الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دماء تصرخ في البريّة

سامي عبد العال

2017 / 5 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قيل عن المسيح إنَّه: "صوت صارخ في البرّية” (متى1:3-3). البرية التي تحمل صمتاً لا حدود له، صحراء العالم في كلِّ مكان. لكن يبدو أنَّها تخضبت بالدماء. الرمال دماء، الجبال دماء، الوديان دماء، المدن سكنتها أفاعي الجهاد الديني. إنَّ أبشع الجرائم هي ما تتمُ عن قصد وتحمل مبرراتَّها بأسبابٍ تُطهِرُ فاعليها لمجرد الاعتقاد بذلك. وأية جرائم تجري على خلفية عقيديةٍ من هذا النوع. ولهذا يمثل الارهاب ضرباً من باثولوجيا اللاهوت التي تكشف طبيعة المعتقدات القاتلة. وبصرف النظر عن آثارها تعدُّ مدمرةً من حيث المبدأ. لأنها تظهر دون انذارٍ كما أنها تعتبر المقدمات هي النتائج في دائرة مغلقة لا تنتهي.

فالقتل مازال مستمراً على الهوية الدينية. ليتحول صوت المقدس إلى نفير الرصاص. واعتبر جهاديو الاسلام أن صليل السيوف هو الحضور الإلهي في مستواه الأعلى. لكم رددوا أنّ أفضل أفعال المؤمنين ضرب أعناق الكفار بالسيف. هكذا من أنفسهم: يحددون الضحايا ويخططون وينفذون بقلب بارد منحط.

قتل الأطفال المسيحيين بصعيد مصر لا يدعو للأسى فقط بل إنَّه الجنون بعينه. لقد فقد القاتلون إنسانيتهم. خرجوا بلا عودة من الانتماء إلى الحياة ولم يستحقوا حتى اعتبارهم بشراً. فالحيوانات تقتل لتأكل ليس أكثر. وإذا شعرت بالشبع تغادر مسرح الافتراس. تهرب من مجرد كائن قادم ولو كان شبحاً. ببساطة لأنها حيوانات تتجسد فيها الحياة التلقائية.

بخلاف الإرهابيين الأفظاظ، أجلاف الصحراء، غيلان الهوس بالموت. قتلوا بغِلٍّ شيطاني تحت عناوين دينية. وإذ أدركوا أن ضحاياهم أطفال أمعنوا في تصفيتهم بالرأس مباشراً. وفتكوا بالنساء بعد تجريدهم من المصوغات والحلي والأشياء الثمينة.

أيُّ إله هذا الذي يدعو أتباعه للسطو على ما يملك ضحاياه؟ سرقة واغتيال وتنكيل وتمثيل وإحراق. وتناقلت الأقوال أنهم أخذوا في تصوير القتلى بصور بشعة. لكي يتم توثيقها وتحميلها بأحد المواقع هنا أوهناك. وكأنهم يثبتون انحطاطهم أكثر وأكثر عندما ترفع الصورة شعارات دموية. وتؤكد أنهم قتلة يتربحون من الدين بغباء مقيت. هل يحتاج الإليه إلى العبور نحوه على جثث وراء جثث؟!

لقد باتت أدمغة الارهابيين خاوية من أية فكر مفتوح. يطيعون أوامر أمراء الجماعات بلا تمييز. ساروا خلف نصوص التوحش التي تغص بها فتاوى الجهاد والأحاديث النبوية وكتب الفقه وأضابير التراث. وما لم تغربل وتدمر تلك النصوص ستظل تنتج ذهنيات فارغة تسفك الدماء.

بالإمكان القول إنَّ الدماء هي الشيء الوحيد الذي حافظ على تناسل هذه الجماعات الاسلامية. لأنَّ فكرة جهاد الكفار واستهداف المخالف دينياً يعطي أكبر قدر من الأعمال الهمجية. كما أنه يبرر أية أخطاء سواء في الممارسات الدينية أو في حقوق الآخرين. ولا يفوت الفرصة دون الاحتشاد والاستنفار تحت رايات الحرب. ويجتذب إليه كل من هب ودب برائحة الموت. وهذا الارتزاق لا يتم عن طريق التمويل وحسب. إنما يجعلوا الإيمان بالإله نوعاً من الارتزاق أيضاً. عندما يعتبرون أن قتل المسيحيين باباً لدخول الجنة والتنعم بالحور العين ومعاقرة الملذات الحسية.

اختار الإرهابيون توقيتاً مقدساً لارتكاب جريمتهم....عشية حلول شهر رمضان. كإشارة إلى احياء فكرة الغزو والجهاد في أيام الصيام. وتذكير المتابع بأنَّه مناسبة لمسخ الديانات المخالفة للإسلام. فبدلاً من صوت البرية تأتي نبرات الشهادة والتكبير. نُقل عن الناجين أن الارهابيين طالبوهم بإعلان الشهادة قبيل الاجهاز عليهم. في محاولة لوضع الأثر فوق الأثر. وطمس الإيمان المسيحي السابق بطمي العنف اللزج.

ولم يكن التوقيت وحده مقدساً بل كانت رمال الجريمة لها الصفة نفسها. فالدرب الذي أوقفوا خلاله حافلة الضحايا كان مؤدياً إلى دير الأنبا صموائيل في كبد الصحراء. ولم يتورع الارهابيون عن قطع طريق الأطفال صوب الله. فالعبادة والطقوس في جميع الأديان لها مهابة وحصانة ذاتية. بحكم أنها تخص أصحابها دون سواهم. كيف لمن لا يؤمن بها أن ينتهك أية خصوصية بل يقتلها؟!

الدماء هنا دماء المسيح، فالله في المسيحية لا يوجد خارج الإنسان. إنه الحب الذي يوجد حيث يوجد إنسان. وأحد الطقوس الكنسية الرمزية أن يتم أكل الخبز المغموس بدم المسيح فيأكله المؤمنون. كناية عن توحد الإله بجسد أبنائه وسريانه بدمائهم. أنت الرب – مهما تكن- لا أحد غيرك. وإذا تمَّ الاعتداء عليك فلابد أنه اعتداء حاصل بحق الرب. كل من يقتل آخر فقد قتل رباً بشكلِّ أو غيره. من هنا يقال في الثقافة الشعبية: فلان قتل فلاناً... وعليه فإن دماءه في عنقه. ومن قتل يقتل ولو بعد حين. من الذي ضمن هذا التصور الشائع العام؟

إن دما الأطفال بموجب دم المسيح تحولت إلى أصوات تصرخ في كل مكان. كيف يهرب من صرخاتها من ارتكب هذه الفعلة النكراء؟! وستظل الدماء لعنة تطاردهم أينما حلوا. وستعتبر بحد ذاتها دليلاً على خسة الفاعلين. فقد استفردوا بأناس عزل لا يمتلكون وسائل للدفاع عن أنفسهم سوى الحب. أطفال ذاهبون إلى الرب بلا سلاح، بلا كراهية.

إحدى قريبات الضحايا لم تلعن الإرهابيين بل قالت: ربنا يهديهم، ونتمنى أنْ ينور الله بصائرهم ليعرفوا أنهم على خطأ. وأننا لا نريد سوى السلام والمحبة. هكذا كان الصوت الداخلي خالصاً بأصله كما تصور المسيحية.

أما فضائيات الجزيرة والعربية وسكاي نيوز وسواها فقد جعلوا من أصوات الدماء صراخاً لشياطين التبرير الاعلامي. كل بحسب موقفه يشعل الحروب الافتراضية التي تنشب بين الدول والمخابرات. فهم أبواق صدئة لمشايخ الممالك والإمارات القائمة على القتل والمؤامرات. الجزيرة اعتبرت دماء الأطفال أريقت بسبب الدولة المصرية. وأخذ مذيعوها يمؤون بالأخبار والأحداث كقطط تصرخ في وجه بعضها البعض. أصيبوا بالعماء والعته بفضل وظائفهم تحت أحذية أمراء الديوان القطري. أكلهم الجهل من أصواتهم الجوفاء التي تردد بخواء أخباراً مفبركة وقصصاً مختلقة حول دول الربيع العربي.

قناة الجزيرة تحديداً تمثل صوت الشيطان أفضل تمثيل. نبراتها تتشفى في الضحايا ما بين تنغيم النبرات ودندنة العبارات والسخرية التي تفضح قائليها. ولا تُفلت الاخبار دونما إلقاء التبعية على معارضيها. لا تقدم تحليلاً واحداً بل ترويجاً لأفكار الإرهاب بصورة معكوسة. فإذا كان الإرهاب يقتل ويدمر ويستأصل المسيحيين، فإن الجزيرة تعطيه السند الذي تعدَّه موضوعياً للقيام بأفعاله الإجرامية. ذلك بموازاةٍ مع جرائم حكومتها إذ تمول الارهابيين وتوفر لهم الغطاء الديني والاعلامي لذبح المخالفين وتدمير المجتمعات العربية.

لم تطلق الجزيرة يوماً مصطلح الارهابيين على عناصر القاعدة ولا على داعش ولا على الإخوان. بل استعملت- طوال الوقت- مقولة " تنظيم الدولة" بدلاً من داعش. إنها بذلك تؤسس للقتل باسم الدين وتقدم تأييداً خطابياً للإرهاب. حيث ترسم له الخطط والاستراتيجيات من خلال غرفها الاخبارية.

لماذا تصرخ الدماء في البرية؟ لأنه ما من مجيب هناك. كما أنَّ البلهاء احتلوا مواقع الريادة في كل مكان. لم يتحرك ساكن حزناً على الطفولة المقتولة. وغدت الأصوات الاعلامية نعيقاً فوق الخرابات. لا توجد الجزيرة وما يماثلها إلاَّ عندما توجد خرابة تركها الارهابيون يباباً ودماراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة