت بخير اخي ابو ادمون
- وانت بخير ابو حيدر
ثم يقوم ابو ادمون بجلب كيس الكعك الى ابو حيدر ويخرج ابو حيدر من الفرن يودع ابو ادمون بكلمات طيبة ، ليتابع كل بيت .. يوقظ الصائمين
- وحدوا الله ياصايمين
وينتهي التجوال عند أخر بيت .. وهو بيت (ابو جورج ) من الشارع الثاني ... وحين يصل هناك تتوقف طبلته ويسلم على ابو جورج من وراء الباب عليه ، وحين يصدح صوت المؤذن : الله اكبر .. الله اكبر ، يعود ابو حيدر الى بيته ليصلي وينام .
انتفض ابو حيدر انتفاضة صغيرة وهو يعود الى تأملاته التي اخذت كل وقته ، وذكرياته : هاهو اليوم الاول من رمضان ولم يبق من موعد السحور سوى ساعات : هل صحيح انه لن يستطيع بعد اليوم ان يحمل طبلته ويتجول في شوارع ودرابين بعقوبة يوقظ اهله واصحابه ... أهكذا يحرم من هذه النعمة التي انعم الله عليه بها ، منذ ثلاثين سنة .. هل سيحرم من منظر الموكب الذي يقيمه صبية الحي في ليالي رمضان ،
....... وام علاء هل تظل تنتظر مجيئه عبثا في المساء لتمد له يدها من فتحة الباب بلفة الكنافة وحبات البرتقال ، والطلاب ينتظرون صوت طبلته لينهضوا الى مذاكرة دروسهم وابو سعد الا يفتقده ليقص عليه حديثا سمعه من الراديو و(ابو ادمون) لمن سيقول : رمضان كريم : ولمن سيدفع الكعك الطازج ، وازقة بعقوبة تعرفه ابا عن جد ، ارقه التفكير طويلا ، لو كان له ولد لأورثه هذه المهنة ، اما زوجه فهي صامتة منذ المساء لا تتكلم ، هل يؤلمها حقا ان ترى زوجها وقد لم يرزقه الله بحيدر ، فقط اسم على مسمى ، تعرف ان مثل هذه الاحاديث تجرح احاسيس الانثى وتملؤها تعاسة ، كيف لا يستطيع الخروج ليلا يوقظ الناس ، اشياء قاسية كالطوق الحديدي . تحد من تفكيره وحركته ، اجراس عنيفة تطرق سمعه ، بدأ يحس بها ويرى نفسه عاجزا عن الخروج الى بيوت اهله اصحابه ،حاملا طبلته ودفقة كبيرة من الادعية الحارة وكلمات معسولة تقال له .
- لا لا هذا الماء الاسود الذي اسدل غشاوة كاتمة على بياض عينيه منذ شهرين ، لن يكون حاجزا بينه وبين دنياه التي يعيشها كل عام ثلاثين ليلة ، انه بحق ضرير ، ولكن هل يسمح لهذه الطبقة من الماء الاسود ان تحبسه في داره مع انفاس ضيقة وامل يختنق في صدره ..؟ هذه الانوار التي تلتمع من بعيد انوار مئذنة ( عبد الكريم المدني ) التي ترشق السماء ، وانوار المصابيح الكهربائية الجديدة ،
- لا لا ان ظلام الماء الاسود اضعف ان يخفي عنه وهج هذه الانوار الحبيبة واضعف من ان تبعده عنها ، كانت مفاجأة تلك التي استيقظ لها اهل بعقوبة في ليلة رمضان : الطبلية ذاتها ، طبلة ابو حيدر المسحر ، الصوت الدافئ ذاته الذي يرتفع في ليالي بعقوبة منذ اربعين سنة ، اليوم الزوجة الوفية تمسك بذراع زوجها الضرير وهو ينتقل على الابواب والوجوه و ينادي :
- يانايمين وحدوا الله
تمتد الرؤوس من النوافذ الخشبية ترد على صاحب الطبلة وتمتد معها الايدي الكريمة وتسبح اوراق النارنج ... سبحان الله ، فيقول ابو حيدر المسحر : رمضا الخير عليكم فترد عليه القلوب جميعا
- الخير لك ولنا
........................................................................................................
ملاحظة : هناك اسماء واماكن حقيقية ذكرت في القصة اخذت من كتاب ( بعقوبة في خمسينات القرن العشرين )
-






















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كان نفسي أقدم دور


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -الحشاشين- من أعظم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: خالد النبوي نجم اس


.. كل يوم - -هنيدي وحلمي ومحمد سعد-..الفنانة دينا فؤاد نفسها تم




.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: -نجمة العمل الأولى