الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه ، رواية ، الجزء الثامن

محمد شودان

2017 / 5 / 27
الادب والفن


وقف عند الباب كاليتيم في خيمة العزاء، أو كأنه قد فقد شيئا غاليا، راقب إدريسَ وهو يصحو ببطء وكأن شيئا لم يحدث. لقد طغى على أحمد الإحساس بالذنب؛ فكان وقع الحادثة قويا عليه، لكن إدريس لمْ يُبدِ أي ردة فعل تجاه ما وقع، بل قال وهو يتثاءب:
ــ بالنسبة لي، لم يحدث شيء، فقط عجَّلتْ هي بما كنت أؤجله أنا، وأنا نفسي لم أكن مرتاحا هنا، ولطالما همَّني أن أقضي الشتاء في هذا الغار.
ــ هذا الغار قد احتضننا يوم كنا دون مأوى، أتحدث عن نفسي شخصيا، وأظنه ينطبق عليك أيضا، يجب أن نعتذر لأمي طامو، مهما كان حكمها الأخير، وهذا ما أنا عازم على فعله، الآن.
قال هذا وانصرف، وتأثر إدريس كثيرا بطيبة الرجل؛ أقلها ما زال في الأرض ما يستنزل رحمة الله.
سمع من غرفته صراخ مي طامو وتذمرها، فأيقن أن صديقه عندها، ومن دنو مصدر الصوت أيقن أنهما في المطبخ؛ كان صوتها عاليا ومجلجلا، أما صوت صديقه فلم يكن يسمع منه إلا هسيسا غير واضح، وهذا ما بلغه من كلامها:
ــ طعنتموني في ظهري، وقتلتم ثقتي فيكم، أنتم لا تستحقون
ــ ....
ــ هل تظنني غبية إلى هذا الحد؟
ــ ....
ــ وأنت أيضا! "الفقيه الذي انتظرنا بركته، دخل الجامع ببلغته".
ــ ....
ــ قم، اترك قدمي، كدت تسقطني، أأنت مجنون؟.
ــ ....
ــ لست أُمًّا لأحد، وبيتي ليس ماخورا.
ــ ....
ــ أخبر صديقك أن أمامه أسبوعا كاملا، أو يزيد، ويوم الاثنين المقبل سأحرق أي شيء أجده في غرفتي.
قام من مضجعه، وبعدما غسل وجهه أخذ سلعته ليخرج من غرفته قاصدا إلى السوق، لكنه تركها عند الباب وعاد، توقف قليلا، ثم تقدم نحو المدخل الذي يفصل الدار الداخلية عن البيوت المخصصة للكراء.
استجمع قوته ودخل؛ كان باب المطبخ أمام المدخل مباشرة مشرعا، فرأى أول ما رأى صديقه أحمد جاثيا على ركبتيه، ومي طامو واقفة.
حزمت رأسها بمنديل ملفوف ما إن أبصرته وصاحت فيه:
ــ أغرب عن وجهي، ولا تدنس بيتي أكثر!
ــ أنا سأخرج يا مي طامو، ثقي بي، ولن أزعجك بعد اليوم أبدا، أقسم لك بفضلك علينا، ولن يضيع لك من ناحيتي خاطر ثانية، وهذا كله فوق اعتذاري واعترافي بالخطأ، ولكن، فقط ودَدْتُ لو تسامحيني؛ سامحيني ليس لأبقى، بل لأرتاح من خطيئتي في حقك، إنه الشيطان، والإغراء يا أمي هو عمل الشيطان الذي أخرج به جدنا من الجنة، فما بالي أنا؟ كيف لي ألا أخطئ؟؟
ــ لديك أسبوع واحد، ولو كان غيرك، لو لم تكن أنت يا من اعتبرتك ولدي الذي لم ألده، ذلك الولد النجيب الذي لا يشبه في شيء هؤلاء التائهين في دروب الضياع، لو كان غيرك لكان مطرودا، وأغراضه في الخارج الآن.
أسرع مقبلا نحوها، فأخذ يدها وقبلها من الجهتين، نزعتها منه وهي تضربه على رأسه وتقول:
ــ على نفسك جنيت يا أكبر شيطان.
رجاها، والدمع من عينيه أنهارا أن تسمح لأحمد بالبقاء، فقد رأى في عينيه إحساسا بالضياع.
كان أحمد مستسلما في برْكته تلك، فقد كان كمن ينتظر قضاء قاصما للظهر، ولا رادَّ له، تلك الصورة التي بدا عليها مزقت قلب إدريس فألح في الطلب؛ قبل يدي العجوز مرارا، وبعد تردد وافقت على بقائه شريطة ألا يأتي منه في المقبل من الأيام فعل شائن.
هكذا اتفق الجميع، ولو كان في المطبخ ذلك الصباح غير الثلاثة، لأدرك من نظرات مي طامو، ومن نبرة صوتها أنها قد رغبت، من أعماقها، ألا يخرج إدريس من عندها، لكن أنفتها منعتها من البوح بذلك، أو من التراجع عن قرارها، والدليل الثاني على ذلك، أنها لم تصرفهما من عندها في الحال، وقد كان بوسعها ذلك؛ إذ كان يكفيها أن تدعو المسمى "بيدرة" وهو ابن جيران لها، قضى أكثر أيام حياته في السجن، بل وأكثر من ذلك، أنها قد دعتهما إلى فطور شبه عائلي ذلك الصباح نفسه.
ساد الصمت حين كانت السيدة منشغلة بإعداد الشاي، وحتى لما وضعت الصينية فوق الطاولة القصيرة، لم يكسر ذلك الصمت الرهيب سوى وقع خطاها من مكان إلى آخر.
توسط الصينية براد شاي من الحجم المتوسط، وحوله حامت أربعة كؤوس تشعشعت بالمشروب الساخن والساحر.
اجتمعوا على الفطور كأسرة متناغمة، وكأي أم مع صغارها خدمتهم بتفان وصمت ورضى. لأول مرة، كان أحمد يغمس الخبز في الزيت صباحا، أقلها منذ عرفه إدريس.
ــ ما أطيبك يا أمي طامو! قال إدريس، ثم أردف: لكم تمنيت، في لحظتي هذه، لو قضيت أشهري الأولى في ذلك الرحم.
رفع عينيه نحو وجهها ليتبين وقع كلامه، فوجدها واجمة، لم تجبه، وفي ظل الصمت أعادت الكأس الذي رفعته لتوه إلى مكانه من الصينية؛ ولم ترشف منه بعدها أبدا، بل ظلت تلوك ما كان في فمها من خبز إلى أن غادرا من عندها.
أخبره أحمد في الطريق أنها لطالما عانت من العقم، وأن كلامه ربما أثر عليها، وبعد ذلك بأيام، سيعلم أنها قد عانت في شبابها من السرطان؛ المرض الخبيث الذي أصاب رحمها، وأن تشخيص إصابتها وافق فترة حملها، ثم إن الأطباء قد خيروها بين العلاج والحفاظ على جنينها، فقاومت المسكينة ثلاثة أشهر، لكن حالتها تفاقمت لأنها كانت في مراحل متقدمة من المرض، ما اضطرها إلى التضحية بالذي سمعت صوت دقات قلبه عند الطبيب يوما، وبعد شفائها ما عاد بوسعها الإنجاب أبدا، فطلقها زوجها.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا




.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف