الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الميكروفون واللافتات والإسلام الجديد ... وأنا ( الحلقة الأولى )

خالد الكيلاني

2017 / 5 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


غادرت مصر في نهاية عام 1991 وعدت أوائل عام 2001 في تغريبة طالت حوالي عشر سنوات ، صحيح أنني غادرتها وكانت الأحوال كلها تتجه إلى سيادة وتكريس عصر الفوضى والبلطجة والعشوائية ، بالتوافق والاتساق مع فهم مغلوط للدين أودى بنا إلى ما نحن فيه الآن ... وقد لاحظت هذا الأمر في الأجازات ، لكنني عندما عدت نهائياً فوجئت بالكارثة .

البداية كانت في إحدى الأجازات السابقة على العودة النهائية ، وكان شقيقي ينتظرني بسيارته في المطار لنتجه إلى منزل الأسرة في السويس ... لاحظت في منتصف الطريق ( في الجزيرة الوسطى ) لافتات كبيرة مثبتة على قواعد إسمنتية ضخمة تحمل أدعية وآيات قرآنية وأسماء الله الحسنى ، بدلاً من اللافتات الإرشادية للمسافرين الموجودة في كل الطرق السريعة في العالم ، فسألت شقيقي ما هذه اللافتات : قال لي كما ترى آيات قرآنية أقامها الجيش ، قلت له : ولكن هذا يسمى في القانون " الدومين العام " ، وأنت تعرف كمحامي أن الدومين العام هو ملكية عامة للشعب ، وهذا الشعب به مسيحيين ومسلمين ، فهل يسمحون بوضع آيات من الإنجيل ؟ ... نظر لي شقيقي ملياً ، وكنت قد غادرت مصر وهو في بدايات حياته العملية كمحام ، وقال : فعلاً ده إنت زي ما بيقولوا عليك " علماني " .

في اليوم التالي لعودتي النهائية استيقظت في السادسة صباحاً - كما تعودت في الخارج - وتناولت إفطاري ، وكان الجميع نائمون ، وخرجت لأبحث عن أقرب مقهى لأتصفح عليه جرائد الصباح .
وجدت مقهى شيك في شارع الجيش ( الشارع الرئيسي في مدينة السويس ) ، وكان خالياً تماماً سوى من جرسونات المقهى ، ولاحظت جهاز تليفزيون كبير مفتوح على قناة من القنوات الخليجية التي تذيع القرآن طوال ال 24 ساعة ، وكان صوت التليفزيون عالياً جداً ، وكذا لا تعجبني طريقة القراءة الخليجية للقرآن ، بحيث لم أستطع التركيز في القراءة ، فانتقلت للطابق الثاني في المقهى .
ولكنني وجدت أيضاً شاشة كبيرة جداً مفتوحة على نفس القناة وبصوت أعلى .
لم يكن في المقهى كلها في هذا الوقت المبكر من الصباح زبوناً غيري ، فناديت على أحد الجرسونات وسألته : هل هناك زبون غيري الآن في هذا المقهى ؟ ، قال : لا ، قلت له فلماذا تذيعون القرآن هكذا بصوت عال هنا وفي الطابق الأسفل ، ولا يوجد زبائن يطلبون إذاعة القرآن ؟ !!! .
نظر لي الجرسون بذهول ولم ينطق لبرهة ، ثم قال : نحن نذيع القرآن لأنفسنا في المقهى طوال النهار إنت إيه اللي مزعلك ؟ .
قلت له قبل أن يذهب ذهنه لأشياء أخرى : على فكرة أنا مسلم وإسمي الأول هو محمد ، واعتراضي هو أولاً على هذا الصوت العالي جداً ، وثانياً على إذاعة القرآن في مقهى سوف يمتليء بعد قليل بمن يتحدثون بصوت عالي ، ومن يلعبون الطاولة والدومينو وربنا قال " وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " ، وأخيراً فأنا بصفتي الزبون الوحيد في المقهى وفي هذا الطابق ، لم أطلب منك تشغيل تليفزيون من الأصل .
نظر لي الجرسون بقرف شديد وقال لي : إحنا مشغلين القرآن لينا طول النهار مش للزباين علشان احنا مسلمين .
علمت أنه لا فائدة من مناقشة هذا الجاهل الذي يعتبرني أتيت من المريخ ، فلملمت جرائدي وأوراقي ، وغادرت المقهى عائداً لمنزل الأسرة ، وكان أبنائي وزوجتي قد استيقظوا مبكراً كما تعودنا في سنوات الغربة .

تلك كانت الأزمة الأولى التي واجهتني بعد عودتي ، أما الأزمة الثانية فكانت كيف يمكن أن يتقبل أطفالي الصغار الذين تربوا وكبروا في مدينة لم تكن تسمع فيها صوت كلاكس حتى ولو لمرة واحدة في الأسبوع ... كيف يمكن أن يتعودوا على هذا الضجيج وتلك الفوضى والعشوائية .
كانوا صغاراً جداً ولا تتسع مداركهم لشيء ( 6 سنوات و 4 سنوات ) ، ويتكلمون العربية بالكاد ، فأخذتهم ( الولد والبنت ) إلى مقهى شعبي في منطقة الأربعين بالسويس ، وكانوا ينظرون بدهشة لهذا الجو المحيط بهم ، وكأنهم في أدغال إفريقيا ، ففاجئتهم بالسؤال : طبعاً يا ولادي بلدنا زحمة ، قالوا نعم يا بابا ، وأضفت : وفيها تراب ودبان والناس صوتها عالي ، قالوا أيوه يا بابا ، قلت لهم ولكنها بلدنا وعلينا أن تعود على الحياة هنا .
حاضر يا بابا .

كنت وقتها أسكن في شارع هاديء جداً وصغير جداً في منطقة هليوبوليس بمصر الجديدة ، وفوجئت بأن هناك مسجداً أقيم أسفل إحدى العمارات الحديثة التي أقيمت على أنقاض فيلا أنيقة على بعد أمتار قليلة من شقتي ، وأن ميكروفونات المسجد معلقة على عدة بلكونات في عدة عمارات ، ولا يكتفي القائمون على المسجد بالآذان في الميكروفون ، ولكنهم يقيمون ويؤدون الصلوات الجهرية ( الفجر والمغرب والعشاء ) كاملين في الميكروفون .

وآتى بعدها شهر رمضان ، وكانت صلاة التراويح تستمر حتى الثانية عشرة ليلاً ، ولا تستطيع أن تتحدث حتى مع أبنائك سوى بالصراخ لكي يسمعوك ، وبالطبع لا تستطيع عمل مكالمة تليفون ، ولا متابعة برنامج أو مسلسل في التليفزيون .
كنت مواظباً على الصلاة في المسجد كلما استطعت ، وأصبحت وجهاً مألوفاً لدى القائمين عليه ، وفي يوم من الأيام ، وعقب صلاة الفجر انتحيت بالإمام جانباً وسألته : ما هي الفائدة يا مولانا التي تعود علينا من إذاعة الصلوات وخطبة الجمعة في الميكروفون ، ولماذا لا نكتفي فقط بالآذان ، فمن الناس من هو مريض ويحتاج للراحة ، ومنهم من لديه عمل في الصباح الباكر ويحتاج لقدر من النوم ، ومنهم الطلبة الذين يمنعهم الصوت العالي عن التركيز في مذاكرتهم .
نظر لي الإمام شذراً وكأنني كافر أو كأنني شخص أتى من المريخ وقال : أتريد منا أن نمنع كلام الله عن الناس ، فقلت له : ولكن الناس لم يطلبوا منك ذلك ، ومن يريد أن يستمع لكلام الله فلديه ألف وسيلة لذلك لا تؤذي غيره ، ثم هل خطبتك يوم الجمعة هي كلام الله ؟ .
حسم أحد الجالسين بجوارنا الحوار وقال : الأستاذ يا مولانا صاحب صنع الله إبراهيم ( كان الروائي الكبير صنع الله إبراهيم يسكن في الجهة المقابلة بعد عمارتي بعدة عمارات ، وكنا نُشاهد ونحن نمشي سوياً في الشارع ) ، ولأن صنع الله إبراهيم مسيحي فهو كافر بالنسبة لهم ، وصداقتي له تعني أنني كافر مثله .

بعدها بفترة كان في زيارتي صديق يعمل ضابطاً بمباحث أمن الدولة وقتها ، وأثناء الزيارة أقيم لصلاة العشاء فلم نعد نستمع لبعضنا البعض وتوقفنا عن الكلام ، ولما لاحظ صديقي أنني أتأذى من هذا الوضع ، ضحك وقال : إحمد ربنا إنهم لم يضعوا لك الميكروفون في البلكونة ، وحكى لي أنهم وضعوا له الميكروفون في بلكونة شقته بالطابق الرابع بحي السفارات في مدينة نصر .
وعندما سألته : وكيف توافق على ذلك ؟ : قال لي : أنا بالذات لا أستطيع أن أعترض فأنا عقيد في أمن الدولة ، وبالنسبة إليهم واحد كافر ، ومش ناقصين مشاكل .

كان لدي هاتفين محمولين أتيت بهما من الخارج ، ويحتاجان إلى إصلاح .
وصف لي أحدهم محل خلف ميدان الأوبرا بالقرب من العتبة ، كان المحل في شارع صغير به زاوية صغيرة جداً ، ذهبت بالهاتفين فطلب مني الفني العودة بعد ساعتين ، كان قد أُذن لصلاة العصر فدخلت وأديت الصلاة جماعة في تلك الزاوية وخرجت لأجلس على مقهى مقابل للزاوية ، وفوجئت بأن أحداً ما يلقي " درس العصر " من خلال ميكروفونات الزاوية المنتشرة في الشارع الصغير كله ، وفضلاً عن الترهات التي كان يقولها ذلك الأحمق ، وكمية التكفير لكل المجتمع التي امتلأ بها " درسه الديني " ، فقد كنت لا تستطيع أن تميز بين صوته وأصوات الباعة الجائلين وكلاكسات السيارات وضحكات رواد المقاهي وألفاظهم وشتائمهم السوقية لبعضهم البعض .
ناهيك عما شاهدته بعدها عندما ذهبت لبعض الأقارب في حي إمبابة العشوائي من لافتات الحجاب يا أختاه ، والأحاديث الغير صحيحة التي تملأ الشوارع ، والميكروفونات التي تنعق طوال اليوم بتكفير المسيحيين وكل المختلفين معهم .
( يتبع في الحلقة القادمة )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا