الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التيه ، رواية ، الجزء الحادي عشر

محمد شودان

2017 / 5 / 29
الادب والفن


يكتظ السوق أيام الآحاد بالباعة والمشترين فتزدحم ممراته، وفي ذلك اليوم؛ الأحد الأخير من فبراير، كان إدريس جالسا في مكانه رفقة كتابه، كالعادة، لكنه كان وحده، وأمامه قد فرشت بعض الكتب وكثير من الأحذية، وخلف البساط كانت اللوحة معروضة للبيع، متكئة على كرسي أحمد الفارغ، بحيث تواجه المارة.
فتح كتاب شرح المعلقات السبع بين يديه، فتراه يقرأ منه بمثل نبرة من يتهجى الحروف أول مرة؛ يقرأ البيت الشعري فوق، بصعوبة، ويبحث عن معاني الكلمات في الهامش أسفل الصفحة، إلى أن وقف عند البيت حيث يقول امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ولما فهم معنى كل كلمة منه، أبحر في رحلة البحث عن مقاصد الشاعر ومراميه، أحس كما لو كان هو نفسه قائله، فطالما أحس بالقهر الممتد كليل الشاعر، وود لو ينجلي عليه بصباح يسعد به، ولو أن الغد غير مضمون العواقب، لكنه الأمل، والأمل آخر الشرور كما قرأ يوما في كتاب قديم؛ كانت كتب الأساطير والمسرح اليونانية منتشرة في السوق، وقد وجد فيها متعة لا توصف ومنها تعرف أسطورة الخلق اليونانية، وصندوق الشرور الذي أرسلته الآلهة إلى المرأة...
كان غارقا في المعلقة الأولى لما وقف على رأسه شخص رأى ظله عند موقع قدميه، كانت الظهيرة في أوجها ما جعل الظل يظهر قصيرا، ولا يعكس حقيقة صاحبه، رفع عينيه فوقعتا على رشيد.
ذلك الشاب ربع القامة وحسن الأخلاق، مجرد وجوده في السوق خطأ طبيعي في تصنيف الناس حسب أقدارهم؛ شاب خلوق، أسمر الإهاب، ربما اكتسب لون بشرته من كثرة معانقته لشمس البحر التي تلفحه في كل الأسواق والشوارع، وهو رب لأسرة صغيرة، يكدح من أجلهم في السوق، وبين المتشردين؛ لم يرض العمل عند أصحاب المصانع، فهم ـ حسبه ــ مجرد مصاصي دماء لا يجب على الإنسان حتى ذكر أسمائهم كي لا تتسخ الأسامي.
انحنى رشيد إلى أن حاذى إدريس في جلسته، فمد يده مصافحا بأدب، وبعد أن تبادلا عبارات مجاملة خفيفة، بادر بالسؤال:
ــ أخي إدريس، أنت أخونا، كما هو أحمد، وككل هؤلاء التائهين في دروب الحياة، لا يصح أن تحمل الهم وحدك، أخي، يشهد الجميع بخلقك الحسن، والذي لم ولن يساورنا فيه شك، ولكننا حائرون بشأن أحمد، وأنا شخصيا، بالإضافة إلى بعض الحرفيين اقترحنا أن نساهم معك في الأجر.
لقد افتقدنا أحمد في السوق، ولما تفقدناه في غرفته، أخبرتنا العجوز المسكينة أنه مرض أياما، وأنك، جازاك الله خيرا، كنت قائما بخدمته على أحسن وجه، وأنك أيضا قد نقلته إلى غرفتك، وقد حمدنا له ذلك منك، وأثنينا على كرمك وإنسانيتك، فارتاحت النفوس، وعزت مكانتك بيننا، والله على ما أقول شهيد.
لكن أحدهم أخبرنا أنه شاهدكما أول أمس عائدين إلى البيت، وأنه رأى أحمد في حال سيئة.
ــ لو سألتموني عنه لكنت أخبرتكم. نعم، إنه مريض؛ فقبل أسابيع، كثرت شكاويه من ألم ألمَّ بجنبه، ثم تبعه سعال شديد، وصل به ــ في ليال عدة ــ حد الاختناق. لذلك، لازمته أياما وليال، إلى أن قصد المستشفى استجابة لإلحاحنا؛ أنا ومي طامو. وهناك، أشار بسبابته نحو الشرق، في ذلك المستوصف، لم يصفوا له إلا مشروبا مهدئا للسعال وحبات لعلاج الحمى وتخفيف حدة وقعها، كما منعوه من التدخين، ولكنه ،شافاه الله وعافاه، لا يزال مدمنا على ذلك السم، نطق كلمة مدمن بحرقة وهو يمد يده نحو فمه مفرجا بين سبابته ووسطاه.
صمت قليلا، ونظر في وجه رشيد ليتأكد من انتباهه ثم أضاف لما اطمأن لذلك:
ــ لم يُحَسِّن الدواء حاله أبدا، فما زاد مرضه إلا حدة، وعظمه إلا وَهَنا، وإنه كان أكثر ما يشتد عليه المرض ليلا، حتى إنه لم يعد قادرا على تحمل نوبات السعال التي كانت تأخذه لدقائق متواصلة، فلا تتركه حتى تقطع أنفاسه وتمزق رئته فيبصق الدم أحيانا، ولطالما وجدته مهدودا حينما كنت أزوره صباحا.
لذلك ارتأيت نقله عندي؛ حتى أستطيع مساعدته، وخدمته، لاسيما ليلا، وهكذا كان. ثم، في بداية هذا الأسبوع قصدنا مستشفى العاصمة الكبير، وأثناء عودتنا، ربما رآنا صديقك.
اعتذر رشيد عن قطع حديثهما، على أن يواصلاه بعد خدمة زبون كان عند بساطه، وما كان ليذهب إليه لو لم ير منه إلحاحا في معرفة الثمن.
تتبع إدريس بعينيه حركات أيد رشيد وهو يفاوض زبونه، فنسي الكتاب ولاذ بالصمت. بعد برهة، عاد رشيد معتذرا من جديد، أما عينا إدريس حين عودته، فكانتا مركزتين على اللوحة، وقال مسترسلا:
ــ طلب منا الطبيب صورة بالأشعة لصدره، ولأجل ذلك قصدنا المختبر العمومي، ولأنه عمومي، ثم فرك سبابته بإبهامه في وجه رشيد للدلالة على الرشوة، وهو يقول:
ــ لا بد أنك تعرف كيف تسير الأمور هناك؛ أعطونا موعدا بعد شهرين، وهل تحتمل صحة أحمد صبر شهرين كاملين؟
ــ يعني أنه يجب أخذه إلى مختبر خاص.
ــ وذلك ما أنا عازم عليه، هل تعلم؟ هذه اللوحة، التي كان يساومني فيها ذلك المجنون، أغلى عندي من أن أبيعها، إنها تمثلني؛ إذ أرى نفسي واحدا من هؤلاء اللاحقين بالمرأة العملاقة، ربما أنا هذا وأنت ذلك، وسيكون أحمد هو ذلك الجاثي على ركبتيه في الخلف، تقودنا هذه المرأة/الدنيا، عارية الصدر، نحو المجهول، لا أفق أمامها، لكنها مقبلة في شموخها...
مكانة هذه اللوحة غالية عندي، وما كنت لأبيعها لو لم تكن حياة صديقي أحمد أغلى. صمت حينا، ثم أردف: "صدقت حرقة عمر بن الخطاب لما قال: لو كان الفقر رجلا لقتلته".
بهذا أنهى كلامه، وزم شفتيه، ثم انزوى كأن لا أحد معه.
ربت رشيد على كتفه، وقام من مجثمه فأزاح اللوحة من مكانها وهو يقول:
ــ اللوحة لن تباع، عينك على سلعتي!
قال هذا وهو يقوم من عنده، ثم توجه مباشرة إلى بائع الأواني في الجهة المقابلة، فأخذ سطلا أسود، وأخرج من جيبه بعض العملات المعدنية فوضعها فيه وهو يصيح في الجميع:
ــ يا حرفيين، يا باعة، يا إخوان... أخوكم أحمد مريض، ويحتاج مساعدتكم، أتتركونه للموت؟ أترضى أنفسكم هذا؟
وما هي إلا خطوات وصيحات، حتى بدأت الأيادي تمتد إلى السطل، والقطع النقدية تتناثر فتؤلف إيقاعا فريدا، فبدا رشيد وهو يدلف بين الجموع كأنه صوفي قد اتحد بالكون في رقصة الوجود، كان صوته متناغما مع حركته، وللحظة لم يكن الشاب الأسمر وحده من يستعطف الناس، بل انضم إليه ثلاثة آخرون، رأى إدريس بأم عينيه هذا التضامن الفريد بين الجميع، الباعة كلهم، والمتشردون، وحتى اللصوص والبغايا، كل ساهم قدر استطاعته، بل وإن منهم من وضع أوراقا نقدية من مختلف الفئات.
تابع إدريس المشهد من بعيد، فاختلطت عليه مشاعر الأسى والفرحة، بل والعجب أيضا، ولكم كانت دهشته كبيرة حين أبصر بمقلتيه الاثنتين، وبتقزز، تلك المخلوقات العفنة التي كانت ترتدي تحت ستراتها قمصانا جديدة، وتربط أعناقها بأشرطة موشاة، أصحاب الأحذية الملمعة، من ذوي البطون المتكرشة، والخدود الملمعة.
رأى من مكانه الكيفية التي كانوا ينحرفون بها، جميعهم، عن طريق رشيد وصحبه، كأن بهم جربا أو مرضا يخشون عدواه، رافضين المساهمة لإنقاذ حياة ضعيفة ولو بالقدر الذي يتركه أحدهم عند نادلة ليغريها بكرمه.
عاد رشيد متوسطا بثلاثة من شبان الحي القصديري، مصفد الجبين بالعرق، فاغرا عن ابتسامة وشفتين جافتين، فوضع السطل مملوءا إلى نصفه بالمال، وبقي إدريس جالسا في كرسيه، حائرا، مذهولا، معقود اللسان.
شكل رشيد ومن معه ما يشبه اللجنة، فقصدوا بالسطل تاجر متلاشيات، ثم عادوا ومعهم ما يناهز الثلاثة ألاف درهم، فوجد إدريس نفسه حائرا؛ فيما إن كان من واجبه شكرهم، أو الاعتذار لهم عن الأحكام المسبقة التي كان قد بناها في حقهم. هُمْ أنفسهم لم يتركوا له فرصة لفعل أي شيء مما ساورته نفسه فيه.
في المساء، كانت غرفة السطح مكتظة عن آخرها بالزوار؛ جاؤوا ومعهم ما لذ وطاب، فأمسى أحمد ليلته تلك جذلا، ونام إدريس مرتاح البال، اللوحة هي الأخرى عادت إلى مسمارها بالحائط.
وهُما في هدأة الليل، أخبره أحمد أن شابة من الجيران قد خدمته بحفاوة حين كان غائبا في السوق، فاكتفى بأن طلب منه أن يرتاح.
صباح الاثنين، كانوا في المختبر؛ أحمد وإدريس ورشيد والثلاثة الآخرون. وبعد مدة قصيرة على خروج أحمد من قاعة الأشعة، قدم لهم المسؤول على الاستقبال صور الأشعة في مغلف، وما هي إلا أن دار أطول عقارب الساعة دورة كاملة، حتى كان أحمد وإدريس معا عند الطبيب الذي يتابع حالته في مستشفى العاصمة، والآخرون في قاعة الاستقبال منتظرين.
عندما خرجا تلقفوهما بالأيد والأسئلة؛ بدا إدريس منكس الرأس وشاحب الوجه، وفي غفلة من أحمد غمزهم وهو يعض على شفته السفلى وواضعا سبابته على طول أنفه راجيا منهم ألا يضايقوه بالأسئلة، ولكن لسان أحمد كان ينساب كالجدول:
ــ توقعت ذلك، لست خائفا، والله وحده قادر على تصريف قضائه على عباده بالشكل الذي يرضيه.
في الوقت الذي كان أحمد بين أكتاف اثنين من أبناء الحي، انفرد إدريس برشيد والثالث معهما فأخبرهما هامسا:
ــ إنه السرطان، وفي مرحلة متقدمة، نسأل الله العافية، وقد أخبرني الطبيب على انفراد، وذلك سبب تأخري بالخروج قليلا، أن الحالة شبه ميؤوس منها، وأن وضع أحمد الصحي لا يُمَكِّنه من تحمل العلاج الكيماوي حاليا؛ ولذلك، فقد طلب منا أن نعطيه هذا الدواء، وأخرج ورقة تلقفها رشيد من يده وهو لا يزال قائلا:
ــ هذا الدواء ـ حسب الطبيب ــ بالإضافة إلى تغذية خاصة سيقوي بنيته، ويخفف من وقع الألم عليه، لاسيما ليلا.
لطالما أصر إدريس على أحمد أن يرافقه إلى البيت في السطح وهم في الطريق إلى الحي، لكن الأخير كان مصرا على العودة إلى بيته عند مي طامو، ونزولا عند رغبته، اتفق الجميع على خدمته، مناوبة، وبدت العجوز سعيدة جدا بعودته، فرفضت أخذ الإيجار وهي تقول:
ــ أحمد ولدي، والبيت بيته.
قدم لها رشيد كيسا محملا بالدواء تكلف بشرائه من ماله الخاص موضحا لها كيفية أخذه وساعة تناول كل دواء على حدة، ثم أخبروها كل شيء، عدا عن نوع مرضه.
طغت على الأجواء حميمية قل نظيرها، ولا قدرة للغة على وصفها بدقة، وكذلك استمرت الأيام الموالية، لكن، ومع مرور الأيام، فقد أحمد الشهية، فحتى الدواء الذي هو دواء، ما كان يستسيغ بلعه إلا ويتقيؤه قبل أن يستقر في معدته، فزادت حدة آلامه.
داوم إدريس على قضاء ساعات طويلة من الليل رفقته، طيلة الأيام الأخيرة، فلا يفارقه إلا بعد أن يحرص على أخذ أحمد دواءه، فتخف حدة سعاله، ويراود النوم عينيه. ربما حضر في بعض الليالي رشيد أو غيره، ولطالما آلمتهم تلك النوبات التي كان يدخلها صديقهم المريض؛ إذ يشتد سعاله حتى يتفتت كبده، ثم يخرج الدم مع بصاقه.
في تلك الليلة، الليلة المشؤومة، لم يستطع إدريس ترك صديقه، كانت حالته حرجة جدا، فقد انقطع منه الكلام، ورغم أن سعاله قد خف، إلا أن حشرجة رافقت تنفسه؛ ولما رآه يتنفس بصعوبة رفع رأسه متمهلا، وأسنده على ركبته. ثم، وفي حدود الواحدة صباحا، اشتد أنين أحمد، وبزغت عيناه، فكانت أنفاسه تتقطع بين الفينة والأخرى من الإجهاد، ولما بلغ به الألم المتفاقم مدى لم يتحمله، سارع إدريس إلى مي طامو فأيقظها، ثم خرج في طلب رشيد.
كانت ليلة مقمرة، من أشد الليالي ثقلا على الصدور، أخذوه في تاكسي صغير إلى طبيب خاص، ولما كانت عيادة الطبيب في فيلته، فإنه لم يتأخر في محاولة تقديم المساعدة، جاهد كثيرا من أجل إسعافه، لكن لا راد لأمر الله، دخل المسكين فترة راحة أبدية، آخذا سره معه؛ إذ أكد لهم الطبيب أن أكثر ما عجل بوفاة صديقهم لم يكن المرض، بل غصة في قلبه؛ ففي عينيه، كما في قبضة يديه المتشنجة رغبة في البوح والتعبير عما لا يعلمه إلا الله.
ارتأى إدريس أن يؤبن صديقه بالطريقة اللائقة، وأصرت أمي طامو أن تخرج الجثة من غرفته في بيتها؛ فنظفتها المسكينة وعيونها أغزر من الديمة الهتانة، ثم طيبتها بالعطر والرياحين، وهناك قضى ليلته الأخيرة مع شمعتين إلى الصباح، وفي خيمة نصبت أمام المنزل، أقيم العزاء لثلاث ليال تباعا.
بعد أيام، نُسي أحمد كأنه لم يكن، ودخل شقته وافد جديد، وعاد إدريس إلى سابق عهده في السوق عازما أن يغير حياته جذريا؛ فلم يقصر نشاطه التجاري على الصباح فقط، بل اشترى دراجة، وبها كان يقصد سويقات أخرى في أحياء سلا والرباط، كما أنه لم يقتصر في تجارته على الأحذية المستعملة فقط، بل صار يتاجر في كل ما وصلته يداه، وبالإضافة إلى هذا كله، انقطع لقراءة الكتب في أوقات فراغه كلها، وابتعد عن مزالق الهاوية فلم يقرب دور الدعارة يوما، ولا أخر صلاة عن ميقاتها وتحت أي ظرف.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بحب التمثيل من وأن


.. كل يوم - دينا فؤاد لخالد أبو بكر: الفنان نور الشريف تابعني ك




.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: لحد النهاردة الجمهور بيوقفن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: كل ما أشتغل بحس بن




.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو