الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحِبّونا دون شروط

نادية خلوف
(Nadia Khaloof)

2017 / 5 / 24
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


لا نعرفُ من أينَ يأتينا الحبُّ. يخترِقُنا على الدوامِ ليزيلَ ذلكَ الرمادَ من قلوبنا. ليسَ الحبُّ هو عشقٌ وغرامٌ فقط. يكونُ الحبّ شعوراً بالرحمةِ والتعاطفِ أحياناً إلى درجةِ الاندماجِ بين كائنات ليس بالضرورةِ أن يكونوا رجالا ونساء. أتحدّثُ عن تجربةٍ خاصة لم أسجّلها في دفترِ ذكرياتٍ .
شعرت أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ أعني " المتوحدون" . . .
قرأتُ عن مرضِ التوحدِ كثيراً لأعرفَ إن كان لدي اليومَ أو فيما مضى طيفٌ منهُ. عرفتُ قبلَ أن أراهم أنّهم لا يجيدون التواصلَ ، لهم عالمهم الخاص. نقطةٌ اعتقدتُ للحظةٍ أنها مشتركةً بيني وبينهم إلا أن التقيتُ بعليّ. الطفلُ المتوحدُ العراقي الذي كانت عائلته تقيمُ في الشقة المقابلةِ لشقتنا . التقيتُ بآشلي في الحديقةِ مع أمّها وهي هنديةٍ متوحدةٌ أيضاً. ارتبطتُ بهما بحبٍّ أقربُ إلى الفضولِ لمعرفةِ حالهم .
عندما توفي زوجي اختلطتْ علي الأمورُ .
كانَ قد مضى على زواجنا أكثرُ من خمسةٍ وثلاثين عاماً معَ روتينٍ يومي لشربِ القهوةِ ، أو ساعةَ تناولِ الغداءِ لسببٍ ما اضطرّرنا إلى تغييرِ عاداتنا. غادرنا أماكننا. ربما كانَ الوضعُ قاسياً على زوجي أكثرَ مني، قرّرَ الموتَ . لم ينتحرِ طبعاً. ماتَ بجلطةٍ قلبية . لازلتُ أعاتبُه لماذا هربَ من الحياةِ، ولا زلتُ أعتقدُ أنّهُ فعلَها عن سابقِ إصرارٍ وتصميم .
أنكرتُ ما جرى، لم يكنْ حزناً بقدرِ ما كانَ إعادة نظرٍ في الماضي. لم أتذكرْ من كلِ حياتِنا إلا لحظةَ اللقاءِ ولحظةُ الوداع. اختفتْ الذكرياتُ بلحظةٍ، ورأيتُ أنّ العمرَ مزحة ً ثقيلة لم أتقبلها . كنتُ سأقولُ لهُ الكثيرَ من الأشياءِ في تلكَ الليلةِ التي رحل فيها. هاتفهُ كانَ يرنُّ بولا يجيبُ ، بقيتُ أحاولُ حتى الصباحِ ، عرفتُ أنّهُ قد رحلَ قبلَ أن يعلمَني أحد، في السابعةِ صباحاً تواصلت مع صديقتي . قلتُ لها : اكسروا بابَ المنزل . إن لم تجدوه اكسروا باب المكتبِ. وجدوهُ ومفاتيحه في يدهِ في مكتبِه الذي كان يمثّلُ لهُ الكثير . أبى مكتبُ المحامي أن يسمح له بالرحيل .
انسحبتُ إلى عالمي الداخلي ،كنتُ مستعدةً للموتِ. أتعبتني الحياةُ كثيراً. المسؤولياتُ لازالت في أوجها . كيفَ سأواجهُ كلَّ شيءٍ ؟ لم أكنْ قويةً كما اعتقدَ البعضُ. بقيتُ وحيدةً في مكاننا الجديد " الإمارات" أذهبُ إلى العملِ وأعودُ فأرى المنزلَ الصغيرَ يضيقُ بي . ألبسُ ثيابي ثانيةً . أذهبُ إلى حديقةٍ صغيرةٍ صادقتُ نخيلَها وعصافيرها .
في الحديقةِ الصغيرةِ تعرفتُ على "آشلي" الطفلةُ المتوحدةِ وأمّها . أصبحتُ أتبادلُ بعضَ الأحاديثِ معَ الأمِّ. لم تنظرْ الفتاة إليّ ولم تقتربْ مني . راقبتُها، وجدتُ نوراً مطفأ في عينيها وفي داخلها . تحاولُ الهروبَ من كلّ ما هوَ من صنفِ البشرِ. تداعبُ القططَ والكلاب . تبكي عندما أحاولُ الاقترابَ منها بكاءً مراً . لم تكنْ عنيفةً لكنّها هاربةٌ . أما عليّ فعندما يغضبُ يمكنُه أن يكسّرَ العالم مع أنّه في السادسةِ . هو غاضبٌ من كلّ أمرٍ في هذهِ الدنيا .
سيطرَ على ذهني حبٌ جديدٌ .
بدأتُ أفكرُ بأن يكونَ لي تجربة مع آشلي أو علي . اعتقدتُ أنّ الموضوعَ صعبٌ . مع الزمنِ طلبتُ من أم علي أن أجربّ تدريبه بعضَ الوقتِ في ساعاتِ فراغي . انضمّتْ إلينا آشلي فيما بعد. كانَ عالمي مليئاً بهما ،في كلّ يومٍ أقرأ عن التوحد .،أراسلُ المراكز . عرفتُ أنّه مرضٌ غيرُ معروفِ الأسبابِ . بعضُهم يقول سببه اللقاح وآخر يعزيه إلى كثرةُ المعادن، لم يتوصلُ الطبّ إلى السببِ
أم آشلي كانتْ تعرفُ هذا . تحاولُ أن تدعمَ ابنتها . أما أم علي فكانتْ في حالةِ إنكار للحالةِ .
كانت التجربة صعبةً ، من أصعبِ الأشياءِ قيادة الطفل المتوحدِ . فعلي عنيفٌ جداً، وقيادته تحتاجُ إلى تثبيتِ جسده أمامي لجعله ينظرُ في عينيّ وهذا يحتاجُ لقوةٍ بدنيةٍ . كنتُ عندما أمسكُ يديهِ أشعرُ أنّني أمامَ ماردٍ، في كثيرٍ من الأحيانِ كانَ يفلتُ ويدورُ حولَ نفسِهِ وعلى رؤوسِ أصابعِ قدميه، ثم يجلسُ في النافذةِ ويختبئ خلفَ الستارةِ ينظرُ بعينٍ واحدةٍ إلي عندما أكونُ لا أنظرُ إليهِ . أما آشلي فلا حياةَ لمن تنادي . المهمّ أن تضعُ رأسها بينَ ذراعيها وتختبئُ . رأيتُ أنّني أحاولُ القيامَ بمهمةٍ مستحيلةٍ . كدتُ أفشل وأعتذرُ عن المهمة التي تبرعتُ بها والتي علّقَ عليّ الأهلُ من خلالها بعضَ الأملِ .
أكملتُ المهمةَ لأنّني أرغبُ في معرفةِ جوابٍ على سؤالٍ أسألهُ لنفسي . لماذا ينسحبُ البشرُ إلى داخلهم ؟ ولماذا خلقَ المتوحدونَ هكذا قبلَ أن يعرفوا قسوةَ الحياةِ ؟
بعدَ أكثرِ من ستةِ أشهرٍ على المحاولةِ تطوّرَ الأمرُ قليلاًن أصبحتُ أعلّمهما جملاً بسيطة . مثلْ " أحبوني " كي يقولوها على مسامعِ أهلِهم حتى وصلتُ إلى جملةِ" أخرجوني من عالمي "
تعلّقَ الطفلانِ بي كثيراً . تركتْ العائلة العراقية المنزل .هاجروا إلى كندا، وقبلَ أن يرحلوا جلبت لي الأم زجاجةَ عطرٍ" من مركزِ الدرهمين " هديةً . لم أعرفْ أخبارهم فيما بعدْ ، أما الأمّ الهنديةُ فاستمرت علاقتي بها. تطورتْ آشلي أكثر من علي قليلاً بسببِ اهتمامِ والدتها .اهتمتْ والدتها بكلّ النصائح حولَ الطعامِ والعاداتِ . هي أيضاً جلبتْ لي هديةً ذهبيةً ثمينة، لم أقبلْها في البدءِ . قلتُ لها لا أعملُ بمقابلٍ . أكّدتْ لي : أنّه ليس مقابلاً بل امتناناً. انتقلت عائلة آشلي إلى دبي ، واستمرت ترسلُ لي رسائلَ ،كما أنّنا نلتقي أحياناً .
أحببتُ هذينِ الطفلينِ، و عطفتُ عليهما، هما أيضاً أحبّاني .في إحدى المرات كنتُ أمشي قرب بحيرة الشّارقة ،فإذ بسيارةِ أم علي تقفُ . قالَ لأمّه : الأستاذة تبكي ، نزلو أمسكَ بيدي ، قبّلته، ومضيتُ. لم أكنْ أبكي طبعاً . فقطْ كنتُ أمسحُ وجهي من العرقِ فتخيلَ أنّني أبكي .
حكايةٌ حقيقيةٌ غيّرت الكثير في حياتي ،فذلكَ النورُ المطفأ في عيونِ المتوحّدِين لا يشبهُ هروبنا . في عيوننا بريقٌ للأملِ أما هم فقد رحلَ منهم هذا البريق، لن يعودَ أبداً ، ومع عنايةِ الأهلِ الجادةِ والتزامهم بالمحبةِ قد يستطيعُ المتوحدُ العيشَ بأقلّ قدرٍ من الألمِ .
لن أتمكنَ من إعادةِ هذهِ التجربة . كانتْ تجربةَ حبّ غيرُ مشروطٍ بيني وبينهما . قد أكونُ أثّرتُ فيهما بشكلٍ إيجابي آشلي الآن شابة ، وأعتقد أنها لو رأتني لعرفتني.،وأستطيعُ أن أحدّثها ببعض الأشياء .الفرقُ بيني وبينهم أنهم :
انسحبوا إلى عالمهم .،انطفأ نور الحياةِ في عيونِهم ، لا يهمهم ما يجري ولا يريدون أن يروه . نحنُ أيضاً ننسحب ونهزمُ . لكنّ نورَ الحياةِ يبقى في عيوننا والشعلة الأبدية تملأ أجسادنا عندما تكونُ الظروفَ ملائمةٌ لنانتألّقُ ، لا نحتجُّ على العالم إلا إذا رفضنا هذا العالم. أما هم فخلقوا ومعهم عالمهم الداخلي .
أمتنّ للحياةِ في كلّ يومٍ جديدٍ أعيشه. كانَ هذا شعوري عندما كنت ألتقي بهما . لا نعرفُ قيمةَ الحياةِ إن لم نرَ من يتألمُ أكثر منّا . قصةٌ قد لا تتكرّرُ معي ، لكنّها منحتني القوةَ للاستمرارِ في الحياةِ والامتنانِ لها في فترةٍ عصيبةٍ من حياتي .
ولازلتُ أشعرُ أنّني أشبههم في كثيرٍ من الأشياءِ !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الولايات المتحدة و17 دولة تطالب حماس بإطلاق سراح الرهائن الإ


.. انتشال نحو 400 جثة من ثلاث مقابر جماعية في خان يونس بغزة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن قصف 30 هدفا لحماس في رفح • فرانس 24


.. كلاسيكو العين والوحدة نهائي غير ومباراة غير




.. وفد مصري يزور إسرائيل في مسعى لإنجاح مفاوضات التهدئة وصفقة ا